الحسكة – المركز الكردي للدراسات
اختتمت السبت الماضي أعمال منتدى المركز الكردي للدراسات، الذي انعقد تحت عنوان «سياسات الاحتلال والهيمنة التركية تهدد أمن واستقرار المنطقة، وتنعش الإرهاب» كمنصة للحوار والنقاش بشأن التحديات التي تواجهها سوريا والمنطقة ورفع التوصيات والمقترحات من أجل التغلّب عليها.
وعقد المنتدى في مدينة الحسكة بتاريخ 20 أغسطس/آب، وبمشاركة أكثر من 200 شخصية، ما بين رسمية وإعلامية وأكاديمية، فضلاً عن ممثلين للمجتمع المدني في الداخل والخارج. واستعرض المجتمعون التطورات السياسية والميدانية الراهنة في سوريا عامةً وشمال وشرق سوريا خاصةً، والمعوقات التي تواجه قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية والحلول الممكنة لمواجهة التحديات في ظل المتغيرات الدولية، لا سيما سياسة الحرب والهيمنة التركية ضد شمال شرق سوريا، وتداعياتها المباشرة على مكافحة الإرهاب والاستقرار الداخلي.
واستهل المنتدى أعماله بكلمة افتتاحية لمدير المركز الكردي للدراسات نواف خليل، عبر تقنية «زووم»، أوضح خلالها أهمية عقد المنتدى في الحسكة التي شهدت مؤخراً تمرداً من قبل عناصر تنظيم داعش في سجن الصناعة، توازياً الحرب التركية المستمرة ضد مناطق الإدارة الذاتية. وسلط خليل الضوء على الغرض الاساسي من المنتدى والذي يتجسد بضرورة «فهم مآرب وأهداف القوة الاحتلالية التركية الأردوغانية، التي تنتهج القتل والترويع والفوضى في منطقة يعيش فيها ملايين السوريين بمختلف مكوناتهم، ومئات آلاف النازحين، ويحتجز فيها أكثر من عشرة آلاف داعشي، يعتبرون من أعتى العناصر إجراماً وخطراً على المنطقة والعالم».
واستعرض مدير المركز الكردي للدراسات جملة من الأهداف التركية عبر الحملة على شمال شرق سوريا بصورة موجزة، حيث أشار إلى أن «مخاطر العدوان والاحتلال التركي جلية ووجودية في منطقة شمال شرق سوريا. فهي بالإضافة الى الاحتلال والضم والتتريك، تهدف إلى قتل وتشريد المواطنين والتهجير والتطهير العرقي والتغيير الديمغرافي وبث الفرقة وروح العداء بين أبناء الوطن الواحد». وأضاف «ناهيك عن الهدف الأردوغاني الأبرز في اطلاق سراح الإرهابيين المجرمين الدواعش، كما حصل في الهجوم على سجن الحسكة، والذي ثبت أنه تم بإيعاز ورعاية من الاستخبارات التركية». وعليه، طالب خليل أن يكون المنتدى بمثابة فرصة أمام الحاضرين من أجل فهم جذور بنية الدولة التركية القائمة على الإنكار والإبادة ضد المكونات المختلفة منذ تأسيس الجمهورية الحديثة عقب اتفاقية لوزان، خاصةً أن حزب العدالة والتنمية وبالتحالف مع المتشددين القوميين في الداخل والتنظيمات الإرهابية في الخارج، ماضٍ في تكريس سياسة الإبادة تلك بحق شمال شرق سوريا دون هوادة، الأمر الذي يستوجب من الحضور تسليط الضوء على كافة الجوانب والدوافع التي تقف خلف هذه السياسة العدوانية وفضح منظومتها الإعلامية والدعائية الفجة.
وختم خليل كلمته بعبارات تعكس آمال مكونات المنطقة قائلاً: «لا نريد التدخلات الغريبة والشاذة في منطقتنا، ونرفض وأن نتحول إلى بيادق في حروب أردوغان ومشاريعه الامبراطورية المتخيلة. ما نهدف إليه هو نظام يحمل ثقافة العيش المشترك والاحترام المتبادل بين المكونات المختلفة على قاعدة الاستقرار والأمان».
أمراض بنيوية مدمرة
عقب الكلمة الافتتاحية، باشر المنتدى عقد الجلسة الأولى تحت عنوان «التدخل التركي في سوريا والعراق»، إذ ألقى نائب الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي في الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا بدران جيا كرد كلمة تطرق فيها إلى بنية الدولة التركية المعاصرة. وشدد في مستهل كلمته على أن السياسة الخارجية التركية تصاغ على أساس رهابي وخوف من تهديدات وجودية لبنية وهوية الجمهورية التركية القومية التي ظهرت صيغتها منذ 100 عام.
وأرجع جيا كرد دوافع هذه الأمراض المدمرة في تركيبة العقل التركي السياسي إلى أزمة الهوية الشاذة منذ تأسيس الجمهورية التركية، مؤكداً أنها تنتهج سياساتها في الشرق الأوسط أو حتى مع إيران مدفوعة بهذا الرهاب والخوف من مخاطر غير موجودة أو متخيلة.
وأكد جيا كرد أن هذه الأزمة النفسية لا تقف عند تيار بعينه، منوهاً إلى أن «أغلبية الكتل والتيارات السياسية التركية اليمينة واليسارية والدينية والعلمانية التي تتبنى الصيغة القومية الاحادية، غير الديمقراطية التعددية، متفقة على عدم ايجاد حلول سياسية لأزمات المجتمع التركي وحل القضية الكردية». وأردف: «لكن الاختلاف بينها هو في أدوات التعامل مع الأزمة فقط»، موضحاً في الوقت نفسه أن «سياسات العدالة والتنمية والحركة القومية قائمة على التصعيد ومناهضة الكرد في المنطقة، أي أن سياستها الداخلية تعتمد على تعميق الأزمات والتجييش والحرب ضد الآخر المختلف».
وبعد انتهاء مداخلته، تلقى نائب الرئاسة المشتركة استفسارات من الحضور بشأن إمكانية تغيّر السياسة التركية، خاصةً فيما لو فازت المعارضة في الانتخابات التركية المقبلة. واستبعد جيا كرد حدوث تغيّر جذري ينهي سياسات الإنكار والرهان على القوة والبطش وفتح باب الحوار والحل السياسي فيما يتعلق بالقضية الكردية، لكنه أعرب عن اعتقاده بأن «مجيء المعارضة قد يؤدي إلى بدء مرحلة جديدة في تركيا تختلف فيها هوامش النضال السياسي، وقد تؤدي إلى تراجع التدخّلات التركية الخارجية في المنطقة وتحد من افتعال الأزمات الخارجية. وهذا يمكن أن يؤدي، في حال تفعيل القوة الديمقراطية دورها جيداً، إلى إحداث تغيّرات في الداخل التركي والمنطقة».
ورداً على سؤال بشأن موقع تركيا لدى صناع القرار في الغرب وحلف ناتو، خاصةً بعد تقارب أنقرة وموسكو، ذكّر جياكر بأن «حلف الشمال الأطلسي لا يزال بحاجة إلى تركيا لاستخدامها ضد روسيا، كما كان الحال في فترة الاتحاد السوفيتي». وأوضح أن الانعطافة التركية صوب موسكو ودمشق ستكون على حساب حقوق السوريين، قائلاً إن «السوريين في مناطق الاحتلال التركي هم أكثر من تعرّضوا للمقايضة على حقوقهم من قبل أنقرة، حيث تمت المقايضة بداية في مناطقهم في درعا والغوطة وغيرها ونقلوا للاستيطان في مناطق عفرين التي أرادت تركيا إحداث تغيير سكاني فيها. والآن المرحلة الأخيرة من المقايضات، التي كانت ولا تزال تهدف إلى تحقيق مصالح تركيا دون التطلع إلى رغبات وآمال هؤلاء».
واستطرد بأن «الهدف التركي يكمن في البحث عن حلول لمسألتين فقط: كيفية التخلص من اللاجئين السوريين في تركيا، وكيفية القضاء على التجربة الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، من دون أي اهتمام لموضوع الثورة السورية ومطالب الشعب السوري».
وبناء على ذلك، طالب جيا كرد السوريين بالوحدة والالتفاف حول القضية المحورية المتمثلة بكيفية ايجاد حل للأزمة السورية، باعتباره الخيار الوحيد لسد الطريق أمام خطط تقسيم سوريا أو تحويلها إلى دولة فاشلة محتلة ومخترقة من الغير، وتحويل السوريين الى أدوات تنفذ مشاريع الاخرين وتخوض حروبهم.
«اتفاقية أضنة 2»
من جهتها، حذّرت العضو المؤسس في الإدارة الذاتية لمقاطعة عفرين نورشان حسين من أن «اتفاقية أضنة 2» بين أنقرة ودمشق ستكون أشد وطأة وظلماً للكرد بشكلٍ خاص.
وفي ورقة حملت عنوان «الاتفاقيات والتفاهمات وحملات تركيا الاحتلالية على كل من سوريا والعراق»، قالت نورشان حسين، التي تعمل في مركز الاستشارات الدبلوماسية: «نحن على أعتاب تجديد اتفاقية أضنة، والتي كان الكرد الهدف الرئيسي منها»، موضحةً أن «أضنة1 سمحت لتركيا بالتوغل في الأراضي السورية لمسافة خمسة كيلومترات، بينما النسخة المجددة منها ستمنح أنقرة الحق بالتوغّل حتى عمق 30 كيلومتراً».
ورأت نورشان أن «منح مثل هذا الحق لأنقرة خطوة كبيرة جداً. وتركيز النظام على إدلب فقط والمطالبة بها دون غيرها مؤشر واضح على الرغبات الضمنية المتبادلة بين النظام السوري ونظيره التركي لضرب التجربة الديمقراطية للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا».
وقالت: «هناك مخطط خطير يجري استكمال فصوله بين النظامين في أنقرة ودمشق يستهدف الإدارة الذاتية والكرد، والواضح أن روسيا هي المسؤول والضامن لتنفيذ هذا المخطط».
وطالبت العضو المؤسس في الإدارة الذاتية لمقاطعة عفرين التحالف الدولي بلعب دور أبرز وأوضح ودعم الإدارة الذاتية سياسياً وميدانياً، وأن يتحمل مسؤولية ايقاف المسيّرات التركية والهجمات العشوائية التي تتعرض لها المنطقة. وقالت: «على التحالف الدولي إعلان وتأكيد وتبنّي موقف واضح من الاحتلال التركي».
وأنهت نورشان مداخلتها بالتأكيد أن «الحل الأمثل فيما يخص المطامع التركية هو التكاتف السوري ودعم مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطي».
الاقتصاد السياسي
وبعد جلسة استراحة، ركّزت الورقة التي قدّمها عضو جمعية العلوم الاقتصادية في سوريا د. أحمد يوسف على الاقتصاد السياسي وتحدّياته، وسبل التغلّب على العقبات التي تواجهها منطقة شمال وشرق سوريا في قطاع الاقتصاد وتأثيرات الحصار الاقتصادي على قطاعات التجارة والصناعة والأعمال وانعكاس ذلك سلباً على معيشة المواطنين.
ولفت يوسف في ورقته إلى قدرة المنطقة على تجاوز هذه التحدّيات، مستعرضاً تجربة مقاطعة عفرين الاقتصادية خلال فترة الحصار قبيل احتلالها، والتي شهدت ازدهاراً تجارياً وصناعياً وزراعياً كبيراً في فترة كانت غالبية المناطق السورية غارقة في أزمات الحرب وانعكاساتها الاقتصادية.
وذكّر يوسف في ورقته بخطوة “صنع في عفرين” قبيل الاحتلال كدلالة على امكانية دوران عجلة الانتاج حتى في ظل الحرب والحصار الاقتصادي، مشدداً على ضرورة انتهاج سياسات في شمال وشرق الفرات قائمة على الاكتفاء الذاتي وبناء الاقتصاد المجتمعي.
ولفت في الوقت نفسه إلى أن «الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بمساحتها البالغة 43 ألف كيلومترٍ مربعٍ قادرة على تجاوز هذه العقبات بحكم إمكانياتها الكبيرة، فهي تضم من 70 إلى 80 في المئة من الموارد النفطية السورية، وإن كانت لا تستغل حالياً إلا في حدودها الدنيا وبوسائل بدائية، وتعتبر محافظاتها الثلاث الرقة وديرالزور والحسكة السلّة الغذائية لسوريا».
كما تحدّث يوسف عن امكانية استعمال ورقة النفط كورقة رابحة لكسر الحصار الاقتصادي، خاصةً أنها مادة مطلوبة داخلياً وخارجياً، مطالباً باعتماد رؤية اقتصادية متكاملة وشاملة من قبل الإدارة الذاتية بالاعتماد على الميزات المذكورة.
بالمقابل، شددت عضوة القيادة العامة لوحدات حماية المرأة نوجين ديرك على أهمية تعزيز الجبهة الداخلية. ودعت سكان المنطقة إلى مساندة القوات العسكرية وتقديم الدعم المعنوي لها في معركتها الداخلية ضد الإرهاب، والخارجية في مواجهة تهديدات الاحتلال والتهجير التي تكررها أنقرة بشكل يومي من دون انقطاع.
شركاء المستقبل
من جانبه، شدد الباحث والأكاديمي السوري غسان إبراهيم من خلال ورقته على أهمية تجربة قوّات سوريا الديمقراطية التي تستحق التقدير والإشادة. وقال: «يكفي إنجازها المتمثّل بالقضاء على داعش كدلالة على هذا التقييم»، مضيفاً «هذه التجربة تستحق أن تتطور وتتوسع. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، عليها أن تمد يديها إلى الآخرين وتعتبرهم شركاء المستقبل، لأن ذلك سيؤدي إلى تبديد مبررات تركيا ويحد من إمكانية تدخلّ أنقرة تحت حجج تبعيّتها لمنظماتٍ خارجية».
وشدد إبراهيم على أن حاجة كافة السوريين إلى بعضهم البعض اليوم. ونوه إلى أن من يرفض مدّ يده إلى الآخر لن يجد أحداً يمد يده إليه، مؤكداً على مقولة «ننجو جميعاً أو نرحل فرادى».
بدوره، استعرض مدير الإعلام والعلاقات العامة في المنظمة الدولية لمكافحة الاتجار بالبشر وتهريب الأشخاص معتصم الحارث الضوي، من لندن، المخاطر التي تواجهها المنطقة والتحدّيات الناشئة عن التهديدات التركية وتأثيرها على مخاطر إحياء تنظيم داعش لخلاياه النائمة أو تجميع قواته التي تشتت بفضل نضال قوات سوريا الديمقراطية الذي قضى على التنظيم لكن لم ينهيه.
وعموماً، ركّزت مداخلات الحضور على أهمية تكاتف السوريين وتجمّعهم حول مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية، كأول مشروع ديمقراطي في سوريا، وتفعيل الضغوطات سواء على التحالف الدولي أو المجتمع الدولي من أجل إيقاف الهجمات التركية سواء تلك المنظّمة عبر العمليات العسكرية، أو العشوائية من خلال المسيّرات والمدفعية.
وطالب المشاركون توسيع دائرة الدراسات التحليلية التي يقوم بها المركز الكردي للدراسات والمراكز الأخرى المنتشرة في شمال شرق سوريا وخارجها بشأن التحدّيات الأمنية والعسكرية والتحوّلات السياسية والحصار والاقتصادي والبنية الاجتماعية لسكّان المنطقة وغيرها من المواضيع التي تم استعراضها خلال جلسات المنتدى بمحاوره الثلاثة التي شملت التدخل التركي في سوريا والعراق، والهيمنة الاقتصادية التركية في المنطقة، والهيمنة العسكرية التركية في المنطقة.
وأكدت معظم المداخلات ضرورة الانفتاح على مكوّنات غرب الفرات وبشكل خاص في المناطق الواقعة تحت الاحتلال التركي أو الخاضعة إلى سيطرة التنظيمات الراديكالية المتطرفة، وأهمية جذبها إلى تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية كوسيلة ناجعة من أجل إنهاء التدخلات الخارجية والحيلولة دون استخدام السوريين كأوراق لتحقيق مصالح الدول الفاعلة أو المتحكّمة بالملف السوري.
وفي الختام، خرج المنتدى بجملة من التوصيات من أهمها: المزيد من الضغط على التحالف والمجتمع الدولي لإيقاف الهجمات التركية، واستخدام ورقة النفط سياسياً لكسر الحصار الاقتصادي، واعتماد رؤية اقتصادية ثابتة مستدامة، والانفتاح على مكونات غرب الفرات بشكل أوسع، ودعم تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية.