هل يصمد الغرب أمام الحرب الإلكترونية المعادية؟

إليزابيث برو

بعد أسبوع خال من أيّة نتائج ملموسة بين روسيا والغرب فيما يتعلق بأوكرانيا، تعرّضت بعض المواقع الإلكترونية الأوكرانية الرسمية يوم الجمعة لمحاولة قرصنة، حيث نشر القراصنة عبر موقع وزارة الخارجية الأوكرانية “أيّها الأوكرانيون، إلى أين المفر؟ ولا داع لمزيد من الخداع، نحن نعلم ماهية ماضيك وحاضرك ومستقبلك”.

على الرغم من أنه لم يتضح بعد من يقف وراء الهجوم، إلا أن التوقيت جعل العديد من المراقبين يوجّهون التهمة لروسيا، التي لها باع طويل بالقيام بهجمات إلكترونية تستهدف أوكرانيا. تعليقاً على ذلك صرّح كبير الدبلوماسيين في الإتحاد الأوروبي “لا يمكنني إلقاء التهم جُزافاً في ظلّ غياب دليل واضح”.

بغض النظر عن من قام بالقرصنة، تمثّل هذه الحادثة غيض من فيض في التكتيكات التي يستخدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإضعاف أوكرانيا بخلاف الحرب التقليدية. وعلى الرغم من وجود حرب فعلية على أرض الواقع شرق البلاد بيد إن روسيا استكملت جهودها العسكرية بتكتيكات أخرى مثل الهجمات الإلكترونية والمعلومات المضللة والدعاية التي تهدف إلى زيادة التوترات السياسية وبلبلة الأوكرانيين ضد حكومتهم والديمقراطية القائمة فيها.

إن قواعد اللعبة التي يتبعها بوتين لاتميل كثيرا للحرب أو للسلم بل تقف في المنتصف _وهو ما أطلق عليها محللو الأمن القومي في المنطقة تسمية الرمادية. إن هذا المفهوم ليس بالجديد ولكن المصطلح أصبح أكثر شيوعاً، حيث لا يعتمد هذا المبدأ كثيراً على القوة العسكرية بل يستخدم بدلاً من ذلك تكتيكات تستهدف التماسك الإجتماعي أو الإقتصادي أو السياسي للبلد. وأبرز هذه التكتيكات المعلومات المضللة والحرب الإلكترونية، فضلاً عن الممارسات الاقتصادية التخريبية، مثل جهود الصين لإجبار الشركات الغربية النزول عند رغبتها. ومثال آخر عن هذه التكتيكات هي أزمة المهاجرين على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا التي إفتعلها الرئيس البيلاروسي المستبد ألكسندر لوكاشينكو حليف بوتين. لم يشن الرئيس البيلاروسي حرباً تقليدية بقدر ما كان هدفه خلق أزمة و نشر الفوضى الأمر الذي أدى إلى أجبار بولندا وبقية أوروبا على دق ناقوس الخطر.

على الرغم من أن المصطلح قد يُستخدم بشكل كبير في دوائر الأمن القومي، فإن تسمية هذه الممارسات المتباينة على ما يبدو “بتكتيكات المنطقة الرمادية” تساعدنا على معرفة القاسم المشترك بينها: فهي أرخص تكلفة وأفضل من استخدام القوة العسكرية، وغالباً ما تتم في إطار غير شرعي، ولا تنتج خسائر بشريّة تُذكر. أخيراً، تستغل تكتيكات المنطقة الرمادية الحريات في المجتمعات الديمقراطية _ مثل الإنترنت اللامحدود، والمرونة في ممارسة الأعمال التجارية وحرية الهجرة_ لخلق انقسامات سياسية أو اضطرابات اقتصادية واجتماعيّة. تعمل الأنظمة الاستبدادية إضافة للمجرمين المرتبطين بها على تقويض الديمقراطيات الليبرالية من خلال تطوير قوتها لتشكل حائط صد ضدها.

إن هذه الحرب الجديدة باتت تؤرّق الرئيس جو بايدن وهدفه المتمثّل في تعزيز الديمقراطية ضد الاستبداد. إنه جزء مما أسميه “معضلة المدافع”، فالديمقراطيات الليبرالية معرضة بطبيعتها لتهديدات المنطقة الرمادية، لكنها هي التي أوصلت نفسها لمثل هذه الفوضى والانقسام إلى درجة أنها بدأت تتوسل الدول الاستبدادية والمجموعات المختلفة التي استغلت ضعفها. بمرور الوقت، قد تساعد مثل هذه التكتيكات في إقناع الناس بأن الديمقراطية مثال سيء عن الإدارة وأنها باتت لا تلبي تطلّعاتهم.

في هذا السياق، لا توجد أداة أو مؤسسة بارزة للوقوف في وجه تكتيكات المنطقة الرمادية. أمام هذا الواقع أصبحت القوات المسلحة بحاجة إلى مساعدة حكومات أخرى لمكافحة التهديدات الدبلوماسية أو التكنولوجية أو الإقتصادية أو العلمية. وفي الوقت الراهن لم تعد هذه الطريقة تُجدي نفعاً في مواجهة المنطقة الرمادية. بينما يبتكر المستبدون طرقاً أكثر مكراً و إبداعاً _بدءاً من سلاسل التوريد المتعلقة بالشركات الخاصة، إلى الأنظمة التي توفر الغاز والمياه، إلى الإيمان بالديمقراطية نفسها_ لا يمكن لأي حكومة بمفردها، حماية شعبها من خطر المنطقة الرمادية.

ولحماية وتعزيز الديمقراطية تحتاج الحكومة تكاتف الشعب معها. فالمطلوب من الشركات والمواطنين أن يمارسوا دورهم في حماية الديمقراطية من خلال تعزيز أمنهم الرقمي، واكتشاف المعلومات الخاطئة وعدم الإنجرار وراء غرائزهم،  عندما تحاول الهجمات الإلكترونية أو أزمات التضليل إثارة الذعر على نطاق واسع.

هل سيكون المجتمع قادراً على الاتحاد بوجه هذه التهديدات؟ الإجابة على هذا التساؤل نعم يستطيع، ولكن مهمّته شاقة خاصة في ظل فقدان الأمريكيين المصداقية بمؤسساتهم أو ببعضهم البعض. لكن من جهة أخرى تسعى دول في سبيل تعزيز الديمقراطية فيها إلى جعل الشركات والمواطنين عاملاً حيوياً في التصدي لهذه التهديدات. وأمام التهديدات التي باتت تواجه الولايات المتحدة خاصة في الآونة الأخيرة، بدأت بالنظر في التكتيكات التي تتبعها الدول الديمقراطية في التصدي لهذه التهديدات.

إن كانت روسيا أو قراصنة على علاقة بها هم المسؤولون عن الهجوم الإلكتروني الذي طال أوكرانيا، فمن المؤكد أن الذي دفعهم لذلك هو تفاقم الانقسامات السياسية الحالية في البلاد فضلاً عن تحريض الأوكرانيين ضد حكومتهم. وفي وقت لاحق من يوم الجمعة، أفادت تقارير إلى أن الولايات المتحدة تعتقد أن العملاء الروس يخططون “لأعمال تخريبية ضد القوات التي تعمل بالوكالة لروسيا” لخلق ذريعة لغزو أوكرانيا _ وهو مثال على الكيفية التي يمكن أن تؤدي بها تكتيكات “المنطقة الرمادية ” إلى حرب حقيقة.

 كان لوكاشينكو يعلم أن أزمة اللاجئين على الحدود البولندية من شأنها أن تؤجّج الانقسامات القائمة حول سياسة اللاجئين الأوروبية والتعددية الثقافية والتي تندرج ضمن أشكال حرب المنطقة الرمادية التي عاصرها الأمريكيون عن كثب. ففي عام 2016، سعت وكالات الاستخبارات الروسية إلى التلاعب بآراء الأمريكيين السياسية من خلال فيسبوك. وقد تم إستغلال حرية التعبير السياسية وهذا الانفتاح لتحريضنا ضد بعضنا البعض.

تستغل حرب المنطقة الرمادية أيضا الترابط فيما بين الأعمال التجارية العالمية والدور المتنامي الذي تلعبه الشركات الخاصة في تشكيل الحياة العامة. استأجرت شركات دنماركية وأيرلندية ورومانية طائرات لشركات الطيران التي تنقل المهاجرين إلى بيلاروسيا. عطّلت الحرب الإلكترونية الروسية الأكثر شراسة ضد أوكرانيا وخاصة هجوم “نوت بيتا” الشركات متعددة الجنسيات في جميع أنحاء العالم من خلال استغلال روابط أوكرانيا بالاقتصاد الرقمي العالمي. وبطبيعة الحال، كان تدخل روسيا في انتخابات الولايات المتحدة عام 2016 أمراً بالغ الصعوبة لأنه تم عبر منصة وسائل إعلام اجتماعية تعود ملكيتها للقطاع الخاص.

لقد أدرك خصوم أمريكا أن استهداف الشركات الخاصة أو الأفراد وسيلة ناجحة لعرقلة الأعمال اليومية ونشر الفوضى في المجتمع. يمكن أن تصيب الهجمات خطوط أنابيب الغاز أو شبكة الطاقة أو أجزاء مهمة من سلسلة التوريد التي تديرها غالبا شركات خاصة. وعلى الرغم من إتخاذ الشركات الخاصة في الولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى إجراءات وقائيّة ضد الهجمات الإلكترونية المحتملة، إلا أنها لا تمتلك سياسة عميقة في هذا المجال مما يجعلها عرضة للخطر. وعلى الرغم من تنظيم الشركات التي تدير البنية التحتية الوطنية الحيوية من قبل الحكومة إلا إنه حتى في تلك القطاعات، فإن التوازن بين المسؤولية المجتمعية والمسؤولية تجاه المساهمين بعيد كل البعد عن الاستقرار.

الشكل الآخر للحرب غير التقليدية هو الضغط الجيوسياسي والذي يتضمن الضغط المباشر على الشركات كوسيلة للتأثير على حكوماتها المحلية. ومثال عن ذلك قرصنة شركتي “نايكي و إتش آند إم” من قبل الصين الربيع الماضي وذلك نتيجة للعقوبات الغربية على الصين لقيامها بفرض العمل القسري على الأويغور. كما إستهدفت هجمات الصين الإلكترونية شركة إريكسون لإجبار السويد على التراجع عن قرارها باستبعاد شركة هواوي من الحصول على ميزات شبكة الجيل الخامس (5G) الخاصة بها. وتجد هذه النشاطات مجالاً واسعاً في المجتمعات الديمقراطية والليبرالية بحكم توفر مناخ يساعد على القيام بمثل هذه الأعمال بكل أريحية.

بطبيعة الحال، فإن هذه الحرب غير التقليدية، التي تستهدف المجتمع ليست بالأمر الجديد. وهناك أيضا الحرب الإعلامية التي تروج للعمل العسكري فضلاً عن إستخدام الحصار لمحاولة تجويع الشعب وإجبارهم على الخضوع. خلال فترة الحرب الباردة، استخدم كلا الجانبين الحرب الإعلامية ضد بعضهما البعض.

تتيح الثورة الرقمية التي يشهدها العالم إضافة للعولمة فرصة كبيرة لتحقيق الأهداف الجيوسياسية من خلال استهداف الشركات والمواطنين في الدولة. وفي هذا الصدد سيستغل منفذو الهجمات الإلكترونية “المنطقة الرمادية” الانفتاح والترابط بين الدول الديمقراطية لابتكار مزيد من الخطط لتقويض هذه الدول. وعلى الرغم من إستخدام القراصنة التكتيكات ذاتها والتي لا تلق قبولا في الديمقراطيات الليبرالية، إلا أن الدول الديمقراطية لم تضع خططاً لمواجهتها.

بشكل عام يُطلب من القطاع الخاص والمواطنين الامتثال للقوانين ودفع الضرائب، بيد أن عدداً كبيراً منهم لا يرون أنها (القوانين و الضرائب) تلعب دوراً مركزياً في حماية أمن الدولة أو ديمقراطيتها. و هي بحاجة إلى التغيير لأنها ستصبح هدفاً سهلاً كونها المحرك الإقتصادي للبلد فضلاً عن دورها في التماسك الاجتماعي، ويتم ذلك بطرق لا تكون الحكومة مجهزة للتعامل معها بمفردها. فعلى سبيل المثال، في حالة وقوع هجوم إلكتروني قوي ضد بائع تجزئة للمواد الغذائية، يمكن للحكومة المساعدة في التعرف على المهاجم وحتى الرد عليه. ولكن يتوجب على الشركة أيضا أن تلعب دوراً نشطاً ومساعدة الحكومة من خلال وضع خطة وقائيّة لضمان استمرارها في التوزيع بعد التعرّض للاختراق والتواصل بشكل فعّال مع الحكومة بشأن ما يحدث. (يتوجب عليها أيضا المحافظة على معايير عالية للأمن السيبراني) وفي الوقت نفسه، ينبغي على المستهلكين ألا يشعروا بالذعر والبدء في تخزين البضائع.

وبالفعل اتجهت الدول الأوروبية لتبني سياسة “الاعتماد على المجتمع”، والتي تركز على المواطنين والقطاع الخاص ودورهما في الحفاظ على أمن البلدان. قبل ثلاث سنوات، أرسلت وكالة الطوارئ المدنية السويدية _ وهي وكالة مشابهة للوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ (فيما)، ولكن لديها تفويض لتثقيف الجمهور وتنسيق الاستجابة للأزمات_ منشوراً إلى كل أسرة مع معلومات حول كيفية التعامل مع المعلومات المضللة وماذا تفعل في حال نفاذ مادة البنزين أو إنقطاع الكهرباء. في هذا الشهر فقط، أطلقت السويد وكالة حكومية للدفاع النفسي، والتي ستواجه المعلومات المضللة وتجعل السكان أكثر مرونة في التعامل معها. في العام الماضي، أعلنت بريطانيا صراحة أنها ستتبنى سياسة الاعتماد على المجتمع وإشراكه في حماية الأمن القومي للبلاد. وأبرز الإجراءات التي اتخذتها: تشكيل نظام احتياط مدني على غرار نظام الاحتياط العسكري، مكون من خبراء في مجالات الإنترنت إلى الرعاية الصحية الذين سيقدمون خدماتهم في الأزمات بشكل طوعي.

في عام 2020، أعلنت دولة لاتفيا إستعدادها لمثل هكذا حروب تحت عنوان: “72 ساعة، ما ينبغي القيام به في حالة حدوث أزمة”. و المقصد من وراء ذلك، كما كتب وزير دفاع البلاد حينها، هي ” تهيئة المجتمع للأزمات المفاجئة”. كما يتم تعليم المواطنين بما يجب عليهم القيام به في حال حصول نقص في الغذاء والماء والرعاية الصحية وذلك في حالة وقوع كارثة طبيعية أو حرب أو أزمة أخرى. أطلقت جمهورية التشيك تدريبات مشتركة في المنطقة الرمادية للصناعة العسكرية، حيث تتعاون القوات المسلحة والشركات من كل قطاع للتصدي لأشكال مختلفة من العدوان، بدءا من الهجمات الإلكترونية إلى اضطرابات سلسلة التوريد إلى ابتزاز الشركات.

في غضون ذلك، أطلقت فرنسا برنامج “الخدمة الوطنية” لمدة شهر واحد يتعلم فيه الشباب مهارات الاستجابة للأزمات، وتم تصميم البرنامج أيضاً لتعزيز التماسك بين الفئات المجتمعية المتنوعة. وعلى غرار البرنامج الفرنسي، تم إطلاق برنامج “عام من أجل ألمانيا” يحضّ فيه الشباب الألمان إلى قضاء عام في التدريب لغرس مبدأ حماية الأمن الداخلي في نفوسهم.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل سيتمخض عن هذه الجهود نتائج ملموسة؟ والإجابة على هذا التساؤل إنه من السابق لأوانه تحديد ما إذا كانت ستنجح أم لا. وبشكل عام ينبغي ألا يُعوّل الأمريكيون على تجربة الدول الأوروبية ذات المساحة الصغيرة والأقل كثافة والأكثر تماسكاً، بعكس الولايات المتحدة ذات المساحة الأكبر والأكثر انقساماً.

 في هذه المرحلة، من الحكمة أخذ الإجراءات الوقائية لمجابهة هذا الخطر الداهم، وتجربة شيء مختلف. إن مفهوم “الاعتماد على المجتمع” يُعدّ مفهوم نفسي بالدرجة الأولى. حيث يهدف إلى بناء الثقة وجعل الشعب مستعداً للتعامل مع أي عدون سواء أكان هجوم يستهدف الشبكة الكهربائية أو أزمة معلومات مضللة حول المهاجرين على الحدود. إنها فلسفة استثنائية، خاصة بالولايات المتحدة.  وفي ظل تصاعد خطر المنطقة الرمادية التي تستغل الإنقسام في أوساط الشعب ناهيك عن القطاع الخاص المستكين تستوجب الحذر واتخاذ الإجراءات اللازمة لردعها.

تشهد الولايات المتحدة حركة بطيئة نحو إعداد الشركات لتقف في وجه أية دولة معادية تستهدف قطع الخدمات الأساسية أو مهاجمة البنية التحتية للانتخابات. وفي هذا الصدد تعقد وزارة الطاقة اجتماعات دورية مع شركات الطاقة الرائدة لمناقشة التهديدات التي تتعرض لها عمليّاتها. وأمام التهديدات المتزايدة في الآونة الأخيرة أجبرت الشركات الرئيسية إلى تطوير أليّات لحماية شبكاتها بشكل أفضل، كما أن الأمر التنفيذي الصادر في مايو/حزيران من قبل بايدن يجعل الشركات جزءاً من جهد أوسع لتأمين سلسلة التوريد الخاصة بالأمن السيبراني. تعتبر خطة جاك فولتيتش، الذي قام بتنسيقها معهد سايبر التابع للجيش الأمريكي، مثالاً جيداً للتعاون بين الجيش والشركات.

إن تبني الولايات المتحدة لهكذا سياسات ما هو إلا بداية على الطريق الصحيح. كما إنها بحاجة إلى التواصل بشكل دوري مع الشركات و المدراء التنفيذيين لإطلاعهم على التهديدات التي قد يجهلونها. كما أن الشركات بحاجة إلى تطوير الآليات المتبعة على مستوى القطاع، مثل مشاركة تفاصيل الحوادث الإلكترونية مع بعضها البعض. يقوم مشغلو الأقمار الصناعية التجاريون بذلك بالفعل، لكن القليل من الصناعات الأخرى تقوم بذلك، خشية أن يستخدم منافسوها المعلومات لصالحهم. ولكن نظراً لتنامي الهجمات الإلكترونية و سياسة الابتزاز، ينبغي على الشركات تنحية تلك المخاوف جانباً. على سبيل المثال، دفعت كل من شركتي كولونيال بايبلاين وسويفت أند كومباني لقراصنة من منطلق المصلحة الذاتية. ولتكون النتائج أكثر إيجابية، ينبغي على الشركات أن تتعاون ضمن قطاعاتها وتصرح بشكل علني بإنها لن تدفع فدية، وليصبح موقفها أقوى حال تعرضها لهجوم إلكتروني آخر.

إن الأمر الأكثر صعوبة من إقناع الشركات الخاصة بالتعاون مع بعضها البعض التي تواجهه الحكومة هي كيفية تأمين سياسات يتقبلها السكان بشكل عام. فمواطنو الديمقراطيات الليبرالية غير مهيأين للعب دور واضح في حماية المجتمع، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالوقت أو الإزعاج. ومن ناحية أخرى، نظراً للخطر الذي تعترض الدول الديمقراطية كونها ضعيفة ومعرضة لأنواع متعددة من الإعتداءات، فمن مصلحتهم المساعدة في جعل المجتمع مرناً قدر الإمكان.

لن تكون مشاركة المواطنين سواء الفردية أو الجماعية سهلة التنظيم. قبل عقدين من الزمن، وثّق كتاب “لعب البولينج منفرداً” لروبرت بوتنام تراجع المشاركة المدنية في أمريكا. الآن، يمكننا الاستنتاج بناء على كتابه بأن هذه الإنقسامات التي فاقمت من أزمة أمريكا في الوقت الراهن جعلها عاجزة عن مواجهة التحديات. وقد إستغل الأعداء نقطة الضعف هذه، وينبغي أن نتوقع أن هذه الإنقسامات داخل المجتمع الأمريكي باتت تزداد سوءا وتعرض الولايات المتحدة للخطر. إن قضية تشرذم المجتمع الأمريكي وانقسامه على نفسه حسبما أوضحها بوتنام في كتابه أمر مثير للقلق، ولكن عند التعرض لهجوم معادي، ينبغي الإتحاد وتضافر الجهود للتصدي له وتنحية الخلافات جانبا.

في سبتمبر/أيلول، أقر مجلس النواب تعديلاً على قانون تفويض الدفاع الوطني، الذي يهدف إلى مساعدة البلاد على وضع حلول والتصدي لخطر المنطقة الرمادية. يزوّد التعديل الحكومة بمعلومات لتحديد كيفية إجراء هجمات المنطقة الرمادية، بما في ذلك إعطاء الأولوية للدول الحليفة التي يتم استهدافها بشكل متكرر. يعتبر هذا الأمر خطوة في الطريق الصحيح، بيد إننا بحاجة لتكاتف الحكومة والشعب الأمريكي لجعل المجتمع أكثر مرونة واستيعاباً ضد الهجمات الإقتصادية والنفسية وغيرها من الهجمات التي تندرج ضمن الحروب الاستباقيّة.

من المحتمل في المستقبل رؤية برامج ينضم إليها الأطباء والممرضات الأمريكيون المتقاعدون إلى قوات الاحتياط المدنية لمواجهة أزمات مثل فوضى الوقود الناجمة عن الهجمات الإلكترونية أو حتى الأوبئة التي تصنعها الدول المعادية. أو، يمكن لمبادرات مثل تعليم محو الأمية في المدارس الابتدائية الفنلندية أن تساعد تدريجياً في حماية الأمريكيين من خطر المعلومات المضللة _وهي مشكلة حاولت أعداد هائلة من الأبحاث معالجتها، لكنها مازالت عنصراً خطيراً تؤدي إلى حدوث الانقسامات والخلافات مما يجعلنا عرضة للخطر. أو، قد نتصور تعاوناً أكثر رسمية على الطريقة التشيكية بين الشركات والبنتاغون للتغلب على سيناريوهات لهجمات برامج الفدية المستقبلية على المرافق الحيوية.

وفي حال تكاتف المجتمع ككل، ستصبح الولايات المتحدة قادرة على التصدي للأزمات المستقبلية. ولعل التحدي الأبرز الذي تواجهه الحكومة الأمريكية هو كيفية تجنيب الشركات والمواطنين الوقوع ضحية المعلومات المضللة و السلبية في حال مواجهة أزمة. إن هذا مشروع يفوق إمكاناتنا في الوقت الراهن ولسنا واثقين من نجاحه،  لا سيما في ديمقراطية منقسمة مثل الولايات المتحدة. لكن هذا البلد، إلى جانب العديد من البلدان الأخرى حول العالم، بدأ يعي بهذا التحدي بشكل متأخر.

لتحييد اللصوص وإبعادهم يضع العديد من أصحاب المنازل لافتات في ساحاتهم الأمامية لتحذيرهم بأن المنزل يوجد فيه جهاز إنذار ضد السرقة. كذلك الأمر ينطبق على الجيوش التي ترسل نفس الرسالة إلى المهاجمين المحتملين. ولكن عندما يتعلق الأمر بعدوان المنطقة الرمادية، تضع الدول عملياً علامة ترحيب على أبوابها الأمامية. يبدو أن العديد من الشركات غير مكترثة بلعب دور إجتماعي أوسع. وعند حدوث خطب ما، يتلعثم المواطنون ويتحزبون وليسوا قادرين على سرد الحقائق من الأكاذيب. وستعمل الدول المعادية_إن لم تكن خرقاء_ على إستغلال هذا الضعف لتوجه ضرباتها وتلحق ضرراً بكافة فئات المجتمع.

على المدى الطويل، فإن الحاجة لإدراك أهمية العمل الجماعي ضد عدوان المنطقة الرمادية ربما ستكون عاملاً مهما للإتحاد. قد لا يرغب الأمريكيون الاتحاد مع بعضهم البعض، ولكن ألا يتطلب تأمين الحماية لأنفسهم وعائلاتهم وإنتاج ومبيعات شركاتهم والحفاظ على استقرار الدولة مزيدا من الجهود نحو الوحدة ؟

المصدر: موقع بوليتيكو 

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد