محمد سيد رصاص
في الثالث من أغسطس/آب 2010، انتخب مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمون في سوريا رياض الشقفة مراقباً عاماً إثر اجتماعٍ عقده المجلس في مدينة اسطنبول. وكان لافتاً أن تعقد أعلى هيئة قيادية في الجماعة، ذات التاريخ الصدامي الدموي مع السلطة، اجتماعاً في تركيا في وقتٍ كانت العلاقات بين أنقرة ودمشق متينة. كما أن انتخاب الشقفة أثار الاهتمام، وهو الذي عارض في العام السابق قرار مجلس الشورى تجميد العمل المعارض، والآتي من التنظيم المسلّح للجماعة الذي دخل في صدامٍ عنيف مع السلطة بين عامي 1979 و1982. بالإضافة إلى ذلك، حمل الاجتماع مضموناً آخر تمثّل في انتخاب فاروق طيفور نائباً للمراقب العام وحاتم الطبشي رئيساً لمجلس الشورى، وكلاهما من مدينة حماة، مثل الشقفة، ويشاركاه التشدد السياسي، بخلاف ما أوحى به المراقب العام المنتهية ولايته علي صدر الدين البيانوني الذي حاول خلال أربعة عشر عاماً قضاها في المنصب تصدير صورة جديدة للجماعة تظهرها بعيدة أونابذة للعنف والتطرف ومنفتحة على التيارات السياسية الأخرى، مغايرة لتلك التي قدمتها الجماعة في السبعينات والثمانينات.
هنا، لم يكن ممكناً قراءة هذا الحدث بمعزل عن العلاقات التركية-السورية. واعتبر الكثير من المراقبين أنه يدل على توترٍ ما في العلاقات، وربطوه بانفضاض الشراكة التركية-السورية-السعودية في دعم قائمة «العراقية» بزعامة أياد علاوي ضد قائمة «دولة القانون» بزعامة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي المدعوم من ايران في انتخابات البرلمان العراقي في مارس/آذار 2010. حينها، تعاونت دمشق مع طهران من أجل التجديد للمالكي وتخلّت عن دعم علاوي الذي حلت قائمته في المركز الأول. كما قرأ مراقبون الحدث بأنه يعبّر عن استياء رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من عدم استجابة السلطة السورية لوساطته من أجل المصالحة مع الجماعة التي تشترك مع حزبه بروابط عديدة، وبأنه لايمانع في إبراز وجهها الخشن.
على كل حال، كان لافتاً سعي أنقرة، بعد الانفجار المجتمعي السوري في مارس/آذار 2011، إجراء مصالحة بين السلطة والجماعة على وقع ما قرأه أردوغان أنه مأزق أو وضع صعب تعيشه السلطة السورية يمكن أن يجعلها ترضخ أو تستجيب للمطلب التركي ذاك. وعملياً لم يبدأ التصعيد التركي ضد السلطة السورية إلا بعد فشل زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو إلى دمشق في التاسع من أغسطس/آب 2011. واعتُبر هذا اليوم بداية صفحة جديدة في العلاقات الثنائية طوت صفحة التقارب الذي بدأ في 2004. إذ منذ ذلك اليوم، بدأت تركيا في الدعوة إلى إسقاط السلطة السورية في انسجامٍ مع توجه أميركي أعلنه الرئيس باراك أوباما في 18 أغسطس/آب حينما دعا الرئيس السوري بشار الأسد إلى التنحي عن منصبه. وكانت هناك الكثير من المؤشرات من أن أردوغان سيتولى في سوريا دور الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في ليبيا حينما أطاحت حملة حلف الناتو سلطة الرئيس معمر القذافي، في ظل ما أسماه أوباما «قيادة أميركية من الخلف»، على أن يكون هناك واجهة سورية محلية تكون غطاءً للتدخل العسكري الخارجي على غار المجلس الوطني الانتقالي برئاسة مصطفى عبدالجليل.
