حسابات أطلسية جديدة في معركة دونباس الكبرى

حسين جمو

تشهد الحرب في أوكرانيا تبادلاً قسرياً للأدوار. فما كان في 24 شباط/ فبراير الماضي غزواً روسياً لأوكرانيا على جبهات واسعة، بات يتحول أيضاً إلى حرب غربية – أطلسية ضد روسيا على الأراضي الأوكرانية. في الأيام الأولى من الحرب، كان التقدم الروسي كبيراً وصادماً لحلفاء أوكرانيا، لكن لم يحدث ما كانت تأمله موسكو و هو شلّ القيادة العسكرية الأوكرانية سريعاً و منعها من إدارة المعركة وتوجيه الجنود والقطعات العسكرية. ما حدث، وفق النتائج الحالية، أنّ القوات الأوكرانية كانت مستعدة للحرب أكثر مما توقعته روسيا، فمنذ شهر ونصف تقاتل مجموعات مسلحة أوكرانية في ماريوبول، المدينة الصناعية الواقعة على ساحل بحر آزوف، بدون إمدادات وبقيادة ذاتية.

الحرب تشهد منعطفاً لم تُخْفِه موسكو التي اعترفت بخسائر كبيرة ومؤلمة تعرض لها جنودها، و كذلك انسحبت القوات الروسية من محيط مدن ومن بلدات قريبة من العاصمة كييف كانت استولت عليها في الأيام الأولى من الحرب. بقية القصة باتت أشبه بـ”قصة موت معلن”، وتحديداً تاريخ 9 أيار/ مايو، يوم عيد النصر على النازية. بعد هذا التاريخ من المرجح أن تأخذ الحرب مساراً آخر؛ من سيكون في موقع الدفاع، روسيا أم الغرب؟

معركة قاسية و حاسمة

في 8 نيسان/أبريل، رجح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن لا تنتهي الحرب في أوكرانيا في الأيام المقبلة، وقدم تبريراً بقوله: “يعتبر التاسع من مايو موعداً مهما بالنسبة لروسيا، عسكرياً، ومن شبه المؤكد أن 9 مايو بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجب أن يكون يوم نصر، لذلك أعتقد أن الأسابيع القليلة المقبلة لن تؤدي إلى تنازلات دبلوماسية من جانب روسيا”.

الرئيس الفرنسي عبر عن تخوفه من “مشاهد صعبة للغاية في الأيام والأسابيع المقبلة في دونباس”، وهذا الجزء من التصريح جاء بعد تقارير روسية عن إعادة تنظيم الجبهات، بما في ذلك الانسحاب من محيط كييف وتجميع القوات مجدداً على الجبهة الشرقية في معركة يتوقع أن تكون قاسية وكبرى وحاسمة.

وكالة أنباء “انترفاكس-أوكرانيا” نقلت عن ميخايلو بودولياك، مستشار الرئيس الأوكراني، قوله، إن “أوكرانيا مستعدة للمعارك الكبيرة. أوكرانيا يجب أن تكسبها بما في ذلك في دونباس”. والمنطقة الأخيرة، دونباس، هي حوض واسع تسيطر قوات موالية لروسيا على جزء منها منذ عام 2014، و الجزء الأكبر ما زال في أيدي القوات الأوكرانية.

استراتيجية الحرب الروسية، وفق التحركات الميدانية، تشير إلى تركيز القوة الحربية على كل مقاطعة والتخلي عن الجبهات المتعددة المتباعدة. في هذا الإطار، تشن القوات الروسية منذ أيام قصفاً مدفعياً عنيفاً على طول خط التماس في حوض دونباس. و قامت بتدمير مطار  دنيبرو، المدينة الكبيرة في شرق أوكرانيا،  بالكامل. و على حد وصف فالنتين ريزنيتشينكو، حاكم منطقة دنيبرو على تلغرام: “لم يبق منه شيء. المطار نفسه والبنى التحتية المجاورة دمرت”. وتعد أهمية مطار دنيبرو الواقعة على ضفة نهر دنيبر غربي دونباس، أنها قاعدة عمليات رئيسية للمعركة القادمة حيث تحاول روسيا خلق صعوبات لوجستية للقوات الأوكرانية حين تبدأ الحرب الكبيرة.

60 ألف جندي

وبانتظار هجوم روسي كبير، انشغل الجنود الأوكرانيون وعناصر الدفاع، وفق رصد أجرته وكالة فرانس برس، بتحصين مواقعهم وحفر خنادق جديدة في منطقة بارفينكوف الريفية في شرق البلاد. و زرعت ألغام على جوانب الطرق بينما تم تثبيت عوائق مضادة للدبابات على جميع مفترقات الطرق. وفي خاركيف، وهي مدينة ضمن أهداف روسيا في معركة شرق أوكرانيا، تعرضت المدينة إلى 68 عملية قصف جوي ومدفعي خلال يوم واحد (9 نيسان) و هو ما يظهر حجم الأهمية التي تعلقها روسيا على حسم جزئي للحرب حتى تاريخ العرض العسكري السنوي المهيب في 9 أيار القادم، يوم النصر على النازية. و بحسب تقدير وزارة الدفاع الأميركية، فإن “هناك دلائل على أن روسيا تأمل في حشد أكثر من 60 ألف جندي” على جبهة خاركيف. وصرح مسؤول في الوزارة في 9 نيسان/ أبريل، أن عدد الوحدات التكتيكية قرب بلدة بيلجورود الحدودية الروسية ارتفع من 30 وحدة إلى 40 وحدة. ولم يحدد المسؤول العدد الدقيق للقوات الإضافية، لكنه قال إن هذه الأنواع من الكتائب تتألف عادة مما يتراوح بين 600 و1000 جندي.

الحرب تنقذ جونسون

في المقابل، تعمل القوى الغربية الرئيسية، وفي المقدمة منها بريطانيا، على إسناد الأوكرانيين لهزيمة روسيا في هذه المعركة، والتي – لو حدثت – ستكون تبعاتها كارثية على مستقبل بوتين وكذلك روسيا.

وقام رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون السبت 9 نيسان، بزيارة لم يعلن عنها مسبقاً إلى كييف حيث ووعد بتقديم آليات مدرعة لأوكرانيا. سعادة جونسون بأداء الجيش الأوكراني كانت طاغية على تصريحاته، فهذا الجيش – وفق جونسون – “حقق أكبر عمل عسكري في القرن الحادي والعشرين و سمح بالدفاع عن كييف و بإفشال الأهداف الوحشية للرئيس الروسي” على حد تعبيره. و الحرب في أوكرانيا كانت بمثابة حبل إنقاذ لجونسون الذي كان على وشك الاستقالة مطلع العام الحالي بسبب فضائح إقامة حفلات في مقر الحكومة خلال فترات الإغلاق العام بسبب وباء كورونا، ويبدو أن الحرب الأوكرانية منحته منصة ليحظى بثقة أكبر لدى البريطانيين. ولم يكتم رئيس الوزراء البريطاني ما يعلمه عن نوايا بوتين الذي – وفق جونسون – “واجه انتكاسة وسيكثف الضغط الآن في دونباس والشرق”، متعهدا بتزويد كييف بآليات مدرعة وصواريخ مضادة للسفن. وبالفعل، بعد ساعات من زيارة جونسون، أعلنت رئاسة الحكومة أن بريطانيا سترسل 120 مركبة مدرعة وأنظمة صواريخ جديدة مضادة للسفن لدعم أوكرانيا في حربها ضد الغزو الروسي.

ورداً على شحنات الأسلحة المتزايدة من الغرب لأوكرانيا، تحدث السفير الروسي لدى واشنطن، أناتولي أنتونوف، عن خطر مواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا والولايات المتحدة. تصريحات أنتونوف جاءت خلال مقابلة خاصة مع مجلة “نيوزويك” الأمريكية، وقال إن “الدول الغربية متورطة بشكل مباشر في الأحداث الجارية، حيث تواصل إمداد أوكرانيا بالأسلحة والذخيرة” و أن “توريد الأسلحة والمعدات العسكرية من الغرب، بواسطة قوافل النقل عبر أراضي أوكرانيا هو هدف عسكري مشروع لقواتنا المسلحة”.

وضمن الاستعدادات الروسية للمعركة، صرح مسؤول غربي في لندن بأن روسيا أعادت تنظيم قيادة الحرب في أوكرانيا وعينت قائدا جديدا من أصحاب الخبرات في الحرب في سوريا هو الجنرال ألكسندر دفورنيكوف، قائداً جديداً للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. غير أنه لم يصدر تأكيد رسمي بعد من الجانب الروسي بشأن تبديل قيادة العملية في أوكرانيا. و علّق مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، على تقارير التعيين، أنه يتوقع أن يعمد الجنرال الروسي إلى تدبير جرائم وأعمال وحشية بحق المدنيين الأوكرانيين.

درس أطلسي

بالنسبة للدول الغربية، فإن الحرب في أوكرانيا تحولت من نزاع بين دولتين، إحداهما حليف للغرب، إلى فرصة لوضع قواعد في العلاقات الدولية، خاصة تجاه القوى الكبرى التي لديها نوايا أو أهداف بتحرك من طرف واحد لتسوية خلافاتها، مثل الصين و تطلعاتها في ضم تايوان. و ليس هناك من فرصة للغرب، بقيادة الولايات المتحدة، أفضل من المثال الأوكراني لتكون نموذجاً لردع الدول التي وصفها يوماً الرئيس الأميركي جو بايدن بـ”محور السلطوية والاستبداد”. بالتالي، من المتوقع، على غير ما كان واضحاً في الأيام الأولى من الحرب، أن يلقي الغرب بثقل أكبر خلف أوكرانيا كلما طال أمد المواجهات، إلى الوقت الذي تصبح فيه أوكرانيا درساً في كيفية تسببها بتفكك دولة عظمى وفق ما تشتهي الدولة الأطلسية. والتفكك مصطلح استخدمته رئيسة المفوضية الاوروبية، أورسولا فون دير لايين، خلال زيارتها كييف بتاريخ 8 نيسان/ أبريل بقولها: “ستغرق روسيا في التفكك الاقتصادي والمالي والتكنولوجي، في حين تسير أوكرانيا نحو مستقبل أوروبي”. واضافت وهي تخاطب زيلنسكي: “معركتكم هي أيضا معركتنا.. إننا نستنفر قوتنا الاقتصادية لجعل بوتين يدفع ثمناً باهظاً جداً”.

وإعلامياً وأكاديمياً، بدأ المثال الأوكراني يدخل في خانة الدروس من زاوية فشل روسيا. فالمحلل الأمريكي هال براندز، أستاذ كرسي هنري كيسنجر للشؤون العامة في جامعة جونز هوبكنز، وجه تحذيراً لرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان من التشبه ببوتين، و رجح أن تنتهي الحرب الأوكرانية بخراب اقتصادي وعسكري لموسكو. لكنه لفت إلى أن هناك أيضاً ما يدعو للقلق بالنسبة للرئيس الصيني شي جين بينج، فبرأيه أن سوء التقدير قد يكون أكثر خطورة في مضيق تايوان.

في المحصلة، لن يكون بقاء أوكرانيا مهماً بقدر ما يهم الفكر الأطلسي أن تصبح الحرب هناك درساً استباقياً لمن يفكرون في “عالم متعدد الأقطاب”.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد