هدية ليفنت
تبدو وزارة الخارجية التركية غير راغبة في التخلّي عن لغة الحرب لا في مرحلة هدّ الجسور ولا بنائها. بل أكثر من ذلك، فإن لغة الحرب هذه مترسخّة لدرجة باتت فيها مضامين البيانات الرسمية تتعارض مع بعضها البعض.
على سبيل المثال، هناك حديث عن ضرورة «بناء جسور مع دمشق» مع التأكيد على «عدم وجود أطماع لتركيا في الأراضي السورية»، ولكن لا تزال أعمال، من قبيل تعيين حاكم في الأراضي السورية بشكل رسمي أو افتتاح المدارس، مستمرة. تصدر تصريحات بعدم وجود نهج لدى تركيا قائم على الإطاحة «برئيس النظام السوري بشار الأسد»، لكن لبّت تركيا احتياجات ورواتب عشرات الآلاف من عناصر الميليشيات المسلّحة على مدى سنوات، فضلاً عن التدريب العسكري.
ومن خلال البيانات الرسمية والصحافة والأقلام المقربة من الحكومة، يتّضح العزم على إحلال السلام، أو على الأقل بناء الجسور بين أنقرة ودمشق. لكن، عندما ننظر إلى التفاصيل، يتبيّن لنا أن هذه المبادرة تأتي تحت عناوين من قبيل «التحالف القسري ضد العدو المشترك»، و«العملية العسكرية كبادرة سلام». بمعنى آخر، يبدو من غير المرجح أن تقيم أنقرة علاقات مباشرة مع دمشق، من أجل القضايا التي تهم الجانبين، عبر الطرق الدبلوماسية.
أشارت دمشق إلى أنقرة بحلّ بما يخص حزب العمال الكردستاني قائلةً «إذا كانت المشكلة في حزب العمال الكردستاني، فهناك اتّفاق أضنة». لكن، بحسب ما قرأت في الصحافة والبيانات الرسمية في الأسبوع الماضي، قد يكون هذا الاتفاق بداية لأزمة جديدة بدلاً من أن يكون مدخلاً للسلام بين الجانبين.
هناك نسختان من اتفاقية أضنة. في عام 2010، تم توسيع الاتفاقية الأولى التي وقعت في 1998 بإضافات جديدة. في الإصدار الجديد، على الرغم من السماح لتركيا بالدخول إلى الأراضي السورية لمسافة تصل إلى خمسة كيلومترات، نصت الاتفاقية على ضرورة الحفاظ على حقوق الجانب السوري أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يتفق الجانبان على تعريفات «الإرهاب، الإرهابي، الجماعة الإرهابية». الأزمة المحتملة بين الجانبين يمكن أن تبدأ من هنا.
بحسب أنقرة، فإن الإدارة الذاتية في شمال سوريا وشرق الفرات وجناحها المسلّح قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، يمثلان الجناح السياسي والمسلح لحزب العمال الكردستاني في سوريا. لكن دمشق لا ترى قوات سوريا الديمقراطية أو الإدارة الذاتية مثل أنقرة، إذ تدرك أنه على الرغم من أن الكرد السوريون هم الأساس الفكري للإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية إلى حد كبير، إلا أن مكوناتها الرئيسية هم العرب والآشوريون والأرمن والمسيحيون والمسلمون. باختصار، تعرف دمشق أن مكوناتها هي من الهياكل الدينية والعرقية التي تعيش في تلك المنطقة.
وعلى الرغم من أن دمشق غير مرتاحة لبعض سياسات هذه الهياكل، وخاصةً علاقاتها مع الولايات المتحدة، إلا أنها لم تطلق رسمياً على قوات سوريا الديمقراطية أو الإدارة الذاتية تسمية الإرهابي، لأنها تدرك أن الكرد في شمال البلاد لم ينقلوا من أماكن أخرى، بل هم سكان المنطقة ويقاتلون من أجل الهوية السياسية.
وبحسب دمشق، فإن هذه الأجنحة المسلحة والسياسية تحمي على الأقل جزءاً من الحدود الشمالية للبلاد من داعش. بالإضافة إلى ذلك، وبينما استمرت الحرب الساخنة بكل عنفها، دعمت تلك الأجنحة الجيش السوري بشكلٍ غير مباشر من خلال عدم فتح جبهة ضد دمشق.
هناك توترات بين دمشق والإدارة الذاتية على موارد اقتصادية مهمة مثل الحبوب والنفط وبعض عائدات الجمارك. لكن بالنسبة إلى دمشق، فإن المفاوضات المستمرة بشأن المناطق والموارد التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية أكثر فائدةً من الحرب المفتوحة.
في السنوات الأخيرة، ترى دمشق أن الكرد قاموا بإنشاء نظام، رغم انتكاساته، يمكن أن يشكّل نموذجاً قابلاً للتطبيق في أجزاء أخرى من البلاد من خلال اتخاذ ترتيبات يمكن مناقشتها لاحقاً.
هناك تواجدٌ لحزب العمال الكردستاني في (قسد) وشرق الفرات عموماً. لكن هذا لا يغير حقيقة أن الهياكل المكونة من الكرد والعرب وبقية مكونات المنطقة حملوا السلاح لحماية أنفسهم. وحتى اليوم، لم يؤخذ في الحسبان أن ملايين الناس حملوا السلاح، وأن كافة الجماعات العرقية والدينية أضحت جنوداً لحماية مناطقها، في حين أن هذه الحقائق يتم تشويهها في تركيا. هنالك العديد من طلاب الجامعات الذين تركوا دراستهم والتحقوا بوحدات حماية الشعب، التي سبقت قوات سوريا الديمقراطية للدفاع عن نفسهم. وهنالك أيضاً شبان لم يجدوا عملاً أو حقلاً يزرعونه بسبب الحرب، والأهم من ذلك، هنالك من حمل السلاح لحماية نفسه وأقاربه.
لا ينبغي أن تنسينا السنوات الماضية خلفية الأحداث والتطورات، لأن محاولات التصحيح المبنية على أسس مشوّهة تؤدي إلى أخطاء في النتيجة النهائية. ينبغي كذلك أن يؤخذ في الاعتبار نهج أنقرة تجاه الشخصيات المهمة في شمال سوريا، التي أغرقها داعش وقبله جبهة النصرة في الدماء. مثلاً، لو وافق الرئيس المشترك لحزب الإتحاد الديمقراطي صالح مسلّم على عرض أنقرة انضمام الكرد السوريين، الذين تسلّحوا بسرعة كبيرة لكونهم مسيّيسين، على الانضمام إلى الجيش السوري الحر، فربما كنا نتحدّث اليوم عن أمور مختلفة كلّياً.
وبينما تقول كل من دمشق والكرد السوريين، «هذه القضية مسألة داخلية» لا يبدو من العملي بالنسبة إلى أنقرة أن تتصرف بمقاربة «الحرب كشرط للسلام» بدلاً من محاولة قراءة الديناميكيات المحلية عن كثب.
تريد دمشق حل مشكلتها من خلال التفاوض الجاد أو الهادئ مع التشكيلات في شرقي الفرات خاصةً الكرد. لأنه، على عكس أنقرة، تقول دمشق إن «الكرد سوريون والمشكلة سورية». حتى عام 2011، كان موقف دمشق وسياساتها تجاه مطالب الكرد قاسياً للغاية. لهذا السبب، فإن الرأي القائل بأن التفاوض هو أولوية من أجل عدم ارتكاب نفس الخطأ وعدم تحويل النضال المحلي من أجل الحقوق إلى كفاح إقليمي مسلح، هو السائد اليوم.
باختصار، فإن اعتبار إشارة دمشق إلى أنقرة بشأن اتفاقية أضنة بمثابة ضوء أخضر لعملية عسكرية جديدة، يفتح الباب أمام خطأ جديد.
هنالك العديد من الحلول التي تم اتباعها من قبل، مثل تمركز الجيش السوري على بعد 10 كيلومترات من الحدود التركية، أو تشكيل قيادة مشتركة بين الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية. قد تؤدي هذه الحلول إلى إفشال محاولات تركيا تنفيذ عملية ضد حزب العمال الكردستاني في سوريا.
علاوةً على ذلك، فإن محاولة تركيا حل مشكلة حزب العمال الكردستاني أو المشكلة الكردية على أراضي دولٍ أخرى نهج تمت تجربته لسنواتٍ ولكنه لم يسفر عن نتائج.
وبينما غيّرت تركيا سياستها في الشرق الأوسط وسوريا، يمكنها اتخاذ خطوات جديدة وبنّاءة أكثر تساهم في عملية التحول الديمقراطي. لكن يحب من أجل تحقيق ذلك، وقبل كل شيء، التخلّص من الرؤية التي تعتبر كل كردي تهديداً انفصالياً.
باختصار؛ أولاً، توجد ضرورة لإطلاق مبادرات حتى تتمكن تركيا من حل مشكلتها الكردية وحتى مشكلة حزب العمال الكردستاني من دون الحاجة إلى عبور الحدود. حل هذه المشكلة يمكن إعادة تأسيسه في أنقرة وطاولات المفاوضات التي جُرّبت من قبل وتم التضحية بها لاحقاً لصالح الانتخابات.
هذا بالطبع إن كان الهدف حل المشكلة بالفعل. هنالك مشاكل أكثر أهمية يجب حلها مع دمشق. مثل عشرات الآلاف من الجهاديين المحاصرين في إدلب وعشرات الآلاف من عناصر الميليشيات المسلّحة المدعومة من تركيا.
المصدر:صحيفة افرنسال