في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2011، ولد المجلس الوطني السوري في اسطنبول (تلاه الائتلاف الوطني في الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2012). وكانت هناك هيمنة واضحة لجماعة الإخوان المسلمون، مع مشاركة ليبرالية منحها تواجد «إعلان دمشق» وواجهة علمانية عبر برهان غليون، الذي كان يهيأ نفسه ليكون «مصطفى عبدالجليل السوري» حينما صرّح خلال المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه ولادة المجلس إن «أي تدخل سيحصل، مهما كان نوعه وشكله، ينبغي أن يكون بالاتفاق مع المجلس الوطني الذي يمثل الشعب السوري، وبالتعاون مع القوى الدولية»، بحسب ما نشر في صحيفة «الحياة» اللندنية في اليوم التالي. وربما كان سمير نشّار الأوضح بين قادة المجلس في تفضيل السيناريو الليبي في سوريا حينما تساءل لمحطة «الجزيرة»: «ماذا كان سيحل بمدينة بنغازي لو لم يتحرك حلف الأطلسي؟ على الأمم المتحدة أن تحدد الوسائل والأدوات التي توقف عمليات القتل، سواء كان ذلك في شكل مالي أوحتى عسكري إذا تطلب الأمر ذلك». وهنا، يبدو أن قادة المجلس، أوحتى داعميهم في أنقرة وواشنطن وباريس والدوحة، كانوا يتوقعون، وفق ماقاله نشّار، تكرار السيناريو الليبي في سوريا عبر غطاءٍ من مجلس الأمن الدولي. ولكن في اليوم التالي لتصريحاته، لم تتخذ روسيا موقف الممتنع عن التصويت كما فعلت في ليبيا قبل شهور، ما سمح بغطاءٍ أممي لعملية «الناتو»، بل مارست حق الفيتو بشأن قرارٍ يخص سوريا. وهناك معلوماتٍ كثيرة أن ذلك الفيتو منع عمليةً عسكرية تركية للتدخل في سوريا كانت ستتم تحت غطاء «حظر الطيران» وإنشاء «مناطق آمنة» من أجل «حماية المدنيين». وكان لافتاً وصول قطع حربية روسية من أسطول البحر الأسود إلى مرفأ طرطوس في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، ليس فقط لتبيان مدى الاستقطاب الدولي بشأن الأزمة السورية التي تحولت إلى مركّبة داخلية-إقليمية، بل لإظهار استعداد موسكو لمواجهة أو ردع أي تدخلٍ عسكري خارجي ضد السلطة السورية.
كان المجلس الوطني السوري ذروة تركية كبرى لاستقطاب قوى في المعارضة السورية من أجل فرض مشهدٍ سوري جديد تصبح فيه أنقرة مسيطرة على سلطة سورية جديدة بما يشبه المشهد العراقي ما بعد صدام حسين حينما أصبحت طهران مسيطرة على السلطة العراقية الجديدة عبر قوى سياسية إسلامية شيعية موالية لها أبرزها حزب «الدعوة الاسلامية» بقيادة المالكي. ولا بد من التذكر أنه بالتوازي مع إعلان المجلس الوطني في أكتوبر/تشرين الأول 2011، اتخذت جماعة الإخوان المسلمون قراراً عبر مجلس الشورى بحمل السلاح. وكان طيفور المنسّق عبر سيطرته على الأموال التي تأتي من قطر من أجل تأطير الضباط والعسكريين المنشقين في كتائب مسلحة تحمل أسماءً إسلامية. ومع أسلمة العمل المعارض وتشجيع المجلس الوطني في اسطنبول العمل المسلّح بالتوازي مع رفضه التسويات السياسية مثل مبادرة الجامعة العربية في نوفمبر/تشرين الثاني 2011 وبيان جنيف في يونيو/حزيران 2012، مال المجلس إلى طلب التدخل العسكري الخارجي الذي كان ليتم عبر تركيا إن تعذّر من خلال حلف الناتو بعد الفيتو الروسي، وفق ما طلب الشقفة في مؤتمرٍ صحافي في اسطنبول في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2011.
لم تنجح خطة أردوغان، التي رعاها أوباما خلال شهر العسل الأميركي-التركي في عامي 2011 و2012، والذي أفرز وصول الإسلاميين إلى السلطة في مصر وتونس ومشاركتهم بها في ليبيا واليمن وتأييد واشنطن المسعى التركي إيصال الإسلاميين إلى السلطة في دمشق. بدأ التباعد الأميركي مع الأتراك نتيجة تغيير النظرة الأميركية للحركة الإسلامية على خلفية قتل إسلاميين السفير الأميركي في ليبيا في 11 سبتمبر/أيلول 2012، واكتشاف الفرنسيين خلال عملياتهم العسكرية في مالي مطلع 2013 أن أسلحة الإسلاميين هناك وصلتهم من نظرائهم الليبيين الذين ساعدتهم واشنطن وباريس على الإطاحة بالقذافي.
وتُرجم التباعد الأميركي- التركي بتولي جون كيري الخارجية الأميركية مطلع 2013 بدلاً من هيلاري كلينتون، لتتتخلى واشنطن عن طرح إسقاط النظام السوري، واستتبعت ذلك باتفاق كيري-لافروف في مايو/آيار 2013، بما أوحى بتسليم واشنطن الملف السوري للروس ونزعه من أيدي أنقرة. وترافق ذلك مع توترٍ بين البلدين العضوين في حلف الناتو وتأييد واشنطن انتزاع الفريق عبدالفتاح السيسي الحكم من الإسلاميين المصريين في يوليو/تموز 2013. عملياً، لم تعد واشنطن وأنقرة على نفس الموجة منذ اتفاق كيري-لافروف، وهو ما تُرجم أيضاً بتباعدهما حيال مواجهة صعود تنظيم داعش في 2014 في الساحة السورية، وتقارب أنقرة مع الكرملين منذ قمة أردوغان-بوتين في موسكو في أغسطس/آب 2016. واتجهت واشنطن بدورها نحو التعاون مع وحدات حماية الشعب، التي تعتبرها تركيا عدواً، لمواجهة تنظيم داعش. وكانت «الوحدات» القوة السورية الوحيدة التي أبدت استعدادها محاربته، لتهزمه لاحقاً في معركة كوباني
عملياً، ومنذ صيف 2016، اتجهت أنقرة نحو تغيير استراتيجيتها حيال المعارضة السورية. أولاً، عبر تقليص الأهداف التركية من الملف السوري، إذ لم تعد أنقرة، بعد أغسطس/آب 2016، تطرح إسقاط السلطة السورية، بل تسعى إلى تحقيق أهدافٍ عسكرية- سياسية محددة جغرافياً في الشمال السوري تتمثل في ضرب ما تراه عدوها: الإدارة الذاتية المعلنة منذ 2014 في الشمال والشمال الشرقي السوري، وقوات سوريا الديمقراطية، الذراع العسكري لمجلس سوريا الديمقراطية المعلَن في 2015. ومن الواضح أن الأتراك يستخدمون المعارضة المسلحة التابعة لهم وأذرعها السياسية، مثل الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف، كغطاء محلي للسيطرة على الأراضي السورية التي وضعوا يدهم عليها بالتعاون مع الروس، كما في خط جرابلس-إعزاز في 2016 وعفرين في 2018 وخط رأس العين (سري كانييه)-تل أبيض في 2019.
ويبدو أن أردوغان لم يتمكن في الشهور الماضية من انتزاع ضوء أخضر من موسكو لتنفيذ عملياتٍ عسكرية تركية جديدة. لذلك، رشحت معلومات بقبوله اقتراحاً روسياً بإبعاد موسكو قوات سوريا الديمقراطية عن الحدود التركية-السورية مسافة 32 كيلومتراً مقابل جلب أنقرة المعارضة السورية الموالية لها بشقيها العسكري والسياسي إلى طاولة التفاوض مع السلطة السورية للوصول إلى تطبيقٍ للقرار الأممي 2254 تحت رعاية روسية-تركية-إيرانية، تستثني الأمم المتحدة ومن دون مشاركة واشنطن.