فرهاد حمي
قبيل توجهه إلى دمشق في سبتمبر/أيلول المقبل، وفي مداخلة متلفزة مع محطة «روداو» الكردية، ردّد دوغو برنيجك، عرّاب ما يعرف بـ«المحور الأوراسي» وحليف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان غير الرسمي في الحكم،، فحوى بيان قمة طهران الأخيرة. وفحوى هذا البيان: ينبغي إخراج الولايات المتحدة من شمال شرق سوريا، بوصفها نظاماً إمبريالياً إلى جانب إسرائيل، وإزالة قوات سوريا الديمقراطية مع إدارتها الذاتية، وحل مسألة التنظيمات الإرهابية والفصائل العسكرية الموالية لتركيا في شمال سوريا، وإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. هذه الخطوات تستوجب، بحسب برنجيك، فتح أنقرة قنواتٍ دبلوماسية رسمية مع دمشق والمصالحة معها.
وفي الواقع، لا غرابة في سماع تصريحات كهذه تصدر من أفواه الأوراسيين الأتراك. فهم اعتادوا المطالبة، منذ تحسن العلاقات التركية-الروسية عقب الانقلاب الفاشل، على وجوب إقدام أردوغان على هذه الانعطافة المحورية، لا سيما أن الأخير كان يوسع نطاق نفوذه في الحكم من خلال ممارسة لعبة التوازن الكلاسيكي بين قطبي «الأطلسي» و«الأوراسي»، خوفاً من عواقب خياراته، سواءً من من موسكو أو من واشنطن. غير أنّ أردوغان، ومن خلال اتّباع سياسة حافة الهاوية في الملف السوري، وصل على ما يبدو إلى طريق اللاعودة.
يصف برنجيك خطوة أدروغان بشأن المصالحة مع النظام السوري بأنها ستغير خريطة النظام الدولي. ترجع هذه الرؤية والقناعة، لا شك، إلى عدة عوامل متداخلة، منها فشل أنقرة في الحصول على ضوء اخضر لتنفيذ عملية عسكرية جديدة في شمال شرق سوريا، وإيلاء قمة حلف الناتو المنعقدة في مدريد أهميةً للدور التركي بعد الحرب الأوكرانية، وشروط تركيا لانضمام كل من فنلندا والسويد إلى الحلف، فضلاً عن تأدية أنقرة دور الوساطة بين كييف وموسكو في ملفات عدة. وأدرك أردوغان محدودية خيارات الغرب حياله، ولم يعد يهاب من ردود أفعاله المنتظرة. وتالياً، وجد ضالته في الوصفة الأوراسية كأنجع خيار متوفر لمواصلة سياسة الإبادة الشاملة ضد الكرد واستمرار قبضته على السلطة عقب الانتخابات المقبلة.
بدا الرئيس التركي وفريقه في الحكم يجترون حرفياً مقولات الأوراسيين وتوجهاتهم السياسية بعد قمتي طهران وسوتشي، إذ رفعوا منسوب تصريحاتهم المطالبة بخروج القوات الأميركية من شرق الفرات، وفتح قنوات الحوار والمصالحة مع النظام السوري، فضلاً عن تصفية الإدارة الذاتية وفق سيناريوهات مخفية وعلنية بين العواصم الأربع «موسكو وطهران وأنقرة ودمشق». في المقابل، بحسب الرؤية الأوراسية أيضاً، يجب أن يكف أردوغان عن استثمار ورقة عناصر الميليشيات الإسلامية بكافة أشكالها وفروعها في سوريا، الأمر الذي يفرض على أنقرة أن تقامر بمصيرهم لكي تقضي على الإدارة الذاتية. وهي نصيحة قدمها له صديقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضاً، وسط نشوة برنجيك ومناصريه، وإشادة زعيم حزب الحركة القومية دولت باهجلي بهذه «الدفعة القوية» من أجل تسوية الملف السوري.
الرؤية الأوراسية
تبعاً لذلك، تسيّدت الرؤية الأوراسية إلى حد ما المواقف السياسة الخارجية التركية. ويمكن اختصار الأولويات الاستراتيجية الأوراسية بعدة محاور، من أهمها: إعادة تموضع لمكانة تركيا في نظام عالمي متعدد الاقطاب، والتحرر من التبعية الغربية وحلف الناتو، وتطوير علاقات اقتصادية وأمنية مع الدول الخليجية والكتلة الأوراسية وإسرائيل من أجل تخفيف حدة التدهور الاقتصادي في البلاد، وتطوير الصناعة العسكرية المحلية، واستمالة موسكو وإسرائيل ودمشق لدعم مشروع أنقرة الاستعماري المسمى «الوطن الأزرق» في البحر المتوسط بغرض فرض توازن مع الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي واليونان. وكذلك، التعاون مع جميع الأطراف الإقليمية، وفي مقدمتها طهران ودمشق وحتى إسرائيل، من أجل خنق التطلعات الكردية المشروعة في سوريا. هذه الأولويات تكاد تكون مشتركة بين أردوغان وباهجلي وبرنجيك.
ومع ذلك، ثمة مواقف متباينة تظهر بين فينة وأخرى بين الأجنحة الثلاثة حيال هذه الأهداف المرسومة. فقد تصطدم أحياناً المناشدة الأوراسية بضرورة خروج تركيا من حلف الناتو بعقبة سياسة التوازن الكلاسيكي التي يجيدها حزب العدالة والتنمية. في حين تكنّ هذه الأطراف الثلاثة، ولو خطابياً، عداءً سافراً للقومية الصهيونية، لكنها تدرك في نفس الوقت قيمة إسرائيل في المنطقة، وما قد يلعبه اللوبي اليهودي في واشنطن من دورٍ لصالح مطامع الأتراك. مؤخراً على سبيل المثال، غدا المبرر الرئيسي لإعادة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، القضاء على الإدارة الذاتية «وجودياً وثقافياً»، والحد من التصرفات اليونانية في البحر المتوسط. لكن هذه الاهداف والمقاربات ليست خالية من تحدياتٍ داخلية، إذ أنه ليس واضحاً حتى الآن فيما إذا كان الجيش سيؤازر مواقف الكتلة الأوراسية والانعطافة الأردوغانية، إضافةً إلى ضبابية مواقف المعارضة التركية.
إيديولوجياً، يؤمن اليمين الحاكم في تركيا بفرضية صامويل هنتتغتون القائلة بـ«الغرب ضد بقية العالم». وعليه، يشترك كل من بوتين وأردوغان وأتباع الأوراسية بوجوب إعادة مكانة الدولة وفق قاعدة السيادة المستقلة. عملياً، تعتبر هذه بدعة للمستبدين على الدوام. فالتسلسل الهرمي في بنية النظام الدولي غالباً ما يندرج في خانة المركز والمحيط والأطراف الهامشية. وحتى لو تغيّر محور الهيمنة من الغرب صوب الشرق، ستبقى هذه القاعدة سارية. وتحاول روسيا البوتينية من خلال الحرب الأوكرانية توسيع نطاق نفوذها الاستعماري المهمين، وربط مناطق جديدة، أمنياً واقتصادياً، داخل فلكها المركزي. وهذا ينطبق على التوسع الصيني، وكذلك الإيراني والتركي والإسرائيلي في الشرق الأوسط.
بيد أنّ حكومة اليمين، من خلال تبني الرؤية الأوراسية، وتسويق خرافة «الاستقلال الثاني» بعد انقضاء مئوية لوزان والنظام متعدد الاقطاب، تتلاعب كما العادة بالحقائق التاريخية والحاضرة. ويكمن مغزى توجهاتها بكونها أكثر انسجاماً مع البنية الفاشية القابضة على السلطة، ومتماهية مع سياسة الإبادة الجماعية بحق الكرد. وإن كان ثمة درس يراد استنباطه من تاريخ الجرائم بحق الشعوب في تركيا، فإنه يكمن في سياسة تقديم تنازلات لصالح قوى خارجية على حساب اجماعٍ وطني مشترك، مقابل حفظ الطغمة الحاكمة مكانتها في السلطة عبر تصفية القوميات المختلفة. ومشهد اليوم في أنقرة ليس ببعيدٍ عن هذا العرف التاريخي. ومن غير المرجح، بحسب الأوراسيين، أن تتكلف أنقرة كثيراً من خلال محاولاتها تطبيع العلاقات مع دمشق، عقب اندلاع أزمة أوكرانيا، طالما أن الفوضى والارتباك البنيوي يجتاحان المنظومة الدولية، وسط انغلاق المواقف الغربية حيال تركيا بالعقلية الكلاسيكية العائدة إلى الحرب الباردة.
المصالحة وارتداداتها
من حيث المبدأ، يأمل مناصرو التطبيع مع دمشق أن يجني أردوغان عدة مكاسب في آن معاً، منها، التفاهم مع دمشق على بروتوكول لإعادة ملايين اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا إلى بلادهم، وتجديد اتفاقية أضنة لإنشاء جبهة مشتركة ضد قوات سوريا الديمقراطية. ومن المرجح أن يطلب أردوغان أيضاً من دمشق الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية بغية تعزيز مطالبه في «الوطن الأزرق» أمام المطالب اليونانية والغربية عموماً. لكن من العسير تحقيق ذلك، إلاّ من خلال دعم تركيا الكامل لإعادة بسط السيادة السورية على جميع أراضيها، بما في ذلك المناطق الواقعة حالياً تحت الاحتلال التركي. وهنا يجدر أنْ نتساءل هل سيكون أردوغان بقادرٍ على تصفية ملف الفصائل الجهادية المتطرفة من دون ارتدادات عكسية؟ سيكون هذا السؤال مفتوحاً على احتمالات عدة.
فعلياً، عكست تحركات أردوغان الأرواسية والأطلسية في الأشهر الماضية حجم المخاطر في شمال شرق سوريا. فقد كانت قمة سوتشي ،على وجه التحديد، بمثابة تقدم جديد في التعاون الروسي التركي. فبينما كانت وسائل الإعلام الغربية، تسلط الضوء على الخطر المتزايد من أن تتعرض الدولة العضو في الناتو إلى انتقام الغرب إذا ما ساعدت روسيا على تجنب العقوبات المفروضة عليها من الدول الغربية، كانت الطائرات المسيّرة والمدافع التركية تشن هجمات متواصلة وعشوائية على مناطق الإدارية الذاتية.
من الناحية العسكرية، ليست هناك إشارات من قبل التحالف الدولي وموسكو لشجب المسيّرات التركية إلى هذه اللحظة. غالباً، ستكون هذه العمليات مدرجة على أجندة أنقرة على الدوام، علماً أن حرب المسيرّات التركية تعد بمثابة استراتيجية حربية استنزافية ضد شمال شرق سوريا. وعل الرغم من ذلك، ترغب أنقرة محو وجود الإدارة الذاتية من حيث النطاق السكاني والسياسي والتنظيمي عبر استغلال المناخ الدولي.
الوصفة الأوراسية
بدهياً، تستدعي هذه المقاربة وجود خطط وسيناريوهات عملية من أجل إنجاز هذه الأهداف. فعلى الرغم من تداول وسائل الإعلام بعض الأهداف العامة مسنودةً بجملة من التكهنات والتوقعات المحتملة، فإن استحضار سيناريوهات من مناصري أوراسيا يبدو أمراً أكثر انسجاماً مع مواقف أردوغان الأخيرة. فقد سلط محمد برنجيك، نجل دوغو برنجيك، في مقال، الضوء على الخطة الأوراسية حيال شمال شرق سوريا. وأشار في متن مقالته: «في هذه المرحلة، يتبادر إلى الأذهان أهمية مسألة العمليات الخارجية للقوات المسلحة التركية، خاصةً أن إيران رفضت العملية العسكرية صراحةً، كونها ستسبب في إخلال التوازن السوري. بينما لم تبدي روسيا على الجانب الآخر معارضتها بشكل أساسي. بل أرسلت موسكو إشارات تأييدٍ ضمنياً. لكن كلا الطرفين يتبعان تكتيكات مختلفة مفادها: تخويف حزب الاتحاد الديمقراطي -الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية- بعملية عسكرية تركية، وإجباره على تسليم الأراضي إلى دمشق من دون إراقة الدماء».
وأعرب برنيجيك عن رؤيته بالقول إن «القضاء النهائي على قوات حزب الاتحاد الديمقراطي -أي قوات سوريا الديمقراطية- لن يكون ممكناً من دون استخدام السلاح. لا يمكن للمفاوضات والمساومات الدبلوماسية إلا إجبار الخصم على التراجع إلى حد ما. لذلك، لا يمكن تجاهل دور وعمل القوات المسلحة التركية في هذه العملية. ولهذا الدور أيضاً أهميةً حاسمة فيما يتعلق بطرد القوات الأميركية من سوريا. باختصار، لا يمكن تحقيق وحدة الأراضي السورية بالكامل من دون القوات المسلحة التركية».
وبحسب برنجيك، ستكون من مصلحة حكومة دمشق أن يقوم الجيش التركي بالقضاء على قوات سوريا الديمقراطية. كما تشترك حكومة أنقرة مع موسكو وطهران بوجوب طرد القوات الأميركية من شرق سوريا. لذا، يستدعي هذا السيناريو بصورة مسبقة أن يُقدم أردوغان على فتح قنوات دبلوماسية مع الحكومة السورية واتخاذ إجراءات مشتركة. وتالياً، ضرورة التخلي عن لعبة المناورة بين المحور الأطلسي والأوراسي. مرةً أخرى، هل سيرمي أردوغان بكامل أوراقه في سلة بوتين والأوراسيين الأتراك بصورة قطعية من دون ترك مساحة للمناورة؟
بالمثل، واسترسالاً للخطة الأوراسية، من المرجح أن موسكو ستدعم العملية العسكرية التركية، في حال شدد أردوغان على العبارات التالية: «سنزيل الإرهاب الانفصالي، ويمكن للجيش التركي أن يتجاوز 30 كيلومتراً من الحدود فقط لضمان سلامة أراضي سوريا. كما أن الجيش التركي لن يكون هناك إلا بشكل مؤقت، ونحن مستعدون للقيام بذلك بالتنسيق مع دمشق».
وبدوره، يلفت رئيس الاستخبارات التركية السابق إسماعيل حقي بكين إلى أن ما يجمع المحور الأوراسي عموماً هو التعاون ضد الولايات المتحدة، لافتاً إلى أن الهدف الرئيسي ينبغي أن يكون واشنطن، لأن الأخيرة تحاول تدمير الدول القومية. لهذا السبب، يجب أن تتعاون تركيا والعراق وسوريا وروسيا وإيران من أجل إزالة قوات سوريا الديمقراطية ومعها نفوذ التحالف الدولي في شرق الفرات.
وسبق لبكين أن أشار إلى عدم شرعية مطالب تركيا بشأن الوضع السوري، لا سيما أن أنقرة كانت تطالب بمنح «الجيش الوطني السوري» مكانة دستورية، معتبراً أنه لا يمكن صياغة الدستور السوري خارج سوريا، ناهيك أن أنقرة كانت تطالب بوجود جيشين وسلطتين منفصلتين داخل الدولة. وهذه الفكرة، بحسب بكين، تقف بالضد من صيغة وحدة البلاد. وهذا يعني في نهاية المطاف ضرورة رفع الغطاء عن المعارضة السورية في المناطق المحتلة.
وجاءت تصريحات كل من أردوغان ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو الأخيرة بمثابة التأكيد على الرؤية الأوراسية، الأمر الذي فجر موجة من الاستياء بين القوى الشعبية والفصائل المسلحة في تلك المنطقة. وهو تحدٍ آخر قد يعرقل فكرة التطبيع مع دمشق، خاصةً إذا كانت تلك المناطق تلقي الدعم والحماية اللازمتين من القوى الغربية والأطراف المحلية الساخطة.
محصلة القول، ارتهن الغرب مجدداً إلى العقيدة الكلاسيكية في تسخير تركيا ضد روسيا نتيجة الحرب الأوكرانية، والتي تجلى صداها في قمة الناتو الأخيرة. في حين باتت العقيدة الأوراسية منفذاً بديلاً للفاشية التركية في إجهاض القضية الكردية وقوات سوريا الديمقراطية التي حاربت ولا تزال تحارب الإرهاب بجوار التحالف الدولي.
استناداً إلى ما سبق، تفيد الخطة الأوراسية أنه حتى لو قامرت أنقرة بنقل العلاقات المالية والأمنية مع موسكو وحلفائها من نطاق الشراكة إلى علاقة استراتيجية شاملة، فإن الغرب سيبقى عاجزاً عن حسم خياراته. وتالياً، ستظهر ثغرات متعددة جراء التناقضات الدولية، بحيث ستكون ساحة تمارس فيها الأوليغارشية الحاكمة في أنقرة سياسة الإبادة ضد الكرد والمكونات المتحالفة معهم في سوريا.