فرهاد حمي
عقب قرار ترامب المشؤوم في سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا عام 2018، دارت معظم النقاشات والسجالات حينها حول كيفية حماية السجون التي تحتوي على أكثر من 10 آلاف عنصر من داعش. ومنذ تلك اللحظة باتت حماية السجون إلى جانب مطاردة الخلايا النائمة من التنظيم الجهادي، معياراً ثابتاً لمواصلة بقاء قوات التحالف الدولي من عدمه، وكذلك شرطاً محورياً في استمرارية التعاون والتنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية.
إدارة بايدن التي انسحبت من أفغانستان العام الماضي تحت مزاعم “الحروب الأمريكية التي لا تنتهي”، استبدلت بوصلة تركيزها صوب كل من الصين وروسيا. ومع ذلك، لم تتراجع حملة مكافحة الإرهاب ضمن أهدافها الحيوية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وبطبيعة الحال، اعُتبرت شمال شرق سوريا إلى جانب العراق من بين أكثر الساحات أهميةً والتزاماً بغرض مواصلة الحرب على الإرهاب، لكن وفق شروط جديدة، من بينها تقليل تكاليف الحرب على المستوى المادي والبشري، وتضييق جهود القوات الأمريكية القليلة المتبقية ضمن نطاق الاستشارة والتنسيق والتعاون التقني الاستخباراتي مع قوات سوريا الديمقراطية والقوات العراقية، فضلاً عن المساهمة مع تلك القوات في تنفيذ عمليات مباغتة وسريعة ضد الخلايا النائمة، واستهداف قادة داعش والتنظيمات المتطرفة الأخرى، مثل مقتل القرشي مؤخراً في إدلب.
عقب هزيمة داعش جغرافياً في بلدة الباغوز منذ ثلاث سنوات، تجلت ثغرة جديدة في استراتيجية محاربة الإرهاب. فمحاربة التنظيم الجهادي على نطاق جغرافية واضحة المعالم بحدودها ومدنها وبلداتها وقراها، تبدو ميسور نسبياً من مطاردة عالم شبه مجهول من الخلايا النائمة المتنقلة والعمليات العسكرية المفاجئة والتمردات داخل السجون والمخيمات. هذا التحول في طريقة مواجهة الإرهاب بعد سقوط الخلافة المزعومة كان واضحاً لدى خصوم كل من الولايات المتحدة الأمريكية وقوات سورية الديمقراطية، سيما أنّ المغامرات العسكرية المباشرة من قبل روسيا والنظام السوري والتركي والإيراني لردع تواجد القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا تعد ضرباً من الاستحالة ومستبعداً من طبيعة الحرب في سوريا، غير أنّ هذه الأطراف لم تخفي نواياها من خلال تصريحاتها شبه اليومية بوجوب مغادرة الولايات المتحدة كل من سوريا والعراق، وخاصة بعدما أخذت جرعة معنوية هائلة عقب خروج القوات الأمريكية من أفغانستان. تبعاً لذلك، كانت أهداف هذه الدول المعلنة تتقاطع مع مصالح التنظيمات الجهادية، من حركة طالبان وصولاً إلى التنظيمات الجهادية المنتشرة في سوريا والعراق، وفي مقدمتها داعش.
على ضوء ما سبق، تماهت هذه الأطراف على الأرجح مع داعش في اختيار نقطة قاتلة بغية إزاحة الشرعية عن قوات سوريا الديمقراطية وإخراجها من المعادلة المحلية وإظهارها على أنها غير جديرة بمكافحة الإرهاب، وكذلك زعزعة حضور القوات الأمريكية تمهيداً لفرض نوع من اليأس ومن ثم إعلان الهزيمة والاستسلام أمام تعقيد الواقع القائم كما جرى في سيناريو أفغانستان. وليس هناك هدفاً حيوياً يفي بهذا الغرض، سوى سجن الصناعة في محافظة الحسكة.
عملياً، كانت بادية الشام والحدود العراقية المفتوحة والمناطق التي تحتلها تركيا بمثابة مختبرات تُحبك فيها خطط يومية من أجل تنفيذ عمليات ضد شمال شرق سوريا عبر عناصر داعش، كما أنّ الخلايا النائمة المنتشرة وسط بيئة اجتماعية مضطربة، بما في ذلك السجون والمخيمات التي تفتقر إلى الشروط الأمنية والفنية والتقنية الملحة، كانت بمثابة وقود تحفز شهية التنظيم الإرهابي من أجل تنشيط عملياتها مؤخراً، مستفيدةً من تراجع الدور الأمريكي في المنطقة بعد الانسحاب من أفغانستان، وتغاضى خصوم الولايات المذكورة أعلاه عن عمليات داعش ضد واشنطن وحلفائها في العراق وسوريا، تماشياً مع مقولة عدو عدوي صديقي.
من جملة هذه الظروف القائمة، شن تنظيم داعش الهجوم على سجن الصناعة في محافظة الحسكة، بغية ضرب شرعية قوات سوريا الديمقراطية ومعها قوات التحالف الدولي، وإظهارهما في حالة العجز حيال حماية السجون التي تأوي عناصر داعش. وهذا يخدم الأهداف التركية والإيرانية والروسية ونظام بشار الأسد معاً. بينما كانت تلك الأطراف تمنى النفس أيضاً في توسيع نطاق سيطرة تنظيم داعش على محافظة الحسكة، وتالياً، تطويق معقل قوات سوريا الديمقراطية من بوابة الجزيرة السورية، وإنعاش البيئة الاجتماعية الحاضنة لمناصري داعش في شمال شرق سوريا.
عثرات مكافحة الإرهاب
إن كانت هذه المعطيات تسري على خطط خصوم التحالف الدولي وقسد، فماذا عن التناقضات الذاتية التي تشوب استراتيجية التحالف الدولي نفسها سيما بعد هزيمة تنظيم داعش جغرافياً؟
يأتي من بين أبرز التناقضات الحاصلة في استراتيجية مكافحة الإرهاب، العامل القانوني والشرعي المستدام في شمال شرقي سوريا بغرض مواجهة الإرهاب، فهذا النقص يعود في المقام الأول إلى تفكيك منظومة الدولة السورية التقليدية دون إحداث نظام أخلاقي وقانوني عوضاً عنها في شمال شرق سوريا على الأقل. فالحلول الأمنية والعسكرية مهما كانت فعالة واحترافية ومسنودة مادية لا يمكن أن تملك أرضية صلبة، طالما أنّ البنية الإدارية محرومة من شرعية القانون الدولي تسنح لها في مقاضاة المجرمين والإرهابيين، فعنصر الردع يمسي في نهاية المطاف مختزلاً في المواجهة العسكرية “الموت” والاعتقالات دون محاكمات قانونية. علاوة على أن غالبية الدول الاجنبية والعربية ترفض إلى هذه اللحظة استقبال مواطنيها من الدواعش، وكأن شمال شرق سوريا غدت لا شعورياً بمثابة مصنع لتدوير المتطرفين في العالم والتخلص منهم. لذا، يشكل تغاضي وتجاهل هذه الحالة بمثابة خطأ جوهري يتفرع منها جلى عثرات أخرى.
النقص الثاني الذي يعرقل استراتيجية محاربة الإرهاب يتمثل في وجود صفقة ضمنية غير مكشوفة عنها بين الولايات المتحدة الأمريكية والدولة التركية متعلقة بإفساح المجال الجوي أمام المسيرات التركية التي تستهدف مناطق قوات سوريا الديمقراطية دون التمييز بين المدنيين والعسكريين. فإن كانت إدارة ترامب أفسحت المجال أمام الغزو التركي المباشر من خلال احتلال كل من سري كانيه وتل أبيض، فإن إدارة بايدن شرعت المجال الجوي أمام المسيرات التركية في ضرب قوات سوريا الديمقراطية من الخلف. وبالتالي، تشتت جهود قوات سوريا الديمقراطية في مكافحة الإرهاب ومطاردته بصورة دقيقة ومستدامة. دون حسم هذا الملف وايقاف الهجوم التركي الجوي بصورة قانونية ورادعة من قبل التحالف الدولي لا يمكن الحديث بصورة جادة عن محاربة الإرهاب، أو التفكير في القضاء على الخلايا النائمة ومنع تمردات على شاكلة ما جرى في سجن الصناعة في الحسكة. ينبغي أن تكثف دبلوماسية الإدارة الذاتية جلى طاقتها للضغط على الإدارة الامريكية ودول الاتحاد الاوروبي من أجل ردع الاختراقات التركية اليومية، التي تساعد الإرهاب على إنعاش ذاته.
النقص الثالث المحوري الذي يواجه استراتيجية مكافحة الإرهاب ينبع من عقيدة جون بايدن وفريقه، أو بشكل أكثر دقة، في العقيدة الأمريكية ما بعد حرب جورج بوش على الإرهاب. فالحرب الأمريكية على الإرهاب ساهمت في تفكيك الدول القومية مثل أفغانستان والعراق وحالياً سوريا، ومن ثم توجت في مطاردة الإرهاب ومكافحته. ونظراً لحجم تكاليف الحروب تلك، دون جني الثمار المطلوبة على المدى الطويل، فإن العقيدة الأمريكية ما بعد الحروب الأبدية تأبه الانخراط بصورة جدية في عملية إعادة بناء الأمم المفككة جراء الحرب على الإرهاب، وفق المعايير الأخلاقية والقانونية المعاصرة، وذلك تجنباً لوصم النزعة الاستعمارية التقليدية على التدخلات الأمريكية. ما هو المسكوت عنه فعلياً في هذه العقيدة يكمن في التنصل من المسؤولية الاخلاقية الملقاة على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية المعنية في محاربة الإرهاب، حيث يفسح هذا المنظور المجال بطريقة ما، لترسيخ الفوضى وتنشيط التنظيمات على شاكلة داعش، ورفع معنويات الخصوم الإقليمين والدوليين للولايات المتحدة الأمريكية وقوات سوريا الديمقراطية. فهذه المقاربة اللاشرعية من قبل التحالف الدولي حيال هياكل الإدارة الذاتية المدنية، معطوفاً عليه، استبعاد ممثلي شمال شرق سوريا من الحضور السياسي الدولي المعني بالأزمة السورية، تدفع المنطقة لتكون بمثابة علبة باندورا قابلة للانفجار في أية لحظة.
النقص الرابع المحوري في استراتيجية مكافحة الإرهاب، سيما عقب مرحلة القضاء على الخلافة المزعومة، يتجسد في التخلي عن البيئة الاجتماعية بدون سند اقتصادي حقيقي وجاد، وتحديداً في قضية إعادة الاعمار وإتاحة فرص العمل أمام الشرائح الاجتماعية المختلفة من خلال اقتصاد انتاجي مستدام. هذه الثغرة بدأت على وجه الخصوص، عندما زار القائد القيادة المركزية للقوات الأمريكية، جنرال جوزيف فوتيل برفقة مدير الوكالة الامريكية للتنمية، مارك غرين، إلى الرقة أبان تحريرها. حيث أكد فوتيل حينها، بأنهم لن يساهموا في دعم إعادة الاعمار بصورة شاملة، بل سيقتصر نطاق المساعدات الدولية على إصلاح البنية التحتية وتطهير الأنقاض فقط. ومنذ تلك اللحظة، احتكرت ثلة من المنظمات غير الحكومية بالتنسيق مع المانحين الدوليين والوكالة الامريكية للتنمية مصادر التمويل والمساعدات الخارجية، بحيث لم يشمل الدعم المقدم في توفير نظام إنتاجي مستدام بما يواكب القدرات المحلية والفئة العاملة واحتياجات السوق المحلي، ولم يحقق عنصر الأمان والاستقرار للبيئة الاجتماعية والعمرانية، خاصة في ظل الحصار المفروض على المنطقة من الجانب التركي، وإغلاق المعابر الحدودية على شمال شرق سوريا.
يتفرع النقص الخامس من الخلل أعلاه، وخاصة من جهة رفض المجتمع الدولي وتحديداً المانحين الغربيين في دعم الإدارة الذاتية وهياكلها الإدارية بالخبرة والاستشارة والتمويل العاجل، بذريعة افتقارها إلى الشرعية القانونية. وبذلك، اختزلت قنوات الدعم في النطاق العسكري والاستخباراتي بصورة خجولة ومحددة، ولعل مشهد سجن الصناعة وافتقارها إلى بنية لوجستية معقولة مؤشراً لهذه المقاربة. في حين اشترطت الجهات المانحة في تقديم التسهيلات للمنظمات غير الحكومية والتي كانت البعض منها تعمل في المناطق الخاضعة للمعارضة السورية بقيادة تنظيم الإخوان المسلمين والحكومة التركية، وكانت تتساهل نسبياً مع التنظيمات الجهادية.
عمقت مقاربة المنظمات غير الحكومية من إحداث خلل في التوازن الاجتماعي بين السكان، نتيجة احتكار الموارد المالية والمساعدات الخارجية بيد فئة معينة وصغيرة العدد، الأمر الذي زعزع مفهوم العدالة الاجتماعية من جهة عدم توزيع الثروة على الفئات الاجتماعية المحتاجة والمتضررة من آثار الحرب على الإرهاب مباشرة. وعليه، لم يجري تطوير وتحسين هيكلية الإدارة الذاتية لتكون بمثابة جسماً متكاملاً مع القوات الأمنية والعسكرية في مكافحة الإرهاب.
النقص السادس الذي فشل استراتيجية مكافحة الإرهاب في ترجمته عملياً ظهر جلياً في مكافحة الإرهاب من خلال البنية الفكرية والثقافية والاجتماعية. فقوات سوريا الديمقراطية مع إداراتها المدنية تحمل مشروع تحرري جاد، بحيث تسعى إلى ترسيخ حرية المرأة وحماية البيئة وعلمنة الفضاء العام واحترام الحقوق الجماعية والفردية للقوميات والأديان والثقافات، ولأنها تتحرك وفق هذه الخلفية التحررية، فإنها وقفت في وجه التنظيمات الجهادية بصورة مباشرة، وكان ينبغي تعميم هذه الأفكار التحررية داخل المؤسسات الاجتماعية عقب انتهاء الخلافة المزعومة، بيد أنّ منظور الدول الغربية واستحضارها النسخة البريطانية التقليدية في الاعتماد على الجهات المحلية التقليدية، مثل العشائر والشيوخ الدينية والشخصيات الاجتماعية التقليدية، وأحياناً الترويج للمفاهيم الدينية السطحية والتي لا تملك سردية تحررية جادة. كل ذلك، قلصت خيارات الطبقة التنويرية الرائدة في المنطقة، وتراجعت دورها مقابل ظهور طبقات تقليدية رجعية وبعض الفئات المدنية التي تروج للأفكار السطحية والمستوردة من الخارج على غرار المنظمات غير الحكومية، دون استدلال بنية المنطقة اجتماعياً ومواكبة تاريخية المشروع التحرري في مواجهة المشاريع المتصادمة على هذه البقعة الجغرافية، والتي وصفها كلا من نعوم تشومسكي وسلافوي جيجك بأنها معجزة وسط الصحراء.
ختاماً، يبقى الدرس المستنبط من أحداث سجن الحسكة في أهمية عدم فصل هذه الأبعاد المتداخلة عن البعد الأمني والعسكري. فالحرب على الإرهاب تبدأ في شمال شرق سوريا من بوابة تأسيس وضعية أخلاقية وقانونية مستدامة. ودون ذلك، ستكون حسرة الأمهات وهن يذرفن الدموع على فلذات أكبادهن وسط مقابر الشهداء بمثابة جرح دائم ينفطر له قلوب منشدي العدالة والسلام والتحرر الجاد.