جون هولواي: أزمة المناخ عصية على الحل في ظل نزعة الربح… واستعادة الكرامة عبر الاعتراف المتبادل جوهر القضية الكردية
جهاد حمي
يعد جون هولواي، أستاذ علم الاجتماع حالياً في جامعة يوبيلا المستقلة في المكسيك، من بين أكثر المؤلفين الغربيين الذين كتبوا، ولا يزال، بغزارة عن أشكال النضال الجديدة ضد سلطة رأس المال العالمي. وقد أحدث كتابه ” تغيير العالم بدون الاستيلاء على السلطة” الذي تُرجم إلى 11 لغة، جدلاً كبيراً، وهو الأمر ينطبق أيضاً على كتابه “تصدع الرأسمالية“.
يشكل مفهوم سلب الهوية عند جون هولواي على غرار أطروحة عالم الاجتماع الألماني اليهودي تيودور أدورنو، مفتاحاً نقدياً لإزاحة سلطة التصنيفات والمفاهيم الإيديولوجية التي تحكم تصرفاتنا. فالمال والسلعة ونظرية القيمة والدولة والعمل المستلب والتقنية وغيرها، كلها شبكة من مفاهيم وتصنيفات تنسج حياتنا وسلوكياتنا في قوالب ثابتة. ومع ذلك، فإن هذه المفاهيم ليست محصنة من التناقض والتنافر والتعارض من الداخل. وعليه، ثمة إمكانية للتفكير خارج الصندوق حسب هولواي.
والسؤال التأسيسي الذي يقف عنده جون هولواي في جل أعماله هو: كيف علينا “نحن” أن نتحرر، فكراً وممارسةً، من شبكة مفاهيم النظام العالمي الغارق في أزمات بنيوية، مثل أزمة كوفيد 19 والتهديدات المناخية المدمرة وشتى أشكال الهيمنة والتراتبية والسلطوية؟ وهل ثمة إمكانية في تشكيل عالم مختلف دون الوقوع في شبكة النظام الحالي؟ وما هي الرسائل التي تحملها الحركات السياسية التي تعكس ذاتها في صرخات رافضة ضد النماذج التقليدية، مثل الحركة الكردية في روج آفا- شمال شرق سوريا، وحركة زاباتيستا وغيرها من الحركات الاجتماعية؟ هذه التساؤلات وغيرها ستكون محور حديثنا مع العالم الاجتماعي، جون هولواي، وذلك في إطلالة عبر المركز الكردي للدراسات. كما أننا فضلنا أن نقدم للقارئ نص الحوار على حلقتين متتالتين، بحكم الثراء في القضايا المطروحة.
فيما يلي نص الحوار للحقلة الأولى:
جهاد: بما أنّ وباء كوفيد -19 يحتل صدارة الأزمات الحاسمة في لحظتنا التاريخية، فلنبدأ بذلك. كما تعلمون، خلال هذا الوباء، الذي يجتاح العالم، تزايدت حدة العنصرية والعنف والاستغلال والمظالم بأشكالها المختلفة، بما في ذلك نظام الفصل العنصري لتوزيع اللقاحات (حيث كانت البلدان الغنية هي فقط من تملك القدرة على الوصول وتأمين اللقاحات) بشكل كبير ضد المضطهدين والمهمشين: الأشخاص الملونين، والنساء، والعمال، واللاجئين، والبلدان والمناطق الفقيرة. ما هي الدروس التي يمكن أن نتعلمها عن طبيعة النظام الرأسمالي من خلال تجربة كوفيد19؟ وما هي تصوراتكم حيال هذا الواقع؟
هولواي: بالنسبة لي، هذا سؤال في غاية الصعوبة. أرى أنها أزمة رأسمالية من جانبين، أولاً، أعتقد أن الوباء خطير بالفعل، وهو نتاج تدمير التوازن بين الإنسان وأشكال الحياة الأخرى. وهذا التدمير ناتج عن سعي رأس المال نحو الربح. تخبرنا حقيقة الوباء بحد ذاتها عن الطبيعة المدمرة للمجتمع الذي نعيش فيه. ثانياً، علينا أن ننظر إلى هذا على أنها أزمة رأسمالية من حيث تأثيراتها، ولا سيما تأثيراتها الاقتصادية. فقبل الأزمة، كان معظم الاقتصاديين يقولون “هناك أزمة قادمة، ولا نعرف متى بالضبط، لكنها ستكون أزمة كبيرة للغاية”. الوباء هو الذي عجل بهذه الأزمة. أزمة فيروس كورونا هي جزء كبير من الديناميكية الرأسمالية. فإن ما هو واضح حالياً يتمثل في الطريقة التي تبدو بها الإجراءات السياسية التي تتخذها الدول المختلفة، وهي عبارة عن مزيج حقيقي من الرغبة في الحد من تأثير الوباء من جهة، والاستفادة أيضاً من الوباء لزيادة سيطرة الدولة على المجتمع من جهة ثانية. أعتقد أن هذا الأمر يسري في كل مكان من حيث درجة المراقبة التي تم تطويرها.
في الوقت الراهن، باتت مسألة الانصياع لإجراءات الدولة قضية مثيرة للجدل. لكنني أرى قبول الإجراءات الأمنية والتطعيم وارتداء الكمامة كنوع من التضامن الاجتماعي قبل كل شيء. نحن لا نفعل ذلك فقط لحماية أنفسنا، بل أيضاً لحماية الأشخاص من حولنا. ويبدو لي هذا الجانب في غاية الأهمية. وجلى ما يمكن أن نتصوره في هذا السياق هو أن تتركنا هذه الأزمة في وضع يصعب التكهن بتداعياتها الحادة. هناك قدر كبير من الإحباط وسط الأشخاص، الذين عانوا (من الفقر، وفقدان الدخل والأهل والأصدقاء.. والخ) بشدة في حياتهم على مدار العامين الماضيين تقريباً. أعتقد أن هذا قد يعبر عن نفسه في انفجارات اجتماعية كبيرة جداً. إنها تعبر بالفعل عن نفسها حالياً، لا سيما في أوروبا. لكن من الصعب حقاً توقع المدى والأهمية الذي ستصل إليه هذه الانفجارات.
جهاد: من خلال إجابتكم هذه، قمتم بربط فيروس كورونا مع أزمة البيئة. بينما يحاول الكثير من المثقفين والسياسيين اليوم علاج هذه القضايا عن طريق الدولة. ففي إحدى مقالاتكم المنشورة في مجلة ROAR انتقدتم هذه المقاربة. كيف علينا أن نتصدى لأزمة البيئة دون الاعتماد على جهاز الدولة؟
هولواي: من الواضح أن هذا سؤال جوهري وكبير أيضاً. لقد رأينا للتو مخرجات قمة المناخ (COP-26) في غلاسكو. لا أعتقد أنه يمكن حل أزمة المناخ داخل النظام الرأسمالي الحالي. إذا فكرنا في ماركس ومناقشته لقوانين المصانع ورأس المال، فإنه يتبين لنا حقاً أن رأس المال يتعارض مع حدوده من حيث تدمير القوة العاملة التي يعتمد عليها، لكنه ينجح في حل ذلك، [رغم] أنه مجبر على قبول تخفيض يوم العمل. أعتقد أننا الآن في وضع يكون فيه مستقبل الرأسمالية، ومستقبل البشرية بالطبع، مهدد بالتدمير عبر أزمة البيئة. هل من الممكن حل هذه المشكلة داخل الرأسمالية؟ لا أعتقد ذلك شخصياً. ففي مجتمع يكون فيه القوة الدافعة هي السعي وراء الربح لن يكون بالمقدور حل أزمة المناخ، طالما إننا نعتقد أن المال هو ديناميكية الربح. بمعنى أخر، فنحن في بعض النواحي نواجه بشكل عاجل أكثر من أي وقت مضى السؤال عن كيفية التخلص من رأس المال والمال.
حيال هذا الوضع، أظن أن الرد الذي نحصل عليه من الحركة الكردية، وزاباتيستا في المكسيك، والعديد من الحركات الأخرى، هو أن نواجه هذا الوضع بأنفسنا، وليس بالاعتماد على الدولة. حقاً، ينبغي تطوير أنفسنا وممارساتنا وطرقنا الخاصة في تطوير العلاقات المختلفة مع الطبيعة وأشكال الحياة الأخرى. ومن الجلي أن هذه المقاربات تشكل لب فكرة الاشتراكية البيئية، والنسوية البيئية. ينبغي أن يكون هذا المسار جزءاً أساسياً في أي صراع لتغيير العالم. فالأمر لا يقتصر على التخلص من رأس المال فحسب، بل يتعلق أيضاً بتحويل علاقاتنا مع الحياة إلى أشكال أخرى.
جهاد: في كتابكم “تغيير العالم بدون الاستيلاء على السلطة“، قمتم بإعادة تعريف العديد من المفاهيم، مثل “الفعل” مقابل “العمل”، و”القوة” مقابل “السيطرة”، و” المعرفة من أجل” مقابل “المعرفة على”، وكذلك مفهوم الثورة. لقد واصلتم تطوير هذه المواضيع في كتابكم “تصدع الرأسمالية” أيضاً. أود أن أعرف ما هي التأثيرات السياسية والفلسفية التي ألهمتكم لإعادة التفكير في الثورة كعملية يجب القيام بها دون الاستيلاء على سلطة الدولة أو الفوز في الانتخابات، وما أهمية ذلك في الممارسة الثورية؟
هولواي: قبل أن أننسى، أود أن أقول شيئًا ما قبل الإجابة على سؤالك. سيتم نشر مؤلفي ” تغيير العالم دون الاستيلاء على السلطة” باللغة العربية في غضون أسابيع قليلة من هذا الشهر(ديسمبر). إنها بادرة قيمة بالنسبة لي!
جهاد: هذه أخبار رائعة! أظن أنه سيرحب به من الكثيرين، وخاصة القرّاء في روج آفا- شمال شرق سوريا. على حد علمي، إن أعمالكم غير متوفرة بعد باللغة العربية. هذا عظيم!
هولواي: بالعودة إلى سؤالك، عشت في بريطانيا حتى عام 1991، وكذلك في اسكتلندا. كان لدينا هذا الجدل الكبير حول الدولة. ومنبع هذه تعود إلى تلك الجدالات المسمى ب “جدالات اشتقاق الدولة“(1) التي خرجت من ألمانيا حينها. فالطريقة التي فهمنا بها الأمر هي أن الدولة شكل من أشكال رأس المال، وهذا يعني بالنسبة لنا أنه لا يمكنك التفكير في استخدام الدولة للتغلب على الرأسمالية. ثم انتقلت إلى المكسيك في عام 1991، حيث أنني كنت هنا عندما اندلعت انتفاضة زاباتيستا. وقيل منذ البداية “إننا لا نريد الاستيلاء على السلطة والدولة”. إنها ليست مسألة استحواذ على السلطة، بل هي مسألة إعادة إنشاء عالم جديد. من الواضح أن هذه المقاربة كانت تتقاطع تماماً مع الجدل النظري الذي كنا نناقشه في بريطانيا.
جهاد: هل لعبت “الماركسية المفتوحة” (Open Marxism) دوراً في ذلك؟
هولواي: نعم، أعتقد ذلك. بالنسبة لنا، فإن الماركسية المفتوحة هي في الحقيقة محاولة فتح وتحرير التصنيفات الماركسية، وفهم تلك التصنيفات على أنها تصورات للنضال. إنها حقاً مسألة فهم السلعة ليس كشيء، وليس فقط كشكل من أشكال الهيمنة، ولكن أيضاً كشكل من أشكال النضال. وينطبق الشيء نفسه على المال، إذا كنت تعتقد أن المال هو صراع دائم لدفع سلوكنا وتصرفاتنا بطريقة معينة. فإن مجرد فرض المال على حياتنا اليومية يقتل الآلاف والآلاف من الناس كل يوم، ويقتلهم إما بسبب العنف أو الجوع أو الانتحار أو أي شيء آخر. لذا، فإن فكرة الماركسية المفتوحة تحاول أن تفهم هذه التصنيفات من زاوية النضال. وعلى النحو ذاته، فإننا نفكر في الدولة على أنها صراع يأتي من الأعلى لفرض طرق معينة على تصرفاتنا. إن التفكير في الدولة يعني أننا نفكر أيضاً في مناهضة الدولة؛ أي الحركة في الاتجاه المعاكس. أو أن أقول إن التفكير في الدولة يعني التفكير حقاً من منظور معكوس، مثل التجمعات والمجالس التشاركية والجماعات التي تتحرك في الاتجاه المعاكس. إذن، الدولة هي شكل معين من أشكال التنظيم الاجتماعي، والذي دائماً ما يكون سلطة قادمة من الأعلى، ودائماً ما نقابلها بتنظيم في الاتجاه المعاكس. أحياناً يُطرح السؤال فيما يتعلق بالزاباتيستا، الذين لديهم أشكالهم الخاصة من التنظيم، لكن السمة المركزية لتلك الحركة هي التنظيم الجماعي حقاً. وهذا [الشكل الجماعي للتنظيم]، مما أعرفه أيضاً عن الحركة الكردية، هو الكومون بوصفه القوة المركزية للتنظيم السياسي. بالنسبة لي، فإن التفكير في الماركسية المفتوحة يعني التفكير في الدولة على أنها ليست مجرد شيء خارجنا؛ بل إنه صراع يأتي من الأعلى لفرض أشكال معينة من السلوك والتنظيم علينا. فإن قوة التنظيم الجماعي “الكومون” هي حركة في الاتجاه المعاكس. إنها حركة مقاومة وتمرد ضد الدولة.
جهاد: بعبارة أخرى، الغرض من الماركسية المفتوحة هو إثارة التناقض ضمن هذه الفئات والتصنيفات؟
هولواي: نعم، التناقض، لكننا نفضل الحديث عن التنافر أو التناحر(antagonism)، لأن التناقض يمكن فهمه من منظور غير اجتماعي. لذلك نقول إن كل هذه الفئات متنافرة ومتناحرة.
جهاد: هل يكفي تجاوز سلطة الدولة؟ هل يمكن أن تزدهر الهيمنة والهرمية في مجتمع بدون اللا- دولة؟ لاسيما جادل كل من بوكتشين وأوجلان وديفيد غرايبر أنه حتى في المجتمع اللا- دولتي، يمكن أن يتواجد الهرمية والهيمنة. هل يمكن أن يكون المجتمع اللا- دولة ضماناً لحريتنا؟
هولواي: ليس هناك ضمان لأي شيء (يضحك)، هذه هي المشكلة. ما نعرفه هو أن الدولة هي شكل تنظيمي قمعي، ونعلم أن الدولة تعتمد في وجودها على إعادة إنتاج تراكم رأس المال، فمن أين الدولة تحصل على أموالها؟ إذا كان لديك عدد كبير من المسؤولين في الدولة الذين لا ينتجون أي شيء، فعندئذ، لكي يظلوا على قيد الحياة، يجب أن يكون هناك دخل يغذي خزينة الدولة. ولا يمكن أن يأتي ذلك إلا من تراكم رأس المال – مما يعني أنه يتعين على الدولة الترويج لتراكم رأس المال.
جهاد: بما أننا نتحدث عن الدولة، قال ديفيد غرايبر ذات مرة أن كتابكم “تغيير العالم بدون الاستيلاء على السلطة” يُقرأ على نطاق واسع من قبل العديد من الآناركيين، على الرغم من أنكم تعرفون أنفسكم بالماركسي، ما رأيكم في ذلك؟ وبصفتي أؤمن بالكومينالية إن جاز القول، فأنا أيضاً انجذب إلى أعمالكم أكثر من أعمال الماركسيين الآخرين.
هولواي: (يضحك).. لا، أنا لا أحدد نفسي على الإطلاق في قالب ما. لكن، نعم، بالطبع أنا من تلك الخلفية. أعتقد أن الماركسية مهمة للغاية. أولاً، لأنها تقول أن رأس المال يعتمد علينا. إذ نعتقد أننا مجرد ضحايا ومضطهدون، لكن في الواقع يعتمد رأس المال علينا. ثانياً، أظن أن هذا هو موضوع نظرية قيمة العمل لدى ماركس التي تقول: إن القيمة من إنتاجنا، وبالتالي يعتمد رأس المال علينا. هكذا يصبح (المفهوم منفتحاً وليس منغلقاً). إنه إذن طريقة لفهم التطور الرأسمالي باعتباره النضال المستمر لرأس المال للتغلب على اعتماده علينا. قد نظن أننا نخسر، أو كنا نخسر على مدى 30 أو 40 السنوات المنصرمة، ولكن هناك أيضاً شعور بأن رأس المال يخسر أيضاً، وأن وجوده أصبح أكثر هشاشة. وما تم التعبير عنه في الأزمة المالية عام 2008، وكذلك ما تم التعبير عنه بطريقة معقدة في أزمة فيروس كورونا الحالية، بمثابة إشارات لهذه الهشاشة.
جهاد: بما أنك ذكرتم الهشاشة، فهل يعود ذلك إلى تأثرك بـ تيودور أدورنو، رائد مدرسة فرانكفورت والنظرية النقدية، والذي أعطانا أدوات تحليلية لمفهوم الرفض وتجاوز النظام؟
هولواي: نعم، كان تأثير كل من تيودور أدورنو وكذلك إرنست بلوخ” فيلسوف الأمل” واضحاً على مسيرتي. أساساً لأنني أفترض [من وجهة نظره أدورنو] أنه يوجد في وسط المجتمع قوة من اللا-هوية، لا يمكن للهوية أن تلتقطها بالكامل. بمعنى آخر، نحن نتجاوز جميع تصنيفات الأفكار وقوالب أشكال التنظيم الاجتماعي. نحن لا يتم احتواؤنا أبداً. الشيء الذي يقوله الزاباتيستا، والذي أجده رائعاً، هو أنه “حينما نذهب إلى إسبانيا، أول شيء سنقوله لهم هو: أنكم لم تستعمرونا لأننا نقاوم ونتمرد، بل لأننا قاومنا وتمردنا دائماً”. بالنسبة لي، هذه هي لب فكرة أدورنو عن اللا – هوية. ومع ذلك، لا أعتقد أن أدورنو كان يفكر في مثل هذه المصطلحات سياسياً. إذا فكرنا في أي تصنيف، فيمكننا أيضاً أن نقول عن ذلك التصنيف” أنت لم تستعمرنا “. يمكننا أن نقول للمال مثلاً ” تعتقد أنك استعمرتنا، وإننا خاضعون تماماً لقواعد المال، ولكن لا، لم تستعمرنا، نحن قاومنا وتمردنا دائماً “. وبالمثل، تقول المقاومة والتمرد في الحركة الكردية، وحركة الزاباتيستا، والعديد من الطرق المختلفة في الحياة اليومية طوال الوقت ” لن نعيش وفق منطق المال، سنحاول أن نعيش وفق القيم الخارجة عن قيمة المال”.
جهاد: في كتابكم ” تصدع الرأسمالية ” ربطتم العمل المجرد المستلب بالهيمنة الذكورية. هل يعني ذلك أن أية مقاومة ضد رأس المال يجب أن تكون مشروطة بالنضال النسوي أيضاً، بحيث تلعب المرأة دوراً مهماً في التمرد والمقاومة؟
هولواي: نعم، أعتقد ذلك. فالرأسمالية تقسمنا طوال الوقت إلى فئات وتصنيفات وطبقات مختلفة، وكذلك تدفعنا إلى التصنيفات الجندرية، وتقول لنا “نظراً لصفاتك الجسدية، يجب أن تتصرف بطريقة معينة “. أعتقد أنني أفهم مناهضة الرأسمالية على أنها تمرد ضد التصنيف، وبالتالي، تمرد ضد التصنيفات الجندرية بالطبع، هذا يعني أن تمرد النساء ضد تصنيفهن من حيث الجندر، يبدو لي في غاية الأهمية.
جهاد: موراي بوكتشين أصر دائماً على أن يأخذ اليسار التقدمي الجذري توجيهاته من “مبدأ الأمل” لـ” إرنست بلوخ” أو سيقع به الحال في فخ العدمية والتشاؤم. أنتم أيضا متأثرون بـــــ”بلوخ”. كيف يمكن أن تكون كتابات بلوخ مرشداً للحركات اليسارية في هذه الأوقات المظلمة؟
هولواي: نعم، لقد تأثرت كثيراً بأرنست بلوخ، رغم أنني بالطبع لا أوافقه على العديد من الأشياء. بالنسبة لي، كان تأثيره هائل. من خلال قراءتي بلوخ تعرفت إلى ماركس والعديد من الأخرين. فكرة مبدأ الأمل هي في الحقيقة التفكير في العالم من منظور الأمل حسب ما يقوله بلوخ في الصفحة الأولى أو الثانية من كتابه “مبدأ الأمل”، فالتفكير هو الذهاب إلى أبعد من ذلك، وأيضاً فيما وراء ما نحن فيه لفتح مستقبل محتمل، ويجب أن يكون ذلك في صميم أفكارنا. بما أنك ذكرت “تغيِّر العالم بدون الاستيلاء على السلطة” و “تصدع الرأسمالية”، فإنني أعمل منذ أغسطس الماضي/ آب على كتاب آخر، ليشكل ثلاثية في هذه السلسلة، والذي سيكون بعنوان “Think Hope in Hopeless Times”(فكر بالأمل في زمن انعدام الأمل). قد يستغرق العمل شهرين آخرين قبل تاريخ نشره نهائياً.
يأتي الأمل في مواجهة المال بشكل أساسي، لأنك إذا فكرت في الأمل (هذا النوع من السعي للمضي قدماً، ومحاولة الخروج من حيث ما نحن عليه، وخلق عالم مختلف) سيكون الحد الذي تصل إليه طوال الوقت هو المال. كيف ستفعل ذلك إذا لم يكن لديك المال، وخاصة أن المال يجبرنا طوال الوقت على اتباع طرق معينة للتصرف. فقط لأننا بحاجة إلى تناول الطعام، فنحن بحاجة إلى المال، طالما أننا لم نزرع كل شيء (منتجاتنا) بأنفسنا. لذلك، نواجه قوة هائلة من المال كشكل من أشكال تنظيم المجتمع. وعليه، فإن السؤال الحقيقي، إذا كنت تريد أن تأخذ الأمل على محمل الجد، هل يمكنك التفكير في الأمل من خلال تقويض قوة المال؟ عندما أنتهي من الكتاب، بالطبع سأحصل على الجواب (يضحك)….
جهاد: بصفتي أتابع الأدب الإنجليزي من خلال دراستي الأكاديمية، فإن أحد أكثر الأشياء الرائعة التي أجدها في قراءة كتبكم هو قوة الشعر في أسلوب كتابتكم. لقد تساءلت عما إذا كان هناك أي تفكير نقدي وراء هذا النوع من الثراء اللغوي؟
هولواي: هذا جميل! ولكن لا أعتقد أنني أكتب بطريقة شعرية. يقول لي الناس “هذا جميل وشاعري”. أفكر في الأمر أكثر من الناحية المفاهيمية، من حيث قوة اللا -هوية، والهوية المتدفقة. قبل أيام قليلة فقط كنت أقرأ شيئاً كتبه راؤول فانيجيم للتو، حيث يتحدث عن الشعر المتدفق. برأي أن هذا هو الشيء الحاسم، وما نحاول القيام به حقاً هو تجاوز، أو تجاوز وفق تعبير بلوخ، أو التفكير في قوة اللا – هوية أو مناهضة الهوية في مواجهة الهوية وفق تعبير أدورنو.
جهاد: لقد غيرتم قراءتي لأدورنو. كما تعلم، كانت هناك انتقادات كثيرة له، بما في ذلك استسلامه للتشاؤم، والطريقة التي اتصل بالشرطة أثناء احتجاج الطلاب أبان الثورة الطلابية عام 1968. لقد أظهرتم لنا قوته الثورية. ومن المعلوم أن أدورنو كان متأثرا جدًا بـ “هيغل”. وطالما الأمر كذلك، لماذا لا تتعاملون مع هيغل بشكل مباشر، وتفضلون بدلاً من ذلك، الوقوف عند أدورنو؟
هولواي: أعتقد أن السبب على الأرجح لعدم تعاملي أكثر مع هيغل مباشرة، هو أنه يخيفني قليلاً، ومن الصعب فهمه (يضحك)… لكني أشعر أن هيغل موجود طوال الوقت. بدأت بقراءة بلوخ، ومنه ذهبت إلى لوكاش ومن لوكاش إلى ماركس. لذا، في نهاية المطاف نحن أمام نهج هيغلي. أنا أيضاً متأثر جداً ريتشارد غان، الذي كان صديقي منذ أيامي في إدنبرة. يعمل ريتشارد كثيراً على هيغل، ولا سيما هيجل الشاب وكتابه” ظاهريات الروح”. إنه يفهم هيغل بشكل أساسي، باعتباره ثوري أناركي. ويرى أن المفهوم المركزي في فلسفة هيغل هو الاعتراف المتبادل. إن ظاهريات الروح لدى هيغل تدور في الحقيقة حول الحركة من خلال أشكال سوء الاعتراف من خلال الثورة الفرنسية والحشود في الشوارع. هذا هو المكان الذي يكون فيه “أنا” هو “نحن” و “نحن” هو “أنا” – أي حركة الاعتراف المتبادل. إذا فكرت في ذلك، أعتقد أن هذا وثيق الصلة بمسألة الكرامة. الاعتراف بالكرامة والنضال ضد إنكار الكرامة هو في الحقيقة نضال من أجل الاعتراف المتبادل. الموضوع المركزي في المجالس، إذا فكرنا في التنظيم المناهض للدولة- إذا فكرنا في حركة الزاباتيستا والحركة الكردية والحركات الأخرى من حيث الكوميونات والتجمعات – هو بالضبط هذا الاعتراف المتبادل وكسر قوة الهرمية التي تحدثنا عنها. وتالياً يدور نضال تلك الحركات حول كيفية تطوير هذا الاعتراف المتبادل لكراماتنا كأشخاص. هناك كتاب جميل لريتشارد غان وأدريان ويلدينغ نُشر العام الماضي بعنوان “الاعتراف الثوري” وقد كتبتُ مقدمة ذلك الكتاب؛ أفترض أن هذا هو مكان هيغل لدي.
جهاد: بعد جيل أدورنو وهربرت ماركوزه وهوركهايمر، جاء هابرماس الذي انقلب على التقاليد الثورية للجيل السابق. أود أن أسمع أفكاركم حول ذلك.
هولواي: أفكاري لا تذهب أبعد مما قلته. نعم، خالف التقاليد الثورية. أعتقد أن هابرماس لم يفهم أبداً التداعيات الثورية التي كان الأجيال السابقة في مدرسة فرانكفورت يتحدثون عنها.
ملاحظات هامشية:
1.جدالات اشتاق الدولة (Staatsableitung): منذ سبعينيات القرن الماضي، كان “اشتقاق الدولة” يعني محاولات داخل الماركسية أو الماركسية الجديدة لتفسير نشوء ووجود وضرورة دولة وقانون المجتمع البرجوازي (المدني) انطلاقاً من النظام الاقتصادي، ومن ثم اشتقاق تشكل جهاز الدولة من هذا النظام. في النقاشات حول اشتقاق الدولة، يتم تحليل الدولة على أنها مكون هيكلي لعلاقة الإنتاج الرأسمالي نفسها، شكلها السياسي الخاص. تشكلت الطبقة الرأسمالية والعلاقات الاستغلالية بطريقة لا تستطيع الطبقة الحاكمة اقتصادياُ أن تحكم سياسياً، ولكن يمكنها فقط تحقيق حكمها من خلال مرجعية منفصلة نسبياً عن الطبقات، وتحديداً عبر الدولة. في الوقت نفسه، تظل الدولة خاضعة للمنطق البنيوي والوظيفي للمجتمع الرأسمالي. الدولة لا تمثل مرجعية في هذه الحالة التي تقف خارج رأس المال. وهكذا فإن الدولة البرجوازية هي دولة طبقية دون أن تكون الأداة المباشرة للطبقة. وهذه “الخصوصية” أو “الاستقلال النسبي” للدولة بالتحديد هو أساس وهم الدولة.