غداة الاحتفال باليوم العالميّ للفلسفة: هل للفلاسفة دور في عالمنا المتغير؟

بدر الحمري

في كتابه ‘ثورة الأمل’ يقول الفيلسوف الألماني والمحلل النفسي المعاصر إريك فروم: « إننا نعيش أزمة الإنسان الحديث، ولم يبق أمامنا كثير من الوقت،  فإذا لم نبدأ منذ الآن، من المحتمل أن يكون غداً قد فات الأوان » (ص:  176).

في كل خميس ثالث من شهر نوفمبر / تشرين الثاني يحتفلُ العالم باليوم العالمي للفلسفة، نظراً للقيمة المائزة للفكر الفلسفي في جميع الثقافات وعند كل الأفراد، ومن شأن الفلسفة كما بينت ذلك منظمة اليونسكو الدولية أن تُقيم الحوار بين الثقافات، وتكشف تنوع التيارات الفكرية، وتساعد على بناء مجتمعات قائمة على مزيد من التسامح والاحترام والعدالة الاجتماعية، وذلك من خلال الحث على إعمال الفكر ومناقشة الآراء بعقلانية.

كما تعدّ الفلسفة وسيلة لتحرير القدرات الإبداعية لدى البشرية من خلال إبراز أفكار جديدة مبدعة تساعد – المهتمين بها من كل مكان أو فئة – على تيسير ظروف فكرية مواتية لتحقيق التغيير والتنمية المستدامة وإحلال السلام. لكن السؤال الذي نطرحه دائماً في كل مناسبة آحتفالية بالفلسفة – أو حتى من دونها – هل بيد الفلاسفة تيسير هذه الظروف من أجل تغيير نظرة العالم إلى نفسه أولا ونظرته إلى مستقبله ثانياً؟ ونضيف إلى هذا سؤال آخر لا يقل أهمية عن السابق: إلى أي حدّ يمتلك الفيلسوف القدرة على صناعة عالم يشبه فلسفته، أليست إرادة صنع العالم بيد السياسي أكبر من الفيلسوف؟ المؤلم في الأمر أنّ اللقاء بين الفيلسوف والسياسي نادراً ما يتحقق، نظراً لاختلاف المسارات بينهما؛ فالأول يتحرك من منطلق التفكير الناقد، المندهش، والمسائل لكل شيء .. وهكذا يجدُ نفسه أمام فائض من الأحداث اليومية عليه أن يواجهها ويقدم رأيه فيها، لكن هل يستطيع ذلك فعلا، هل يستطيع أن يواكب تسلسل الأحداث وتوالدها في كل حين، وهكذا يرادُ لهُ أن يكون، بينما الثاني تغريه اللحظة، وتضغط عليه من أجل توليد مواقفه منها، لذلك يسارع إلى القبض عليها قبل أن تقبض عليه أو تنفلت منه. كما أنه من النادر جداً أن يجتمع في الشخص الواحد صفة الفيلسوف – السياسي، أو السياسي- الفيلسوف على قدر المساواة، وهنا لا بدّ وأن نشير إلى حلم الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي جعل على رأس جمهوريته الفلاسفة حكاماً، فلم يرضى عن حكم الفلاسفة بديلا، وكثير من الفلاسفة تقدموا لتجربة الحكم السياسي كما هو الحال لمحاولة الفيلسوف سلافوي جيجيك من خلال ترشحه في الانتخابات الرئاسية لسلوفينا سنة 1990 .. فلم ينجح الأمر! فهل كل الفلاسفة لهم صلاحية الحكم السياسي أم هناك، فقط، فئة منهم مميزة بالقيادة تسكنها الروح الفلسفية الصُّلبة؟

الفلسفة في عالم متغير .. شرقاً وغرباً !

أي حضور للفلسفة، ومن خلالها الفلاسفة، في عالم متغير لا يستقر على قرار واحد؟

نحن نعلمُ على وجه الدقة، من باب التجربة والتفاعل مع مشاريع الفلاسفة شرقاً وغرباً، أنّ الفكر الفلسفي من شأنه أنّ يعلّمنا التفكير السليم، الحر، والنقد للأوضاع المعقدة وتفكيكها، خاصة ونحن اليوم نعيش تحديات صعبة جداً، منها على سبيل المثال لا الحصر: التغيرات المناخية، ظلم الجماعات المتطرفة واعتداؤها، ليس فقط على الغير، بل على بعضهم البعض، كما يحصل اليوم بين داعش وأخواتها ! وتفريخ التيارات الإسلاموية لإشكالات عويصة تتصل بمدى اندماج المسلمين المتبنين لفكرها المتطرف في المجتمعات المستقبلة لهم، سواء بوصفهم ضيوفاً أو لاجئين أو غير ذلك، فضلا عن الاستغلال الديني الفاحش لتلك التيارات لمآربها السياسوية ( وليس آخرها تجنيد الأطفال القاصرين للقيام بعمليات إرهابية ) ثم تحديات التمييز العنصري والعرقي والثقافي، وتراجع حريات التعبير، وتفشي الأحكام المسبقة، وتسلط الأوهام، وسلطوية الايديولوجيات الدموية المتغطرسة .. ومشاكل المهاجرين أو طالب اللجوء بنوعيه الانساني والسياسي، أم ان الفلسفة لا علاقة لها بما سبق!

كثير من القضايا الإنسانية المصيرية يبقى معها التفكير الفلسفي المنطقي الناقد اليوم يعيش فُرصته الذهبية المناسبة؛ أولا نقده لأسطورة موت الفلسفة وتغلب العلوم عليها، وثانياً هدم أسس أسْطَرَتِها أو أسطَرت – يوتوبيا الفيلسوف المُخلّص؛ فالفلسفة ليست حلماً يَعِدُ بالخلاص، لأن هذا ليس من مَهامِها أبداً، ولا يمكن أن تجد فيلسوفاً واحداً يصنع ذلك ما دام الخلاص مفهوماً ميتافيزيقياً أكثر منه مفهوماً (تجريبياً) أو حتى (واقعياً).

 إذن، من خلال ما سبق، يبدو أنّ أول عمل يقوم به الفيلسوف اليوم: أن ينتقد وضع الفلسفة في تصوُّرات العامَّة، التي تشبه إلى حدّ ما التصورات البدائية، تِلكَ التي ترى في الفيلسوف قيمة خارجة عن أيِّ وجود في المجتمع وبين أفراده ومخاضاته من جهة، ومن جهة ثانية تقويض بناء الأساطير بصفة عامة، وتشجيع الفلاسفة والمهتمين بمحبة الحكمة على ترسيخ الروابط الإنسانية، وهذه الرسالة تنهضُ بها في المقام الأول الإرادة السياسية الصُّلبة، ثم يأتي بعد ذلك المشتغلين بالفلسفة سواء منهم المنخرط في المنظمات غير الحكومية أو المؤسسات التربوية أو الجامعات أو المعاهد من جميع التخصصات المتصلة بالفلسفة مثل العلوم الإنسانية أو الطبيعية ..

الانتصار لقيم الخير والحق والجمال مبادئ بديهية ينتصر لها الفيلسوف، لكن تبقى كيفيات تحققها من الأسئلة الشائكة التي تواجهه أيضاً.

الفلاسفة وتكنولوجيا الافتراضي

تبين الأحداث المتسارعة اليوم اشتعال العالم في أكثر من منطقة، كما تدلّ على أنّ الإنسان المعاصر في تواصله آختار ألا يتواصل، أو إنه يتواصل ولكن بوصفه ‘عيان’ وليس ‘شاهِداً’؛ والأمر يختلف إذا جمعنا بين الاثنين؛ فالعالم اليوم يتابع – عن جدارة واستحقاق أزمة المهاجرين عند الحدود البيلاروسية وبولاندا مثلا، يتابع أولاين فقط، إلا قليلا جداً منهم! وهؤلاء المهاجرين أغلبهم ‘هارب’ من ويلات الحروب التي نشبت في بلادهم الشرقية بعد ما سميّ بــــ’الربيع العربي’، وبالتالي فإن وضعهم حرج جداً، وإذا كانت القيم الفلسفة هي قيم الخير والحق والجمال فإنها كافية لجعل هؤلاء في ضيافة شريفة لدى الأوطان التي اختاروها للهجرة إذا ما كانت القيم الفلسفية قيم كونية. لكن المهتمين بالفلسفة وغيرهم من الفلاسفة يجلس يشاهد عبر تقنياتنا التكنولوجية تلك اللقطات « الباردة- الساخنة » عبر خراطيم مياه مختلفة اللون. ليعود السؤال قفزه من جديد: ما دور الفلسفة في عالم متغير؟ وعالمنا الافتراضي الذي ينقل لنا ذلك الحدث، ألا يؤثر على تصوراتنا للحياة والإنسان والكرامة مثلا؟

من وجهة نظر الفيلسوف سلافوي جيجيك إننا نعيش في كون آفتراضي، من ثمة يطرح الأسئلة الآتية: فهل نفقدُ – بسبب هذا العيش – التواصل مع الواقع الأصيل؟ هل قمنا بتغريب ( من الغرابة ) أنفسنا بشكل كليّ؟ هنا نلتقي مجدداً بالأطروحات الجامعة الفارقة: يمكننا التفكير بما بعد حداثيين كان بمقدور ذاتيتهم المتنقلة الرائعة الانتقال من واقع زائف إلى آخر، أو محافظين ومحافظين- يساريين نوستالجيين سيكون الأمر بالنسية لهم عاراً، إذ يقولون إنّ علينا، حقيقة، العودة إلى التجربة الأصيلة. يجب أن نفعل شيئاً مختلفاً: تحديداً، رفض مفاهيم الجدال، والقول، لا الواقع الافتراضي ليس هو المشكلة، بل إنّ المشكلة هي واقع الافتراضي. كيف يمكنُ فعل ذلك؟

إننا نخلق واقعنا الافتراضي فنصدق أنه هو الواقع الحقيقي، ‘الافتراضي هو أي شيء محدد، ولكن ليس كاملا؛ إنه لو شئتم، الأثر الفعلي للواقع. وهنا تكمن المشكلة الحقيقية.

فما الذي ينبغي عمله عندما تفقدُ البشرية واقعها الانساني- مع الإنسان وتعيش في الافتراضي: هل نكرس حياتنا للسعي وراء ذلك أم نؤسس لنقد فلسفي جديد موجه إلى عنف الافتراضي؟

الفلسفة خرق لقوانين الكينونة

حدث المهاجرين، وأحداث أخرى، هي التي تدعوناً إلى التفكير فيها فلسفياً، ومحاولة تجديد النظر في وضعنا البشري من خلال خرق قوانين الكينونة وتمزيقها، فيكون هذا الخرق – كما يرى ألان باديو- هو الحدث؛ وفقط، عبر مواجهة المرء لحقيقة حدث ما، يصبح هذا الشخص ذاتاً، أي أنّ الذاتية حسبه ليست إرثاً إنسانياً بل هي مُكتسبة.

لقد كان لكثير من الفلاسفة قول في الأحداث المعاصرة لهم منذ بداية النصف الثاني من القرن 21 على الأقل، يؤخذ بمواقفهم من أجل تحسين الأوضاع الجارية إلى أحسن .. وكذلك الشأن اليوم، وإنما استغرابنا كيف أنّ مساحة تدخل الفلاسفة اليوم قلت مقارنة مع الماضي القريب، وتم استبدالهم بآراء لاعبي كرة القدم، وعارضات الأزياء وتجار الأرواح مثلا، وعلى ‘أهمية‘ هذه الآراء إلاّ أننا نريد أن تكون مواقف أهل الفلسفة حاضرة أيضاً. لكن هل من واجب الفيلسوف أن يهيم في الأحداث حقاً؟

نقترحُ هنا الإجابة الآتية: « لم يعد كافياً مجرد الإجابة بأن على الفيلسوف ألا يكتفي بتفسير العالم، بل ينبغي أن يغيِّرَهُ » .. وربما آن أوانُ فهم العالم وتغييره في الآن نفسه قبل فوات الأوان !

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد