حميد دباشي يعلن موت الدولة الأمة في «الامبراطور عارٍ»

فرهاد حمي

“كنا أعداء الدولة والدولة هي عدوتنا. هكذا ورثنا إضفاء الطابع المؤسساتي على الاستحالة، والاغتراب الذاتي، وكراهية الذات عندما فكرنا في استيراد فكرة الدولة القومية، لنصبح في طور “الحداثة”. في نهاية حقبة ما بعد الاستعمار للمشروع الأوروبي، تم تصويرنا كأجانب دائمين، حتى ونحن في أوطاننا “.

بهذه الجمل التمهيدية الصادمة، يدشن المفكر الإيراني، حميد دباشي، كتابه المعنون “الإمبراطور عارٍ..الموت الحتمي للدولة  الأمة“، الذي صدر عام 2020 من تسعة فصول، ولم يترجم إلى اللغة العربية بعد. إذ يأخذ دباشي أطروحته من العالم الإسلامي والعربي فضاءً مكانياً له، تماشياً مع موجة الاحتجاجات الشعبية خلال العقد المنصرم.

 دباشي، المنظر الأكثر شهرة في أطروحة “ما بعد الاستشراق” ومابعد الاستعمار، يهز بأطروحته هذه الصنم الجاثم على الثقافة السياسية لعموم العالم الإسلامي والعربي. إذ فصل مفهوم الأمة عن الدولة، محدثاً بذلك شرخاً في أسطورة “الدولة الأمة”Nation Stata)) والتي تترجم عادة في الأدبيات العربية بـ”الدولة القومية“. بهذا الشكل يسحب دباشي مفهوم السيادة والشرعية من جهاز الدولة والكيانات المعارضة التي تبادلها ذات الإيديولوجية. ويؤكد أن الشرعية الوحيدة الباقية لهذه الدول والكيانات (المقصود هنا جميع دول العالم الإسلامي والعربي، وكذلك الجماعات الجهادية الإسلامية المتطرفة) تكمن في القتل والذبح والتهجير.

 إنها نهاية التلفيق الكاذب لـ“الدولة الأمة” كما يقول لنا دباشي. وإن كانت هنالك موعظة مستنطبة من الربيع العربي والاحتجاجات في العالم الإسلامي عموماً، رغم كل التشوهات للثورات المضادة المصاحبة، فهي تتمثل، وبشكل قاطع، في فشل الإرث الاستعماري لـ “الدولة القومية” كوحدة متماسكة في إنتاج شرعية دائمة لنظام حكم ما بعد الاستعمار. فالدول الحاكمة من إيران إلى المغرب ومن تركيا إلى اليمن تصنع شرعيتها اليوم بقوة العنف وبإدعاء كاذب بالسيادة الشعبية بالطلاق الكامل عن الأمم التي تحكمها. وهذا بالضبط حال جميع الحكام في الشرق الأوسط مثل ما يؤكد دباشي، وهو يعد  كل من أردوغان وبشار الأسد والملك السعودي وعبد الفتاح السيسي وملالي إيران والكيانات الإسلامية الدموية التي تزعم الخلافة وما شابه، كأمثلة لهذه الخدعة الزائفة.

 فكيف لنا إذن أن نقرأ مصير البلدان من المغرب إلى إيران ومن تركيا إلى اليمن وبقية آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية في أعقاب الانتفاضات العالمية التي أعلن عنها الربيع العربي؟ ما الذي سيحل محل “الدولة القومية”، وما هي تداعيات هذا التفكك على العالم بأسره؟ هل سيتابع الربيع العربي، فوضى جامحة لا تنتهي، أم أن شيئًا آخر، مختلفاً، سيظهر على المدى الطويل؟

يطرح دباشي هذه الإشكاليات في مقدمة أطروحته، ويعدنا بإجابات نقدية وتفكيكية، متسلحاً بخبرته التاريخية الغنية وبثقافته الموسوعية حول سلطة الاستشراق وما بعد الاستشراق.

يعتبر دباشي أن أهم محك في تفكير ما بعد الاستعمار الذي تركه إدوارد سعيد، يتمثل في تحاشي تفكيك أسطورة الدولة الامة. حيث بنيت هذه الاسطورة مع صعود الحداثة الرأسمالية وغزواتها صوب مستعمراتها، ومنها الشرق الأوسط. ومع ذلك يحمل الشرق نصيباً كبيراً في  تأليه أسطورة سيادة الدولة بمنأى عن رغبة الأمة. فهذه الأسطورة الموغلة في تاريخ الشرق الأوسط الطويل تداخلت في نهاية المطاف مع الحداثة الرأسمالية. ليغدو التحدي الرئيسي أمام دباشي في مقولته هذه : “كلنا نعرف أن هذه الدول غير شرعية، حان الوقت الآن، التفكير في عواقب هذه اللاشرعية“.

الملك ذو الجسدين

 لبرهنة أسطورة فصل الدولة عن شرعية الأمة، يعود دباشي إلى كتاب المؤرخ الالماني، أرنست كانتوروفيش “الملك ذو الجسدين” الذي كان مختصاً في نظرية اللاهوت المسيحي السياسي إبان القرون الوسطى. حسب خلاصة أرنست، فإن الجسد البيولوجي للملك معرضٌ حتماً للزوال، بينما جسده الرمزي يبقى خالداً، ويستقي خلود سلالته الحاكمة من النعمة الإلهية. هكذا تم تعظيم الملك في صورة الدولة. وعلى الرغم من كل ذخيرة التنوير لعقلنة صورة الدولة في إطارها الواقعي بعيداً عن الصيغة الأسطورية، إلا أنّ انتشار المذهب الرومانسي في حقبة الحروب النابليونية، والصعود اللاحق للدول القومية طوال القرن التاسع عشر، جرفت الدولة الأمة إلى أحضان هتلر وموسوليني في نهاية المطاف.

يقف دباشي أيضاً عند المنظر الألماني الشهير، كارل شميت، مطولاً، بوصفه المنظر الذي قام بتأليه سيادة الدولة وشرعيتها بمصطلحات علمانية فوق إرادة الأمة. إذ يعتبر شميت أن عدو الدولة هو الآخر المختلف، وحالة الاستثناء “قانون الطوارئ” هي من تشرع للدولة باحتكار أجهزة العنف دون الرجوع إلى إرادة الأمة، وتالياً قوة الدولة الأسطورية هي من تقرر العدو الشيطاني من الصديق. وكان اليهود هم المعنيون بهؤلاء الأعداء الذين احتاجهم المنظر السياسي النازي ليكونوا مادة دسمة على محارق الهولوكست، مثلما كان السود والسكان الأصليون والشرقيون هم العدو الذي احتاجهم المستعمر الأوروبي لتأسيس دولهم القومية.

 من هذا الأصل الاستعماري بالذات، تلقينا، حسب دباشي، فكرة السياسة على أنها متأسسة حول الدولة. وهكذا سارعت جميع دول ما بعد الاستعمار إلى استنساخ وصفة شميث عن “المفهوم السياسي“، مع اختلاف طفيف، حيث أصبح عدو الدولة في هذه الحالة هو الأمة برمتها، في حين لم يكن عدو الأمة سوى “احتكار العنف” من قبل استبداد الدولة.

تاريخياً، كان المفهوم الاستعماري المستورد والمفروض عن “الدولة الأمة” تتويجاً لاتفاقية سايكس بيكو عام 1916 كخطوة جيوستراتيجية لتقسيم وتفكيك الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى،. طبقاً لدباشي، نجحت “الحيلة والتصميم الاستعماريان“، وظهرت الحدود الاستعمارية الحديثة للدول القومية العربية في نهاية المطاف خلال الحرب العالمية الثانية. وهذه الأسطورة المصطنعة على وجه التحديد اسدلت الستار عن حقيقتها العارية من خلال الاحتجاجات الشاملة والمستمرة التي تضرب المنطقة.

دباشي المعروف بإيجاده توظيف الرمز الأدبي في تفكيك الحدث التاريخي السياسي، يؤطر هذه الحقيقة العارية من خلال قالب قصصي مستوحى من حكاية الكاتب الدانماركي هانز أندرسن، بعنوان “ملابس الإمبراطور الجديدة“، حيث تدور فحواها حول اثنين من النساجين، الذين يعدان إمبراطوراً مغروراً بثوب يبدو غير مرئي، بينما في الواقع لايصنعون ملابس على الإطلاق. وعندما يظهر الإمبراطور على رعاياه بهذه الملابس الخيالية، لا يجرؤ أحد على النطق بكلمة والقول إن الإمبراطور عارٍ، خوفًا من العقاب. أخيراً، يصرخ طفل، وهو لقيط من الذين تم استعباد عائلتهم، قائلاً: “لكنه لا يرتدي أي شيء على الإطلاق!”

 تكمن دلالة هذه الحكاية في أن حالة ما بعد الاستعمار تفتقر إلى أي شرعية على الإطلاق، ورعايا الملك مع هؤلاء الخياطين الدجالين، عبارة عن حاشية جميع دول ما بعد الاستعمار، فالسكان الأصليون الذين استولوا على السلطة وقعوا في التوهم والضلال كما لو أن دولتهم لديها أي علاقات على الإطلاق مع المفاهيم التي يدعونها، بينما يمثل الطفل اللقيط رمزية الأمم التي فضحت عورة أسطورة الدولة- الأمة.

خدعة الحداثة والتراث

ولكن هل التراث المسيحي اللاهوتي ومن ثم النزعة الرومانسية الاستعمارية وحدهما من حملتا كعب أخيل عن أسطورة الدولة؟ يوضح لنا دباشي أن النزعات الأسطورية للدولة العثمانية كانت حاضرة وبقوة عندما أدى الصدام بين الإمبراطوريات الأوروبية وهذا الإرث الضخم للإمبراطورية الإسلامية إلى تشكيل دول ما بعد الاستعمار، فقد تحولت “الأسطورة التأسيسية” للعثمانيين إلى الأسطورة التأسيسية لدول ما بعد الاستعمار.

وخلافاً لتلك الأطروحات- على غرار أطروحة وائل الحلاق- التي تتحدث عن استحالة تطبيق الشريعة الإسلامية والخلافة في ظل الحداثة بحكم تعارض القيم الأخلاقية والمعيارية الإسلامية مع مفهوم الدولة الحديثة، يفند دباشي هذه المزاعم التحليلية، معتبراً أن الشريعة الإسلامية لم تكن أبداً أخلاقية: بل” تم جعلها معيارية عن طريق العنف، ومضمناً في تصميمات إمبراطورية واسعة للغاية“، حيث جرى تسخير الشريعة في خضم الإمبراطوريات الإسلامية بصورة فعالة، من تعبئة الجيوش، إلى فرض الضرائب على الفلاحين الفقراء، وفقراء المدن، إلى إضفاء الشرعية على العبودية، إلى التعبير عن الحكم المطلق.

إن الشريعة الإسلامية في العصر العباسي  لم تكن معياراً وحيداً لبرهنة استحالة الخلافة والسلطنة في عصرنا هذه، وإنما ” الإرث السياسي والإداري للدولة برمتها” يحمل بذرة الاستحالة كما الدولة القومية العصرية. وهنا بالذات ينتقل دباشي من السياق المعياري النظري للشريعة الاسلامية إلى نبش التاريخ السياسي لفهم أسطورة الخلافة والسلطنة، قبل الإسلام وبعده.

والحق، هذا التحول يحررنا من تلك السرديات الرتيبة والتي تتمحور حول الاهتمام المفرط بالعصر العباسي، باعتباره نقطة تحول كما لو كان نموذجاً لـ “الخلافة الكلاسيكية”، فمع سقوط بغداد عام 1258، انتهت الإمبراطورية العباسية رسمياً بعواقب مؤلمة. غير أن إدامة حكم العثمانيين (أكثر من 600 عام) والصفويين (حوالي 230 عامًا) والمغول (أكثر من 300 عام) يشكل في مجموعها حوالي أكثر من 1000 عام ، أي أكثر من أي سلالة عربية – حيث حكم الأمويون لأقل من قرن، والعباسيون (750 – 1258) حوالي 500 عام، وخلال فترة حكمهم استمرت السيطرة الشيعية للفاطمين في مصر والبويهيين في شمال إيران نحو 300 عاماً. وكانت إمبراطورية السلاجقة الشاسعة (1037-1194) بالكامل ضمن التقاليد التركية الفارسية، بينما كان حكم المغول (1206–1368) تحت النظريات المغولية- الفارسية.

باختصار، سادت هيمنة النظريات الملكية الإيرانية قبل الإسلام على الحضارة الإسلامية، حيث كانت الشاهنامة في الواقع أكثر أهمية من أي نظرية مدرسية سنيّة عن الإمامة والملك وبالتالي الدولة، فالنظريات السنية والفقهية وممارسة الحكم للملك في الفترة الإسلامية كانت غالباً من الفارسية والهندية والتركية. حتى العباسيين كانوا يتكيفون أساساً مع نظريات الساسانيين عن الملكية الفارسية وذلك عن طريق العائلات الوزارية من البرامكة. فقد تم تشكيل سلطة العباسيين على غرار الساسانيين، نظرياً وإدارياً، وكان الفقهاء والقانونيون ينحدرون من تراث الزرادشتية.

كان الموضوع الرئيسي لإيديولوجية الإمبراطورية العثمانية في نظرية الحكم تتجسد في “الخلافة الكبرى” في نهاية الأزمنة والتي تنبأ بها النبي، وتصورها القديسون على إنها مصانة بـ” العناية الإلهية”. يشير دباشي بأن جذر هذه الايديولوجية يرجع إلى المفهوم الزرادشتي ” farr-izadi” وهي تعني العناية الإلهية لـ “سلطان السلاطين“، وظل الله على الأرض“، فهذه الاساطير تنحدر بجذورها من الآداب القديمة للشعوب الفارسية والطاجيكية كما ورد في الشاهنامه.

ما بعد الحداثة والأمم

إذا كانت حالة الدولة الأمة ما بعد الاستعمار، والمتجذرة في التجربة الاستعمارية، باتت متناقضة بحكم الواقع مع المفهوم ذاته، فماذا إذن؟ وهل يمكن أن تجمع الأمة ككيان سياسي خارج جهاز الدولة؟ ما يثير اهتمام دباشي من خلال طرح هذه الاسئلة ليس إعادة النظر في علاقة الأمة مع الدولة. بدلاً من ذلك، يبحث في الفصل الكامل بين الأمة والدولة.

ففي العصر الذي تولد البنية الرأسمالية العالمية فقراً هيكلياً لا يمكن لدولة بمفردها علاجها، فإن منسوب العداء لا يقتصر فقط بين العملية العالمية لرأس المال والدول، ولكن الأهم من ذلك بين الدول وادعاءاتها الكاذبة بشأن شرعيتها المستمدة من الأمم التي تحكمها باسم تأمين الرفاهية الاقتصادية. هنا، تغدو القوة العاملة للدولة هي الحفاظ على الذات السياسية حصراً بمنأى عن مطالب الأمة. فالدولة ورأس المال، من الممكن أن تكونا في خلاف على مستوى رأس المال الفردي، لكن كلاهما في نهاية المطاف يشكلان ذاتاً مشتركة. ويشكل مثال السعودية، وإيران، وتركيا، وباكستان، براهين صارخة على ذلك. وهذه هي الثغرة الأولى في حالة ما بعد الحداثة لزحزحة شرعية الدولة الأمة.

أما الثغرة الثانية، فتكمن في “الخيال الأصلي للسيادة الحديثة”، ونظراً لمبدأ أن السيادة تشمل فقط المواطنين الذين ولدوا على جغرافية محددة، فإن قضية اللاجئ المحروم من صفة المواطن تشكل نقض التعريف السياسي لشرعية الدولة الأمة على غرار أطروحة الفيلسوف الإيطالي جورج أغامبين. ومع ذلك، فقد تم تحريره اليوم كما يقول دباشي من أي وهم بشرعية الدولة وأطلق سراحه في المجالين العام والعابر للحدود الوطنية.

بينما تسير الأمة والدولة في طريقين منفصلين، فإن دولاً حصينة مثل إيران وإسرائيل وتركيا والسعودية ومصر وإلخ، خالية من أي سيادة وطنية ذات أبعاد تاريخية، وتفتقر إلى أي إدعاء بالسيطرة الأيديولوجية. فالحكم بالقوة الغاشمة والدعاية الفارغة والعنف المكشوف هي من تطبع ملامح الأنظمة الحاكمة.

 بدائل ممكنة

أمام هذا الانفصال الحتمي كما يطلعنا دباشي، تصبح الأمم إرادة جماعية لمقاومة القوة الغاشمة. حيث يخبرنا مثال الأمم، التي لا تملك الدولة مثل الكرد والفلسطينيين، بأن تجاربهم المشتركة ونضالاتهم الجماعية ، وليست “مجتمعاتهم المتخيلة”، كما قال بنديكت أندرسون، هي من ستحدد نطاق هويتهم السياسية بمعزل عن أسطورة الدولة الأمة.

في خضم ذلك، قد يميل بعض المواطنين لا محالة نحو المقاومة العنيفة، والبعض الآخر نحو الاستيعاب الهادئ في جهاز سلطة الدولة، لكن مرحلة ما بعد الدولة الأمة ستبرهن أحقية وجود الأمم من خلال التصرف اليومي للحياة – متحررة من وهم شرعية الدولة.

 يعتبر دباشي بأن الفن الاحتجاجي من خلال رمزية الجسد منذ حادثة حرق بوعزيزي وتقطيع جسد جمال خاشقجي، والصور المتعرية للممثلة والمغنية الايرانية كلشفتيه فراهاني، والناشطة المصرية عليا مجد المهدي، ومقتل الشاعرة والناشطة المصرية شيماء الصباغ التي قتلت من قبل أجهزة الأمن المصرية عام 2015، وطوفان مشاهد اللاجئين في الشرق الأوسط، وحصول “الرباعي الحوار التونسي” للمجتمع المدني على جائزة نوبل للسلام، وظهور رموز فنية جديدة للنضال الفلسطيني، ومقاومة النساء الكرديات في كوباني، وتفجير الاحتجاجات المتواصلة دون توقف في عموم العالم الاسلامي والعربي، كلها أمثلة على عدم مقدرة الدولة –الأمة تأطير هذه المقاومة الرمزية في خانة متاحفها الفنية والأدبية وتطويعها في إيديولوجيتها الرسمية.

يقدم لنا دباشي مفهوماً جديداً لتأطير الاحتجاجات الحاصلة في المنطقة. فرغم كل كوراث الثورات المضادة وآلة القتل المستمرة لدى الدول الفاقدة للشرعية ومعسكر الثورات المضادة، إلا أن الاهتزازت والاحتجاجات الشعبية تظهر بين فينة وأخرى، فهي “ثورات مفتوحة“، وليست لحظات عابرة زائلة، وينبغي فهم هذا المسار كما يرشدنا دباشي عبر مفهوم المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل ضمن” الزمن الطويل” والذي يتطلب التأني والعقل البارد.

 إن كانت ثمة حكمة ما يريد دباشي تقديمه لقرّاء مؤلفه، فإنه يأخذها من الفضاء الأدبي لـ” كليلة ودمنة“. فهذا النص الذي يعتمد على المشورة السياسية لسلطة الملك، يقزم شخصية الملك في تكوين تاريخ أصلي دائماً، ويعارض النزعة الاسطورية لنظرية جسد واحد أو جسدين أو ثلاثة. والحكمة السياسية الذي يبتغي دباشي أن يطرحها هنا، تظهر في حكاية الثعلب والأسد والحمار، حيث تروي الحكاية:

جاع ملك الغابة فقال للثعلب: أحضر لي طعاماً أيها الثعلب وإﻻ أكلتك.  قال الثعلب: سأحضر لك حماراً، ثم انطلق الثعلب للحمار وقال له: إن ملك الغابة يريد أن يسود السلام في المنطقة، لذلك قرر أن يختار أميراً جديداً للغابة، فرح الحمار وذهب مسرعاً إلى الملك وما إن دخل عليه حتى ضربه الملك فقطع أذنيه، فخاف الحمار وهرب، وهكذا تكررت حادثة جلب الحمار عبر خدعة الثعلب ثلاث مرات. في المرة الثالثة ما أن دخل عليه الحمار حتى قفز الملك وقتله، ثم قال للثعلب: اذهب واسلخه ثم احضر لي القلب والكبد والمخ، ذهب الثعلب فسلخ الحمار وأكل المخ وجاء بالقلب والكبد.

فقال ملك الغابة: أين المخ؟

فضحك الثعلب وقال: لم أجد فيه المخ، لأنه لو كان يملك مخاً لما رجع إليك ثلاث مرات.

يدعونا دباشي ختاماً، بأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ولم نعد نمثل دور الحمار الذي وقع في خدعة الايديولوجية “الثعلب” وجهاز العنف في الدولة “ملك الغابة”.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد