ما هي جدوى العقوبات الأمريكية على سوريا؟

أنشال فوهرا

في ذروة الحرب الأهلية، غادر مُعظم السوريين البلاد نتيجة للمعارك المحتدمة والقصف العنيف لمكان آخر أكثر أماناً، وأما أولئك الذين بقوا في الداخل يحاولون اللحاق ممن سبقهم هرباً من حالة الفقر المدقع. في الآونة الأخيرة، كانت نسبة السوريين الأعلى من بين المهاجرين الذين تدفقوا على حدود الإتحاد الأوروبي عبر بيلاروسيا. وقد كانت تلك الأزمة من تدبير روسيا والحكومة السورية، وحليفهما البيلاروسي، لكن رغبة السوريين في مغادرة البلاد التي تعاني من اقتصاد هشّ جاءت كنتيجة طبيعية.

أمام هذا الواقع المأساوي، بدأ كثير من السوريين مغادرة البلاد على الرغم من الهدوء الحذر للصراع، أدت أزمة المهاجرين إلى دق ناقوس الخطر في العواصم الأوروبية التي كشفت إخفاق السياسة الغربية. لا يمكن للمجتمع الدولي أن يقف مكتوف اليدين أمام الأزمة السورية بمجرد فرض العقوبات. يجب أن يفكر بشكل أكثر براغماتية وأن يجد طريقة ذات جدوى من العقوبات لتحسين حياة الشعب السوري بدلاً من إبقائها عقيمة فقط لإظهار إنها فعلت شيئا لمعاقبة بشار الأسد على جرائم الحرب المزعومة التي ارتكبها.

وعلى الرغم من قلة اعداد المهاجرين مقارنة بما كانت عليه منذ قبل خمس سنوات، إلا أنها في ارتفاع مضطرد خاصة العام الماضي نتيجة لتدني مستوى الخدمات وانعدامها ( طوابير طويلة للحصول على الخبز و الوقود). وفقا لوكالة أسوشيتيد برس، تقدم نحو 82 ألف سوري بطلبات لجوء في الإتحاد الأوروبي عام 2021، 66 ألفا منهم تقدموا لأول مرة. والتي مثلت زيادة بنسبة 70 ٪ مقارنة بالعام السابق، على الرغم من المخاطر الكبيرة التي يكابدونها في البحر واحتمالية غرقهم. ووفقًا لإحدى الدراسات الاستقصائية، يرغب نحو 64 ٪ من السوريين داخل الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة مغادرة البلاد وإعادة التوطين في مكان آخر. تستضيف أوروبا نحو مليون سوري، وسط دعوات لعدم استقبال المزيد منهم . وبالنسبة للسوريين الذين يعانون من الفقر المدقع ويسكنون بمدن آيلة للانهيار، فإن خيارهم الوحيد هو هجرة البلاد عبر طريق محفوف بالمخاطر ( عبر البحر) والتوجه نحو أوروبا.

حاول أبو زاهر العبور إلى ألمانيا من بيلاروسيا ثلاث مرات، لكنه تعرض للخداع أو الاعتقال أو الترحيل. في محاولته الأولى، تم التخلي عنه في غابة بالقرب من الحدود البولندية من قبل المهربين الذين دفع لهم مقابل إيصاله إلى ألمانيا. بعد بضعة أيام، أجبره الجنود البيلاروسيون على السباحة عبر نهر جليدي بارد وعبور الحدود إلى ليتوانيا بشكل غير قانوني. قبضت عليه شرطة الحدود الليتوانية ورحلته على الفور إلى بيلاروسيا. في محاولته الثالثة، وصل إلى بولندا ولكن الشرطة البولندية أبرحته ضربا و أجبرته العودة أدراجه إلى الغابة.

لم يعد يمتلك المال وأرهق من محاولات الهجرة الفاشلة. و رغم ذلك لا يزال مصمماً على السعي للوصول إلى ألمانيا رافضاً العودة إلى سوريا، حيث الكهرباء معدومة ، والمواد الغذائية الأساسية أسعارها باهظة الثمن ، وانعدام توفر الوقود . يقول أبو زاهر، مهندس سوري يبلغ من العمر 33 عاما، الذي لم يفر من الحرب بل من الأزمة الاقتصادية الكارثية : «حلمي الوحيد هو الحصول على وظيفة لائقة وإرسال بعض النقود لعائلتي».

كان نجل أم عبد الله محظوظا فقد تمكن الوصول إلى ألمانيا بعد معاناة طويلة. كان يعمل عبد الله في سوريا مساعداً لوالده الذي يعمل كنجّار. بيد أن قلة الطلب وانعدام الكهرباء انعكس سلباً على مردودهم المالي، إضافة إلى كونهم لا يملكون المال الكافي لإدارة مشروعهم _ وهذا لسان حال السوريين قاطبة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. قالت أم عبد الله إن الحياة في سوريا أصبحت جحيماً لا يُطاق. وفضّلت أن يُهاجر ابنها لأوروبا سالكا درباً محفوفاً بالمخاطر وغير شرعي على أن يبق في البلاد التي طالت فيها الحرب ولا يوجد حلّ يلوح بالأفق.

وفي سياق متصل، قالت أم عبد الله لمجلة فورين بوليسي من ضاحية بالقرب من دمشق :« لقد كانت هناك حركة هجرة كبيرة العام الماضي، حيث باعت بعض العائلات كل شيء تملكه في سبيل الهجرة ، وحالتي تشكل مثالً واضحاً، فقد أجبرت على بيع مجوهراتي لأدفع ثمن رحلة ابني ، أردته أن يبدأ حياة حقيقية. حياتنا هنا مثل الأشباح» .

تسعة من كل عشرة سوريين يعيشون في فقر ولا يستطيعون تأمين المواد الأساسية مثل الخبز والحليب واللحوم. انخفضت قيمة العملة المحلية بشكل حاد خلال العام الماضي بالتوازي مع انهيار الليرة اللبنانية، وارتفعت أسعار المواد الغذائية أكثر من 100 ٪ . فيما لا يزال قرابة 7 ملايين مهجّر داخل البلاد يعانون من ضائقة مالية وليس لديهم المال الكافي لإعادة بناء منازلهم ومجتمعاتهم.

انهار اقتصاد البلاد نتيجة الدمار الذي تسببت به الحرب، والفساد المستمر منذ عقود من قبل حكومة الأسد، إضافة إلى انهيار القطاع المصرفي في لبنان، حيث فقد السوريون ودائعهم ليس فقط اللبنانيين بل السوريين أيضاً. لكن العقوبات الغربية التي حظرت إعادة الإعمار من أي نوع، بما في ذلك محطات الطاقة والمدن المدمرة ، فاقمت بالتأكيد مآسي السوريين وقضت على أي فرصة للتعافي.

لم يكن السوريين يُعولون على الحكومة بإعادة الإعمار لأنها هي التي حولت منازلهم ومتاجرهم ومدارسهم إلى أنقاض بالدرجة الأولى . لكنهم كانوا يأملون مساعدتهم من قبل المستثمرين الأجانب و إعادة إعمار البلاد والعودة لحياتهم الطبيعية. لكن هذا الأمل تبخّر عندما دخل قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا حيز التنفيذ في يونيو/ حزيران 2020. ويهدد القانون الأمريكي بفرض عقوبات على أي كيان ، أمريكي أو غير ذلك ، إذا كان يُقدّم « دعما مالياً أو ماديا أو تقنيا بشكل ملحوظ » للحكومة السورية.

لا يوجد تناقض في الآراء فيما يتعلق بالعقوبات الفردية ضد الأسد وحاشيته. في الواقع، يبدو أن هناك إجماعاً بين الخبراء على تحديد المزيد من الأشخاص في الأجهزة الأمنية السورية ومعاقبتهم. ومن ناحية أخرى يعتقد الخبراء أن مجرمي الحرب السوريين المتهمين يجب أن يحاكموا في محاكم أوروبية بموجب القانون القضائي الدولي. ولكن جدوى العقوبات بموجب قانون قيصر  أصبحت محل نزاع عميق.

وحسب إحدى الهيئات، فإن تخفيف العقوبات، بسبب الخوف من تدفق اللاجئين، من شأنه أن يرقى إلى الاستسلام لتكتيكات روسيا والأسد.  حيث يقولون إن الأسد لم يرضخ حتى الآن لأي من مطالب المجتمع الدولي في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 وليس لديه أي نية لتغيير سلوكه.

فيما رأى البعض الأخر بضرورة تبني سياسة جديدة وعملية للتخفيف من معاناة الشعب السوري وتجنب نزوح جماعي آخر، خاصة وأن الأسد لن تستطيع المعارضة إسقاطه أو يتم تغييره من قبل حليفه الروسي في أي وقت قريب. إذا أبقت الولايات المتحدة على مجموعة واسعة من العقوبات حتى تُجبر الأسد على الرضوخ لانتقال سياسي مقبول، والذي تعتبره الحكومة السورية بمثابة تغيير للنظام بوسائل أخرى، فإن الأزمة سوف تتفاقم ببساطة بمرور الوقت. ولكن إذا تمّ توظيف هذه العقوبات بشكل مناسب وتخفيف من حدة الأزمة  الإقتصادية في سوريا، فقد يشجع ذلك السوريين على البقاء في بلدهم.

لطالما أوصت مجموعة الأزمات الدولية، بأن تقوم الولايات المتحدة بإعداد قائمة تتضمن خطوات «فعلية وواقعية» ينبغي على النظام في دمشق وحلفائه الإلتزام به مقابل إلغاء العقوبات المفروضة عليه.

كما رأت مجموعة الأزمات الدولية، إن القيادة السورية لن تحاسب مجرمي الحرب أو نفسها أو حتى إطلاق سراح جميع المعتقلين. وتضيف أيضاً إن النظام يمكن إقناعه بعرض وصول غير مقيد للجهات الفاعلة الإنسانية الدولية، والسماح للنازحين بالعودة إلى ديارهم، والوعد بإنهاء الضربات الجوية العشوائية على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

أوضحت كبيرة المحللين بـ مجموعة الأزمات الدولية دارين خليفة إن الدول الغربية تحتفظ حالياً بنفوذها في سوريا بفضل الوجود العسكري للتحالف الدولي والعقوبات والتحكم بالإيرادات الخارجية المرسلة من أجل إعادة الإعمار.

وأضافت خليفة :« على الرغم من أن هذا النفوذ ربما يكون غير كافٍ لإحداث تغيير فعلي في القيادة بـ دمشق، إلا إنه إذا تم استخدامه بشكل فعال يمكن أن يحقق أهدافاً إستراتيجية للغرب وينقذ حياة ملايين السوريين».

ومن أجل استفادة كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من نفوذهما هم بحاجة إلى تحديد موقف أكثر وضوحاً تعربان من خلاله أنه في حين أن دمشق قد لا تحصل على الأشياء مجانًا، ثمة نتائج قابلة للتحقيق قد تدفع نحو معاملة الغرب بالمثل من دون تغيير النظام. وفي هذا الصدد تقول خليفة : « نقطة البداية في المفاوضات لا يمكن أن تكون مبنية على أن ” دمشق متشبثة بآرائها ” . فالحكومة السورية، مثل أي طرف آخر في النزاع، سترضخ للتسوية حال نفاذ الخيارات المطروحة أو غياب مخرج لها _ على الأقل طالما أن هذه التنازلات لا تمس جوهر النظام» .

ومن جانب آخر، يقول جوشوا لانديس رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أوكلاهوما، وهو متزوج من سورية ومن أشد المدافعين عن فكرة إلغاء العقوبات : «ينبغي السماح للسوريين بإخراج أنفسهم من هذه المحنة العصيبة، وهذا يعني رفع العقوبات. عندما يتحقق ذلك، سيبدأ المستثمرون الإقليميون بضخّ الأموال في البلاد وبالتالي سوف يزدهر اقتصادهم من جديد».

إن المستثمرين الإقليميون متحمسين للمشاركة في إعادة إعمار سوريا في مقابل قيام الحكومة السورية باحتواء إيران. في العام الماضي، أقنعت الأردن الولايات المتحدة بالسماح للغاز المصري والكهرباء الأردنية بالمرور عبر الأراضي السورية لإنهاء أزمة الطاقة في لبنان، وفي مقابل ذلك، ساعدت على إنعاش الإقتصاد السوري ولو بشكل جزئي. إلا أن هذه الخطوة أربكت المحللين الذين تساءلوا لما لم تستفد إدارة بايدن من العقوبات وتطلب شيئاً لها بالمقابل بدلاً من تقديم ذلك التنازل مجاناً؟ يجيب على ذلك أندرو تابلر وهو عضو في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: «ليس من الحكمة تقديم كل شيء على طبق من فضة من دون مقابل».

سعت إدارة بايدن أن تنأى بنفسها عن سياسات «الضغط الأقصى» للعقوبات التي تم فرضها لأول مرة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب في الشرق الأوسط ، بيد أنها حتى الآن لم تفعل شيئا يصب في مصلحة الشعب السوري. بل  استمرت إدارته بتنفيذ قانون قيصر، الذي وقعه ترامب ليصبح قانوناً في ديسمبر/كانون الأول 2019. غالباً ما وصفت سياسة الرئيس جو بايدن تجاه سوريا بأنها “مشوشة” ​​وأنها فشلت في إيجاد توازن فيما يتعلق بسياسة العصا والجزرة للدفع من أجل تغيير في سلوك النظام. يبدو أن الإدارة غير راغبة بتغيير سياستها حيال القضية السورية، وبالتالي فهي تترك الأزمة مستمرة إلى حين الوصول إلى تسوية على الرغم من آثارها الكارثيّة على ملايين السوريين بالإضافة إلى التأثير على السياسة الأوروبية في المستقبل.

المصدر: فورين بوليسي

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد