اللغة والحقيقة موضعا سؤال!

بدر الحمري

يتعلق الأمر هنا بما كان قد تحدث عنه جاك دريدا بخصوص الاختلاف والجدل، بين ما ينبغي أن نفكر فيه الآن/ اللَّحظة، وبين ما نتصوره خالداً ممتداً في التاريخ.

إنّ كل ربط بين الفكر من جهة والحقيقة والحاضر من جهة ثانية، لن يكون إلاّ عن طريق فكر يبتعدُ عن الحقيقة والحاضر؛ أي فكر ضد الحقيقة، وضد الحاضر؛ ليست هناك حقائق بقدر ما هنالك أوهام، إنها جملة من التشبيهات والاستعارات قد نسينا أنها كذلك، يقول فريدريك نيتشه: « إنها ( الحقيقة ) مجموعة حية من الاستعارات والتشبيهات والمجازات، وهي بإيجاز، حاصلُ علاقات إنسانية تم تحويرها وتجميلها شعرياً وبلاغياً حتى غدت، مع طول الاستعمال، تبدو لشعب من الشعوب دقيقة وذات مشروعية وسلطة مكرهة. إلاّ أنّ الحقائق هي عبارة عن أوهام نسينا أنها كذلك، واستعارات استخدمت كثيراً حتى فقدت قوتها، إنها قطع من النقد فقد الختم المرسوم عليها، وأخذ ينظرُ إليها لا على أنها قطع نقدية بل مجرد مادة معدنية ». هكذا فــــ« الحقيقة » تُصبح مُجرَّدة من كل حقيقة، ينظر إليها بوصفها مُحسناً بلاغياً يميلُ إلى الأسلوب أكثر مما تميلُ إلى بناء قيمتها فقط.

أما ما يخدعنا فهو اللغة عندما تريد أن تصف الحقيقة، أو تظهر بلبوس الحقيقة من أجل الحفاظ على وجودها من أي عُدوان خارجي مُفترض، وهي عندما تُريد أن تفعل ذلك تنتحِل أدواراً زائفة تضليلية مُخادعة. إنّ اللغة تسقطُ عارية أمام الحقيقة عندما تؤمن بنظرية المؤامرة، لتتملَّق الحقيقة في زيفها، أو لنقل بإيجاز: يُصبح المتكلم يلعب فيما سمّاهُ فريدريك نيتشه « سيرك التملُّق المتواصل بهدف إشباع رغبة عابرة من الغرور والاعتداد بالنفس [..] تغدو هي القاعدة والقانون إلى درجة أنه يصعب تصور غريزة للحقيقة صافية وأمينة بين البشر ».

إحساسنا الهَوَوِي باللغة لا يمكنُ أن يقودُ إلى الحقيقة، لأنه سطحي غارق في الأشكال والأوهام والخيالات، لا يداعب إلاّ ظاهر الأشياء، فيمارس تقوى المغالطات على نفسه من حيث لا يَعِـي ذلك! و في أحسن الأحوال إنّ اللغة / المتكلم مكرهان على تحمّل الاستعارات المتداولة في عرف متشدّد.

ما هو الحقيقي؟ أو ما –  هي – الحقيقة؟

إنّ اللغة عندما تحاولُ كشف « ماهية الحقيقة » إنما تفعلُ ذلك من جهة الخلاص من الخطأ، وهو عمل مُرهق للغة، لذلك تتحول في كثير من التجارب الهَوَوِية إلى مُغالطات تقوي الشعور بالقوة. أما المشكلة فتنسُج خيُوطها على الحقيقة عندما تصبحُ قيمتها إرادة القوة، يقولُ فريدريك نيتشه: « إنّ كل دلالة هي إرادة قوة » أي أن كل آستعمال للغة هو إرادة قوة، وبالتالي تصبح الدلالة دائماً دلالة على القوة وإرادتها، هذا إن لم تكن دلالةً على سلطتها.

خطابات الحقيقة ليست بريئة، وتزدادُ غرابتها ولا- براءتها عندما تتلحَّفُ بالميتافيزيقا والأيديولوجيا .. لا يتعلق الأمر في هذا السياق بالتمييز بين لغة من الداخل ولغة أخرى من الخارج، فالتمييز هنا يسقطُ هو الآخر ضحية اللغة ذاتها، لتنسحب الحقيقة في فخ الثنائيات؛ داخل موهوم بالهوية، وخارج موهوم بالعدائية، وكلاهما تحت سطوة اللغة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد