الاتحاد الاوروبي يعزز موقعه عالمياً عبر مشروع «البوصلة الاستراتيجية»

ماركوس كايم ورونجا كمبين

قدّم مفوض الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمنية جوزيب بوريل في 15 نوفمبر /تشرين الثاني 2021 مسودة وثيقة إلى وزيري الخارجية والدفاع في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تحت عنوان « البوصلة الاستراتيجية للأمن والدفاع من أجل الاتحاد الأوروبي التي تُؤمن الحماية لـ مواطنيه وقيمه ومصالحه وتساهم في السلم والأمن الدوليين».

 تهدف هذه الوثيقة إلى تعزيز سياسة الأمن والدفاع للاتحاد الأوروبي بحلول عام 2030. ويقول بوريل إن «البوصلة» مصممة للإجابة على ثلاثة أسئلة: ما هي التحديات والتهديدات التي نواجهها كأوروبيين؟ وكيف يمكننا تجميع إمكانياتنا وإدارتها بفعالية؟ وما هي أفضل طريقة لإبراز نفوذ أوروبا؟

أسباب إنشاء الوثيقة

بناءً على طلب من الحكومة الألمانية ، كلّف وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي بوريل في 16 يونيو/ حزيران 2020 ، بوضع بوصلة للسياسة الأمنية وتحديد التوجه العملياتي لسياسة الأمن والدفاع المشتركة في ضوء مظاهر القوة العسكرية. وبالتالي، تهدف الوثيقة إلى تجسيد« الإستراتيجية العالمية للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي» لعام 2016. وتتمثل مهمتها الرئيسية في توحيد الآراء بشأن الأهداف المشتركة لدول الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بـ سياسة «الأمن» والتي تشتمل على إدارة الأزمات وتعزيز الشراكة في العلاقات الدولية كذلك تأمين الحماية للاتحاد ومواطنوه، والمهمة الأخرى للبوصلة الإستراتيجية تتجلى في وضع رؤية مستقبلية مشتركة لتنفيذ هذه الإستراتيجية.

قُسّمت مسودة البوصلة الإستراتيجية إلى ثلاثة مراحل. وقد تم العمل بها منذ مطلع صيف عام 2020 وأوكلت مهمة تنفيذها إلى مفوض الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمنية والذي بدوره عمل على دراسة التهديدات الخارجية للاتحاد الأوروبي. لقد كانت بمثابة الأساس للمرحلة الثانية ألا وهي إجراء تشاورات بين الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي التي بدأت في يناير/كانون الثاني 2021 حول القضايا الأربع المتمثلة بـ : إدارة الأزمات والمرونة والإمكانيات والشراكة. تتمحور الوثيقة المكونة من 28 صفحة والتي تم تقديمها في نوفمبر /تشرين الثاني 2021 والموزعة على خمسة فصول حول عنواوين «العالم الذي نواجهه» و« الحماية» و«الأمن» و«الاستثمار» و«الشراكة» . تتيح المرحلة الثالثة والراهنة للدول الأعضاء الفرصة لتقديم اقتراحاتهم حول الإستراتيجية حتى مارس /أذار 2022 . أدت هذه الإستراتيجية إلى تعميق التعاون بين فرنسا وألمانيا وذلك في أعقاب إقناع برلين الرئيس إيمانويل ماكرون بتبني هذه الإستراتيجية خلال فترة تولي فرنسا رئاسة الإتحاد الأوروبي في النصف الأول من عام 2022، وبالتالي يمثل العمل المشترك بين برلين وباريس الدافع الأكبر لـ البوصلة الاستراتيجية في أوروبا.

تحليل التهديدات

على الرغم من أن البوصلة الاستراتيجية لم تُبصر النور حتى الربيع القادم ، إلا أن المسودة تتضمن تغييراً جذريّاً فيما يتعلق بـ نظرة الاتحاد الأوروبي إلى العالم. مقارنةً بإتفاقيّة الإستراتيجية العالمية للسياسة الخارجية والأمنية للإتحاد الأوروبي لعام 2016 ، والتي رسمت صورة للعلاقات الدولية بدت فيها «القوة الناعمة» للاتحاد الأوروبي أداة فعالة، وبدت فيها التغييرات الهيكلية واضحة المعالم. أصبحت «عودة سياسة القوة» مظهرا أساسيا في سياسة بروكسل الأمنية. ووفقًا للمسودة، لا تشتمل سياسة القوة الجديدة على الوسائل العسكرية التقليدية فحسب، بل تشتمل أيضا على كيفية التصدي لأشكال التهديد الحديثة، خاصة أزمة اللاجئين التي واجهت الاتحاد الأوروبي مؤخراً على حدوده الخارجية مع بيلاروسيا. مثل هذه التهديدات تجعل من الصعوبة بمكان التمييز بين الحرب والسلام. يتوجب على أوروبا التي تعاني من تراجع اقتصادي وديموغرافي في العالم، أخذ زمام المبادرة والعودة إلى الساحة الدوليّة بقوة في ظل هذه المتغيّرات المتسارعة.

إن مخاطر التهديدات مبنية على عاملين، فمن ناحية هنالك تنامي ظاهرة ثنائي القطب بين الولايات المتحدة والصين مما يدفع للمنافسة الدولية على أشدها في جميع المجالات. ومن ناحية أخرى ، هناك ظاهرة متعددة الأقطاب يحاول فيها عدد متزايد من الفاعلين توسيع مجال نفوذهم السياسي. وقد أدّى هذان العاملان إلى تغيير معايير السياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي، حيث تشهد الدول الأعضاء فترة منافسة إستراتيجية وتهديدات معقدة والتي باتت تؤثر على أمن سكانها وتعزز التحولات الجيوسياسية، إضافة لحدوث الإضطرابات على حدود الاتحاد . لقد تعاظمت التهديدات وأصبح من الصعب التكهن باتجاهاتها. وهكذا ، في حين أن التشاركية لا تزال مهمة إلا إنها تزداد خطورة، وخاصة فيما يتعلق بـ اللقاحات والبيانات والمعايير التكنولوجية والتي تندرج في المرحلة الحالية ضمن أدوات للمنافسة السياسية.

كما و تعني هذه العودة إلى سياسة القوة وخاصة أن دولاً مثل الصين وروسيا وتركيا تسعى أيضا للعودة إلى أمجادها التاريخية وتوسعة نفوذها، بدلاً من الإلتزام بالقواعد والمبادئ المتفق عليها دولياً والعمل سويّة من أجل السلام والأمن الدوليين. في غضون ذلك، لم يقتصر فرض الهيمنة على المحيطات فحسب، بل تعداها أيضا إلى الفضاء الخارجي والمجال السيبراني . ينبغي على الاتحاد الأوروبي التأقلم مع التهديدات التي ترافق هذا النظام الحديث، خاصة من قبل المنافسون الجيوسياسيون . إن الهدف الأساسي هو تطوير الاتحاد الأوروبي وجعله أداة لتحقيق السلم الدولي.

 إن هدف البوصلة الإستراتيجية يتركز حول مراجعة جميع الأنظمة الإقليمية للنظام الدولي والتحديات الأمنية الخاصة لكلّ منها. وهي متجذرة إلى حد كبير في النهج التقليدي لـ سياسة الأمن والدفاع المشتركة. تهدف المؤسسات السياسية في الاتحاد الأوروبي إضافة إلى القدرات العسكرية والتكنولوجية في المقام الأول إلى خدمة هدف إدارة الأزمات في محيط أوروبا. ويتبلور ذلك جلياً من خلال تشكيل قوّة عسكرية مشتركة قوامها خمسة آلاف فرد.

في المرحلة التالية من البوصلة الاستراتيجية يتم التطرق إلى التحديات الأمنية التي يتم إساءة وصفها على أنها «ضبابيّة » مثل : المعلومات مضللة والدعاية والتدخل في الانتخابات والهجمات الإلكترونية وغيرها. في هذه المرحلة ، يركز الاتحاد الأوروبي على تأمين الحماية لمواطنيه، وبالتالي، يتخذ الإجراءات الوقائية في سبيل ذلك أكثر مما هو متبع في الإستراتيجية العالمية للسياسة الخارجية والأمنية للإتحاد الأوروبي . ومع ذلك، تظل هذه الأمور ثانوية بالنسبة لمسار البوصلة الاستراتيجية و تكهنات السياسة.

ختاماً، تحض الوثيقة الاتحاد الأوروبي على تحمّل مسؤولياته تجاه أمنه عبر مواجهة التحديات على حدوده أو ما هو أبعد من ذلك. كما يشير مصطلح « الإستقلال الإستراتيجي»  إلى خارطة طريق للمناقشات الأوروبية المستمرة على مدى السنوات الأخيرة.

أوجه القصور في المسودة

إن هدف البوصلة الإستراتيجية هو تحقيق إجماع حولها، حيث بإمكان دول الاتحاد الأوروبي مناقشة القضايا الشائكة حيال التهديدات التي تواجهها. في سياق الأمم المتحدة ، فإن « خيارات شجرة عيد الميلاد» لعمليات السلام معروفة جيداً، بيد أنها غير دقيقة وبحاجة إلى تركيز استراتيجي. بالقياس، يمكن الحديث عن «إستراتيجية شجرة عيد الميلاد» في ضوء البوصلة الاستراتيجية. و فيما يلي تحليل لأبرز أوجه القصور الأربعة في المسودة :

نقص الإرادة السياسية

لايزال الاتحاد الأوروبي غير قادر على منافسة القوى العظمى في ظل نظامه الداخلي الحالي وتصوره للسياسة الخارجية، حيث كان الغرض من تأسيس نظامه ليكون كمسودة مضادة لسياسات القوة العظمى الأوروبية في النصف الأول من القرن العشرين. إنه نظام يشمل دول الاتحاد والتي لازالت تتخذ قراراتها بشأن سياستها الخارجية بالإجماع ، ولم تلجأ إلى إستخدام أدوات القوة الصارمة و المفرطة.

بناء على هذه المعطيات، من الغريب أن التوجه الحكومي الدولي للسياسة الخارجية لا يلعب أي دور على الإطلاق في البوصلة الاستراتيجية. وبالتالي ، كنقطة انطلاق سياسية وتحليلية، يمكن الإقرار بإنجازات أعضاء الاتحاد الأوروبي في مجال الأمن، أو التأكيد على القيمة المضافة للتعاون في إطار سياسة الأمن والدفاع المشتركة، أو التأكيد على التحدي المتمثل في إنشاء الإرادة السياسية اللازمة للعمل المشترك.

وفي حال عدم القيام بذلك، فإن البوصلة الإستراتيجية ستتجاهل المشكلة الرئيسية للسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي، ولا علاقة للعديد من المؤسسات القائمة والتي تم إنشاؤها مؤخراً من جانب الاتحاد الأوروبي أو ضعف القدرات العسكرية من جانب الدول الأعضاء في عدم كفاءة و فعالية سياسة الأمن والدفاع المشتركة. كما أن عدم إستغلال الفرص المتاحة من قبل دول الاتحاد الأوروبي نتيجة إفتقاره للإرادة السياسية، سينعكس على قدرته في الصمود بوجه التحديات التي يفرضها خصومه الجيوسياسيون. بشكل عام، تفترض البوصلة الاستراتيجية قدرة الاتحاد الأوروبي على التصرف في حالات الأزمات وتقترح إرادة سياسية ذات كفاءة وفعالية .

على المدى المتوسط​، سيكون من المهم إعادة تصميم الإطار المؤسسي للاتحاد الأوروبي بحيث يمكن لأغلبية الدول إتخاذ قرارات نيابة عن جميع الأعضاء دون المساس بالشرعية والدعم. تهدف الأفكار التي تم تطويرها في السنوات الأخيرة لهذا الغرض إلى تسريع إجراءات اتخاذ القرار. كان أحد الاقتراحات هو إدخال تصويت الأغلبية في السياسة الخارجية والأمنية، والآخر لإنشاء مجلس أمن أوروبي _ وكلا النهجين فشل حتى الآن في الحصول على دعم الأغلبية بين دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين.

كما أن واضعي البوصلة الاستراتيجية على علم بنقاط العجز حيث يتم الإشارة إليها من خلال الاعتبارات الخاصة بجعل سياسة الأمن والدفاع المشتركة أكثر مرونة واستخدام المادة 44 من معاهدة الاتحاد الأوروبي. ووفقًا لهذه المادة، يجوز للمجلس بالإجماع «أن يعهد بتنفيذ مهمة ما إلى مجموعة من الدول الأعضاء التي ترغب في ذلك ولديها القدرات اللازمة لمثل هذه المهمة». أولاً، يتعين على الدول الأعضاء أن تتفق على السيناريوهات التي تريد أن تسمح لها بمرونة هذه المعاهدة المتمثلة بـ سياسة الأمن والدفاع المشتركة. كانت المقترحات بشأن ذلك مطروحة على الطاولة منذ عام 2015. إذا تم تطبيق المادة 44 من معاهدة الاتحاد الأوروبي بنجاح، فيمكن أن توفر حافزاً قوياً على المدى المتوسط ​​لتشكيل قوة موحدة والتعاون في مجالي الصناعة والدفاع بين دول الاتحاد الأوروبي وإجراءات اتخاذ القرار في سياسة الأمن والدفاع المشتركة. ومع ذلك، لا يزال من غير المؤكد ما إذا كان هذا سيوفر للاتحاد الأوروبي طريقة لتولي دور مستقل في السياسة الأمنية والدفاعية بين القوى الكبرى.

عدم تحديد الأولويات والطموح

لقد عرقلت قضيتان مترابطتان من أداء البوصلة الاستراتيجية لوظيفتها الحيوية، وهي توفير التوجيه الإستراتيجي للسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي على المستويين الداخلي والخارجي.

القضية الأولى ، لم يتم تحديد أولويات السياسة الأمنية بوضوح في الوثيقة. حيث إنها اقتصرت فقط على ذكر التنافس بين الولايات المتحدة والصين والتعددية القطبية للنظام الدولي باعتبارهما أكبر التحديات. ومع ذلك ، لم يتم التطرق إلى ما هو أبعد من ذلك من ناحية السياسة الأمنية. وفي هذا الصدد، هنالك أسئلة بحاجة إلى أجوبة مثل: ما هي عواقب هذا التغيير في أولويات السياسة الأمنية لواشنطن؟ و ما هي عواقب التصعيد العسكري حال إندلاع صراع بين الصين والولايات المتحدة ؟ ما هو موقف الاتحاد الأوروبي في حال أقدمت واشنطن على سحب قواتها بشكل كبير في ضوء هذه الأولوية؟

القضية الثانية، تشير الوثيقة بإسهاب إلى قدرات الاتحاد الأوروبي الحالية لإدارة الأزمات والتي لم يتم إنشاؤها بعد، لكنها تتجاهل مسألة مستوى الطموح للعمليات العسكرية المحتملة : ما المقصود بـ الانتشار السريع لقوات الاتحاد الأوروبي والبالغ عددها 5000 جندي ؟ لا تعطي البوصلة الاستراتيجية أية إجابات واضحة عما إذا كان سيتم نشرهم في عملية إخلاء قصيرة المدى ، كما حدث في كابول في أغسطس/آب 2021 ؛ أو في عملية استقرار طويلة الأمد، كما هو الحال في منطقة الساحل؛ لفرض منطقة حماية للمدنيين في بلد يعاني من حرب أهلية؛ أو لعمليات حفظ السلام على النحو المحدد من قبل الأمم المتحدة ، على سبيل المثال لا الحصر أربعة سيناريوهات محتملة لنشر هذه القوات.

وتتضح هذه المشكلة أكثر عندما يتم تحويل التركيز بشكل بعيد عن إدارة الأزمات ويتم التأكيد على أن الاتحاد الأوروبي مهمته تنحصر فقط في الرد على الأعمال العدوانية والخبيثة ضد إحدى دول الأعضاء وفقا للمادة 42 الفقرة (7) من معاهدة الاتحاد الأوروبي . وبناء على ذلك ، توسع البوصلة الاستراتيجية من مهام سياسة الأمن والدفاع المشتركة بشكل أكبر عبر إضافة رد عسكري على الهجمات المسلحة التي تطال أراضي دولة عضو بالإضافة إلى الإلتزام بتقديم الدعم العسكري الغير محدود.

يصبح الأمر أكثر إرباكًا عندما يتم إدراج محاولات مختلفة والتي من شأنها التأثير على السيادة السياسية للاتحاد وأعضائه من الخارج بوسائل غير عسكرية. ولعل التساؤلات التي ستثار عن هذا الموضوع بالتأكيد فيما إذا كانت مواجهة مثل هذه التهديدات يجب أن تكون من أولوية سياسة الأمن والدفاع المشتركة. وهل الاتحاد الأوروبي أكثر قدرة على مواجهة هذه التحديات من الدول الأعضاء المنضوية ضمنه أو المنظمات الدولية الأخرى؟ . دون تحديد أولويات واضحة، فإن السياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي سوف تكون عقيمة « ظاهرها يكذّب ما في داخلها» على الرغم من توفر الإمكانيات.

الافراط في إضفاء الطابع المؤسسي ونشر المسؤولية

يتعزز الانطباع بوجود شرخ في سياسة الأمن والدفاع المشتركة نتيجة للكم الهائل من المشاريع الجديدة التي حددتها البوصلة الاستراتيجية. بحلول عام 2030، يتعين على الاتحاد الأوروبي تنفيذ أكثر من 40 هدفًا في مجالات «العمل»  و «الأمن» و «الاستثمار» و “الشراكة” . وفقًا لخارطة الطريق الطموحة هذه، سيتم بناء قدرة الانتشار السريع للاتحاد الأوروبي بين عامي 2022 و 2025 ، وسيتم تعزيز هياكل القيادة ، كما سيتم تسهيل إجراءات اتخاذ القرار لنشر مهام وعمليات سياسة الأمن والدفاع المشتركة، بحيث يمكن من خلالها اتخاذ القرارات بشكل أسرع وأكثر مرونة. كما وينبغي تعزيز التضامن بين أعضاء دول الاتحاد الأوروبي من الناحية المالية التي تنشر قوات في الخارج _ بغضّ النظر عما إذا كانت تحدث في إطار الاتحاد الأوروبي أو في إطار تحالف خاص بقيادة أوروبا _ و كذلك الدول الغير مستعدة للقيام بذلك.

ولعل ما يبرز قوة مسودة البوصلة الاستراتيجية هو الإقرار بأن سياسة الأمن والدفاع المشتركة لم يتم دعمها بشكل كاف من قبل الدول الأعضاء، فضلاً عن عدم إبداء أي نوع من التضامن فيما بينهم. لفترة طويلة، افتقرت الدول الأعضاء إلى مثل هذه الشفافية. ومع ذلك، في الوقت نفسه، لا تزال البوصلة الإستراتيجية على طريق التطوير التدريجي لبرنامج سياسة الأمن والدفاع المشتركة. تُظهر العديد من الأمثلة أن هذا المسار الذي سلكته الدول الأعضاء لم ينجح حتى الآن، فعلى سبيل المثال، فقد كان تنفيذ التعاون المنظم و الدائم (بيسكو) بطيئًا. منذ إطلاقها في ديسمبر /كانون الأول 2017، اتفقت دول التعاون المنظم والدائم (بيسكو) على ما مجموعه 60 مشروعًا موزعة على أربعة مراحل تسعى من خلالها سد الثغرات فيما يتعلق بقدراتها في سياسة الأمن والدفاع المشتركة. في سبتمبر/أيلول 2020، خضعت المشاريع التي تم الإعلان عنها بين عامي 2017 و 2020 لمراجعة استراتيجية. كانت النتيجة واقعية: في أحسن الأحوال ، من المرجح أن يتم تنفيذ ثلث المشاريع فقط. علاوة على ذلك، لم تُظهر الدول الأعضاء حتى الآن سوى القليل من الجهد لترجمة التماسك المتصور عبر الوثائق بين المراجعة السنوية المنسقة للدفاع والتعاون المنظم و الدائم (بيسكو) وصندوق الدفاع الأوروبي إلى واقع عملي، وبالتالي السماح بمزيد من أشكال التضامن ما بين دول الإتحاد الأوروبي.

إن الطموح العسكري الضعيف والافتقار المستمر إلى الإطار السياسي للعمل يؤديان إلى إثارة المخاوف من أن يؤدي تعثر المشاريع الجديدة المدرجة ضمن البوصلة الإستراتيجية إلى تراجع سقف توقعات الشركاء الدوليين للاتحاد الأوروبي.  من المسؤول عن تنفيذ هذه الإجراءات الجديدة ؟ من الذي سيحدد وفي أي شكل وفي أي وقت ستجري الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مناورات عسكرية؟ هل سيشارك جميع الأعضاء في تخطيط المناورات وتنفيذها؟ أين سيكون مقر «الأدوات» الجديدة في هذه الاستراتيجية؟

تعلق البوصلة الاستراتيجية كل آمالها على الاجتماعات السنوية بين الممثل السامي ووزراء دفاع الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي. كما إن هذه الاجتماعات ستعمل على تقييم حالة تنفيذ مبادرات الدفاع المعتمدة منذ عام 2016. في حال بقى هذا النهج على حاله، فمن المرجح أن تشجع البوصلة الإستراتيجية مزيداً من البيروقراطية في سياسة الأمن والدفاع المشتركة ونشر المسؤولية عن مزيد من عمليات التطوير والتنفيذ. علاوة على ذلك، سيؤدي ذلك إلى تخلف لسياسة الأمن والدفاع المشتركة عن العدد المتزايد من الإجراءات والمبادرات التي تتحمل مفوضية الاتحاد الأوروبي مسؤوليتها. في وقت مبكر من نوفمبر/تشرين الثاني 2016، قدمت المفوضية خطة عمل دفاعية تهدف إلى تطوير وتوسيع سياسة الأمن والدفاع الأوروبية من خلال دمج السياسات الصناعية والمشتريات والبحثية المتعلقة بالدفاع للدول الأعضاء. ومن بين المشاركين في هذه الخطة «المديرية العامة لصناعة الدفاع والفضاء» و «المديرية العامة لشبكات الاتصالات والمحتوى والتكنولوجيا» التي تم تأسيسهما في عام 2020. وفي الوقت الذي تم تكليف المديرية العامة لصناعة الدفاع والفضاء بضمان القدرة التنافسية والابتكار في صناعة الدفاع الأوروبية وتنفيذ برنامج الفضاء الأوروبي، تقود المديرية العامة لشبكات الاتصالات والمحتوى والتكنولوجيا سياسة الاتحاد الأوروبي بنجاح في مجالات السوق الرقمية الموحدة ، والأمن السيبراني، والعلوم الرقمية، والابتكار.

وبهذه الطريقة تحاول المفوضية، من ناحية، التحايل على قيود سياسة الدفاع الأوروبية والتحفظات الحالية لبعض الدول الأعضاء ضد المزيد من التعاون والتكامل وتبرير مقترحاتها التشريعية بالمفاهيم الداخلية المتعلقة بالسوق. ثانياً، تسعى إلى تحويل تركيز سياسة الأمن والدفاع الأوروبية من مجال سياسي تهيمن عليه الدول الأعضاء إلى مجال دولي. يتوجب على الحكومة الألمانية الجديدة الآن أن تدرس بشكل نقدي ما إذا كان هذا التحول في توجه سياسة الأمن والدفاع المشتركة _ أي الابتعاد عن إدارة الأزمات نحو المرونة والسيطرة المستقلة على الفضاء الإلكتروني والفضاء الخارجي _ يتماشى مع أولوياتها وما إذا كانت تفضل نقل الكفاءات في مجال السياسة.

الإستقلالية مقابل الشراكة

حسب البوصلة الإستراتيجية لكي يصبح الاتحاد الأوروبي مصدراً للأمن الدولي، ينبغي عليه تطوير شراكاته. ففي الفصل الرابع، تشير الوثيقة من ناحية إلى أن الشركاء سيستفيدون من قوة الاتحاد الأوروبي. و من ناحية أخرى، يمكن للشركاء أن يكونوا عنصرا مفيدا للاتحاد الأوروبي في دعم التعددية وفرض القواعد والمعايير الدولية والمساهمة في السلم والأمن الدوليين . على غرار تحليل التهديد في البداية، تأخذ الوثيقة نظرة شاملة للعالم من هذا المنظور ، وتعد بأشياء كثيرة دون الكشف عن الأولويات الإستراتيجية.

من المفترض أن يكون أساس كل هذه الجهود هو الفهم المشترك لنهج متكامل عندما يتعلق الأمر بحل الأزمات وبناء القدرات الأمنية والدفاعية. بيد أن أهداف هذه العلاقات المشتركة تبقى عامة إلى حد كبير. وقبل كل شيء، لا يزال من غير الواضح السبب في افتراض هذا الشكل من الشراكات أن يساعد الاتحاد الأوروبي في التعامل مع الديناميكيتين المذكورتين أعلاه أو في زيادة سيادته الاستراتيجية.

ومن ناحية أخرى، تتسائل الدول الأعضاء حول الفائدة المرجوة من البوصلة الإستراتيجية وطبيعة علاقتها وتعاونها في ظل هذا الاتحاد . وهل سيقف الاتحاد الأوروبي إلى جانبهم بشكل فعلي أو من خلال تقديم الأسلحة في حال نفذت كيانات إرهابية هجمات ضد مؤسسات الدولة أو البنية التحتية الحيوية، وما هو موقف الاتحاد في حال سعي دول أخرى إلى تدمير النسيج الإجتماعي من خلال حملات التضليل الممنهجة، كذلك ما هو موقفه في حال تم إغلاق طرق التجارة أو مراكز النقل، أو ما الذي سيحدث اذا ما إنتهكت معاهدات نزع السلاح وسلامة أراضيها ؟ هل المناورات العسكرية التي تقوم بها بعض الدول الأعضاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ ، على سبيل المثال ، كافية لضمان مكانة الاتحاد الأوروبي كمصدّر للأمن للعالم في الوقت الحالي ؟

ومن الناحية السياسية، فإن النقطة الأكثر حساسية أثناء صياغة مسودة البوصلة الإستراتيجية هو الخلافات بين دول الإتحاد الأوروبي بشأن علاقة سياسة الأمن والدفاع المشتركة بمعاهدة حلف الناتو، وبالتالي مع الولايات المتحدة. وحسب مسودة الوثيقة فإنها لا تتعارض مع مبادئ حلف الناتو. كما وينبغي تطوير آفاق التعاون و تبادل المعلومات فيما بين دول الاتحاد بشكل أكبر . وهذا من شأنه أن يمكّن الاتحاد الأوروبي و الناتو من إجراء تدريبات مشتركة. وفي سياق متصل، دعت البوصلة الإستراتيجية إلى « تقليص التبعيات الإستراتيجية وزيادة سيادة الاتحاد التكنولوجية». ربما لهذا السبب، لم تتطرق الوثيقة إلى كيفية تطوير آفاق التعاون مع الناتو فيما يتعلق بتصميم الأسلحة وشرائها. علاوة على ذلك، لم تتطرق البوصلة الإستراتيجية إلى الجمود الذي ساد العلاقات بين المنظمتين لسنوات. بالنظر إلى الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس جون بايدن، وهي أول إدارة أمريكية تدعم تطوير سياسة الأمن والدفاع الأوروبية وإعطائها مزيداً من الاستقلالية، فإن البوصلة الاستراتيجية تصبح بمثابة فرصة ضائعة هنا.

على النقيض من ذلك، تبدو حكومة المستشار أولاف شولز مشككة إلى حد ما في جهود إستقلالية أوروبا وتعتمد على ما هو واقعي. على سبيل المثال، تنص اتفاقية التحالف بشكل واضح على أن الشراكة عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة هي ركيزة أساسية لسياسة الأمن الألمانية. تدعو الحكومة الجديدة إلى تجديد وتنشيط العلاقات عبر الأطلسي من أجل استقرار النظام الدولي القائم، ومواجهة الأنشطة الاستبدادية، وتكثيف التعاون مع الدول الشرقية والجنوبية للاتحاد الأوروبي. لا يبدو هذا بمثابة إعادة توجيه إستراتيجي للسياسة الأمنية الألمانية في ظل السيادة الاستراتيجية الأوروبية.

المنظور الفرنسي

في يناير /كانون الثاني 2022، بدأت مراجعة البوصلة الاستراتيجية باجتماع لوزراء الخارجية والدفاع في الاتحاد الأوروبي في بريست. ستستغل فرنسا ذلك لوضع بصمتها في الوثيقة حتى اعتمادها من قبل المجلس الأوروبي في مارس/أذار 2022. حتى في نسخة مسودة نوفمبر/تشرين الثاني، تمكنت باريس من ضمان أن سياسة الأمن والدفاع في الاتحاد الأوروبي تتجاوز إطار معاهدة سياسة الأمن والدفاع المشتركة. يمكن ملاحظة ذلك في الفقرات الخاصة بسياسة الفضاء والأقمار الصناعية، والتي تستخدمها باريس لتوجيه تمويل الاتحاد الأوروبي إلى صناعتها الفضائية. ووفقًا للوثيقة، تمكّن التحالفات الأوروبية أيضاً المطالبة بنفقاتها للبعثات العسكرية من خلال التكاليف العامة للاتحاد الأوروبي في المستقبل. منذ عام 2017، تعمل باريس أيضا على إعطاء شكل ملموس للالتزام بتقديم المساعدة وفقا للمادة 42 الفقرة 7 من قانون الاتحاد الأوروبي.

في الصيغة المقبلة للنسخة النهائية، من المرجح أيضا أن تصر باريس على وضع جداول زمنية طموحة للقدرات الاستراتيجية الأساسية. علاوة على ذلك ، كانت حكومة ماكرون تدفع منذ فترة طويلة نحو مستوى من الطموح في السياسة الأمنية والدفاعية من شأنه أن يسمح للاتحاد الأوروبي بتحصين نفسه وجواره ضد محاولات أطراف ثالثة لممارسة نفوذ سياسي واستراتيجي ، وهو ما سيمكنه من القيام بذلك متابعة مصالحها بمصداقية حتى في المناطق البعيدة مثل المحيطين الهندي والهادئ.

التوصيات

يتوجب أن تستغل الحكومة الألمانية الجديدة الفرصة وتحقق أقصى إستفادة أثناء مراجعة البوصلة الاستراتيجية بحلول مارس/أذار 2022. وعلى وجه التحديد ، يجب أن تستخدم المفاوضات من أجل:

◾المطالبة في وضع خارطة طريق واضحة للوثيقة. قد تبدو هذه التوصية غريبة، ولكن الأكثر غرابة هو أن البوصلة الاستراتيجية، بعنوانها الذي يدمج مفهومين بشكل غير مباشر ( الاستراتيجية تحدد الأهداف ووسائل تحقيقها؛ فيما تساعد البوصلة فقط في إيجاد الطريق من نقطة إلى أخرى) ، ومن غير الواضح ما هو مفترض أن يكون حيال: اشتقاق سياسة خاصة بمجال معين من الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي، أو برنامج عمل لمؤسسات بروكسل حتى عام 2030، أو إشارة إلى بقية العالم فيما يتعلق بأهداف السياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي ؟

◾الضغط من أجل توضيح النطاق الإقليمي للبوصلة الإستراتيجية أو تحديد الأولويات وفقًا لذلك. وفي حال التمعّن فيما ذكرته الوثيقة من التهديدات كذلك نظام الشراكة، لابد من أخذ انطباع بأن الاتحاد الأوروبي يوفّر الأمن ومصدر ملهم للعالم. ومع ذلك، فإن الاستنتاجات التنفيذية لا تدع مجالاً للشك في أن تركيز الوثيقة واقعي على الجوار الأوروبي. وبهذه الطريقة، سيثير الاتحاد الأوروبي توقعات خاطئة فيما بينه وبين الآخرين: في حين أن لديه مصالح عالمية، فإنه لن يكون قادرًا على التصرف بشكل مستقل في جميع أنحاء العالم فيما يتعلق بالسياسة الأمنية.

◾أيضًا من حيث الوظيفة، يجب الدفع باتجاه تحديد الأولويات. لم يتضح بعد ما هو التحدي الأمني ​​المركزي ، في رأي الدول الأعضاء، في السنوات القادمة، والذي يجب أن تكون الخطط المتجانسة و المناسبة موجهة إليه في المقام الأول، وما هي متطلبات المقدرة التي يمكن اشتقاقها منها. هل هي في الغالب إدارة الأزمات في الأطراف الأوروبية، أو الحماية من الإرهاب الإسلامي أو الدفاع ضد المعلومات المضللة والهجمات الإلكترونية؟ يجب أن تستند المراجعة النقدية للعديد من المشاريع الواردة في المسودة إلى هذه الخطوة. إن التركيز على المشاريع الاستراتيجية الأساسية من شأنه أن يعزز مصداقية الاتحاد الأوروبي في مجال الأمن الدولي.

◾التطرق إلى آراء أعضاء الإتحاد الأوروبي وتوقعاتهم بشأن الدور الأمني ​​للولايات المتحدة في أوروبا. لعل اكثر أمر سلبي  في مسودة البوصلة الإستراتيجية هو افتراضها أن التنافس بين النظامين الصيني الأمريكي هو المحدد لسياستها الأمنية الخاصة، بيد أنها تتعامل مع دور الولايات المتحدة بطريقة المماطلة . هل يتوقع أعضاء الاتحاد الأوروبي استمرار انحسار مستوى المشاركة الأمنية الأمريكية في أوروبا، خاصة بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة في أواخر عام 2024، أم أنهم يتوقعون استمرار السياسة الأمريكية تجاه أوروبا؟ ينبغي التركيز على ذلك خاصة بالنسبة للاتحاد الأوروبي.

◾ أن تحدد لشركائها في الاتحاد الأوروبي ما يعنيه مستوى الطموح المصاغ بإيجاز ولكن بعيد المدى في اتفاق التحالف بشأن التكامل الأوروبي ( مزيد من التطوير للاتحاد الأوروبي ليكون دولة أوروبية فيدرالية ) في مجالي الأمن والدفاع. هل من الممكن أن تتخذ ألمانيا المزيد من الخطوات نحو تكامل أعمق هنا، على الرغم من حقيقة مفادها أن اتفاق التحالف لا يعالج مسألة إنشاء جيش أوروبي؟ وينبغي لبرلين أيضاً أن تغتنم هذه الفرصة لإضفاء الطابع السياسي على البوصلة الإستراتيجية وأن تحدد الملامح النهائية لمجال سياسة الاتحاد الأوروبي هذه .

◾أخيرًا، يتوجب على الحكومة الألمانية تقديم وثيقة تنفيذية بشأن الاستنتاجات الألمانية من البوصلة الاستراتيجية في أوائل صيف 2022. وبهذه الطريقة، يمكنها أن تبرهن للعالم الخارجي جديتها في استخلاص النتائج لتخطيط سياستها الأمنية الخاصة بها لصالح الاتحاد الأوروبي. كما إنها عازمة  داخلياً على منح البوصلة الاستراتيجية طابعاً استراتيجياً حقيقياً للسياسة الألمانية.

المصدر: المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية 

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد