مايكل هيرش
يعد غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشامل لأوكرانيا أكبر اختبار لسلطة ونزاهة الغرب الديمقراطي خلال 77 عاماً منذ استسلام ألمانيا النازية. في بعض نواحيه، قد تكون مناورة بوتين اختباراً أكبر حتى من اختبار أدولف هتلر، نظراً لأن روسيا تمتلك أسلحة نووية ولمّح بوتين إلى استخدامها حتى في حال قام الغرب بالرد.
قال كونستانز ستيلزنمولر ، الخبير في العلاقات الأوروبية في معهد بروكينغز “لقد هددنا بوتين باستخدام الأسلحة النووية إذا حاولنا مساعدة أوكرانيا، هذه فعلياً نهاية ترتيبات ما بعد الحرب الباردة. علينا أن نفهم أن هذا الهجوم على أوكرانيا هو هجوم علينا جميعاً يمتد إلى ما هو أبعد من أوروبا والعلاقات عبر الأطلسي”.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أقامت الولايات المتحدة وحلفاؤها نظاماً لحفظ السلام والمؤسسات الاقتصادية مصمماً لمنع وقوع حرب كبرى أخرى. منذ ما يقرب من ثمانية عقود، عمل هذا النظام بشكل فعال إلى حد ما، حتى في مواجهة الحرب الباردة. لكنها تواجه الآن أكبر تحدٍ لها. ويرجع ذلك جزئياً إلى أنه باستخدام حق النقض في مجلس الأمن، يمكن لبوتين بسهولة تحويل الأمم المتحدة إلى عصبة الأمم، أي “دكانة” نقاش غير فعال استهزأ بها هتلر والفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني على المسرح العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي.
ستضطر كل دولة كبرى إلى اتخاذ موقف معين، كما يعتقد ستيلزنمولر ومحللون آخرون، بما في ذلك الدول الصديقة لبوتين مثل الصين والهند، اللتين كان قادتهما مترددين في انتقاد توغّلاته في أوكرانيا والدول المجاورة الأخرى مثل جورجيا في الماضي. بالنسبة للدول الأوروبية على وجه الخصوص، مثل ألمانيا، فقد حان الوقت أيضاً لإعادة التفكير في بنيتها التحتية الحيوية، وخاصة اعتمادها في مجال الطاقة على روسيا.
تبدو معظم الأزمات العالمية الكبرى منذ الحرب العالمية الثانية قضايا ثانوية نسبياً مقارنة بما بدأه بوتين حالياً. عندما غزا الاتحاد السوفيتي المجر في عام 1956، أثار رد فعل الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور في حينه انتقادات محلية، لكن العالم آنذاك كان منقسماً بشكل صارخ بين الشرق والغرب. لقد كانت ذروة الحرب الباردة، ومع سيطرة السوفييت بالكامل على الكتلة الشرقية المعزولة، لم يكن هناك نظام دولي حقيقي لتعطيله. الشيء نفسه تكرر عندما سحق السوفييت ربيع براغ في عام 1968، متظاهرين أن غزوهم كان مناورة مشتركة في اطار حلف وارسو.
عندما غزا الديكتاتور العراقي صدام حسين الكويت في عام 1990، وجد نفسه معزولاً تماماً من قبل المجتمع الدولي في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوس الأب، الذي نجح في استصدار قرارات من مجلس الأمن الدولي ضده، فضلاً عن قوة متعددة الجنسيات. تم عزل الديكتاتور اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش أيضاً عندما شن إبادة جماعية ضد مسلمي البوسنة وكوسوفو. وقفت روسيا على الحياد، وحتى أنها ساعدت في ايجاد حل دبلوماسي في كوسوفو.
في النهاية، ظلت كل واحدة من هذه الأزمات، على الرغم من كونها مروعة، منعزلة إلى حد ما. بينما الأزمة الحالية تبدو مختلفة. قال الدبلوماسي الأمريكي الكبير السابق جوزيف ناي، الباحث في جامعة هارفارد “في حين أن معايير ما بعد عام 1945 المتمثلة في عدم الاستيلاء على أراضي الجوار بالقوة قد تم تحريفها في الماضي، إلا أنها اليوم تبدو أقرب إلى الانهيار”.
في تشبيه آخر لهتلر في الثلاثينيات فقد بنى بوتين أفعاله على مزج وهمي بين الأسطورة والحقيقة. برر الديكتاتور النازي تحركاته المبكرة، مثل احتلال منطقة راينلاند المنزوعة السلاح وضم النمسا، على فكرة أنه كان يعيد توحيد الشعوب الناطقة بالألمانية ويفكك مظالم معاهدة فرساي. وبالمثل، يحب بوتين التحدث عن التاريخ الطويل للشعوب الناطقة بالروسية في أوكرانيا ودول الكتلة السوفيتية السابقة الأخرى مثل جورجيا (التي غزاها أيضًا)، فضلاً عن توسع الناتو باتجاه الشرق في الكتلة السوفيتية السابقة.
في خطاب غاضب يوم الاثنين قال بوتين “أوكرانيا ليست مجرد دولة مجاورة لنا. إنها جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا ومساحتنا الروحية” يفهم هذا الخطاب الآن بأنه كان مبرراً لغزوها.
يبدو أيضاً أن حسابات بوتين خلصت إلى أن الوقت قد حان لتحقيق طموحاته لإعادة روسيا إلى عظمتها الإمبريالية الماضية، في ذروة عهد الاتحاد السوفيتي. قام بتقييم تأثير العقوبات على بلاده منذ توغله الأول في عام 2014، عندما ضم شبه جزيرة القرم واستولى جزئياً على منطقة دونباس الأوكرانية، فقرر أنه ممكن تحمّلها. من الواضح أنه قرر أنه إذا لم يتحرك الآن، فقد تدرك أوكرانيا طموحها في الانضمام إلى الناتو، والذي بموجب المادة 5 من معاهدة شمال الأطلسي قد يلزم الغرب برد عسكري.
كما أدرك الرئيس الروسي على ما يبدو أن بلاده أقل اندماجاً في الاقتصاد العالمي من الدول الكبرى الأخرى مثل الصين، باستثناء صادراتها من الطاقة. سخر السناتور الأمريكي جون ماكين ذات مرة من روسيا ووصفها بأنها “محطة وقود تتنكر في شكل دولة”.
قال نائب وزير الخارجية الأمريكي السابق جيمس شتاينبرغ، وهو الآن عميد كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز “نفوذنا على روسيا أقل بكثير بسبب عزلتها الاقتصادية النسبية. أنا متأكد من أن بوتين يعتمد على حقيقة أن الناس سيعودون في نهاية المطاف للشراء لأنهم بحاجة إلى النفط والغاز. أعتقد أنه فكر في ذلك”.
قبل كل شيء، يعرف بوتين أنه بالإضافة إلى ردعه النووي، فقد بنى قدرة إلكترونية قوية. في أواخر كانون الثاني (يناير)، ذكرت شبكة سي أن أن أنه وفقاً لتقرير استخبارات وزارة الأمن الداخلي الأمريكية، قد ترد موسكو بهجوم إلكتروني واسع النطاق على أمريكيا إذا اعتبر رد الولايات المتحدة أو الناتو على الغزو الروسي لأوكرانيا تهديداً لروسيا وعلى أمنها القومي على المدى الطويل”. ذكر التقرير أن “روسيا تمتملك مجموعة من الأدوات الإلكترونية الهجومية التي يمكن أن تستخدمها ضد الشبكات الأمريكية، من أبسط مستوى لتعطيل بعض الخدمات وصولاً إلى الهجمات المدمرة التي تستهدف البنية التحتية الحيوية”.
ومع ذلك، قد يكون هناك جانب مضيء. في الوقت الذي غمرت فيه المشاعر القومية العديد من البلدان وتراجع التعاون الدولي، يمكن أن يوفر عدوان بوتين فرصة لتقدير الحاجة إلى الوحدة الديمقراطية مجدداً، والتي قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إنها أحد أهدافه الرئيسية خلال رئاسته. في تصريحات الخميس، قال بايدن إن الرد طويل الأمد للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي سيكون هدفه تقويض القدرة العسكرية والاقتصادية لروسيا من خلال عقوبات شديدة على قيادتها وشركاتها ومصارفها. ووصف غزو بوتين بأنه “اعتداء على المبادئ الداعمة للسلام العالمي”.
يدفع بوتين الغرب والنظام الدولي لما بعد الحرب إلى حدود لم يتم اختبارها من قبل. قال شتاينبرغ “هذه دعوة للناس للاستيقاظ للتعرف على محددات ما تم بناؤه منذ الحرب العالمية الثانية”.
المصدر: فورين بوليسي
ترجمة: المركز الكردي للدراسات