فرهاد حمي
منذ انهيار عملية السلام بين أوجلان والدولة التركية عام 2015 تُستباح أجواء كردستان وأراضيها وشعبها، ومنها شمال شرق سوريا بشكل شبه يومي. هذا يقودنا إلى أن العزلة والاقصاء والتجريد، التي فُرضت منذ ذلك الوقت تقريباً على أوجلان في سجن إمرالي وسط بحر مرمرة، لها علاقة وثيقة بتلك الانتهاكات. الدرس الأول الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار من حادثة اعتقال أوجلان في شباط عام 1999 ومن ثم إصدار حكم الإعدام عليه في حزيران من نفس العام، وهو ذات الفترة التاريخية التي أطلقت فيها أولى شرارة المقاومة الكردية على يد الشيخ سعيد بيران في مواجهة الدولة التركية الحديثة وانتهت بحادثة إعدامه الشنيع في آمد “ديار بكر” عام 1925، يتمثل في أن تجريد أوجلان وعزله من خلال هويته الفردية في السجن يحاكي عزلة الأمة الكردية بكاملها في الخارج، وتحديداً من جهة حرمانها من الحق القانوني والأخلاقي والحماية الوجودية. يختزل أوجلان هذه المفارقة بقوله في مقدمة كتابه سوسيولوجيا الحرية: “السلطان الأطرش قد علم وسمع بأني أُحاكم باسم الكرد الذين يٌعتبرون الشعب الأكثر مأساوية في تاريخ العالم“.
وفق هذا المنظور، شرّع أوجلان بفتح ثغرة نقدية داخل منظومة حقوق الإنسان عموماً وبنية العقيدة الليبرالية خصوصاً، التي تقوم على فصل الحق الفردي عن الحق الجماعي. فـ”الدعوى الشخصية” المفروضة على أوجلان لا يتحلى بتاتاً بالمعنى القانوني والأخلاقي، ذلك أن تصور الفرد المجرد من هوية المجتمع حسب تعبير أوجلان ليس سوى إحدى سفسطات المركزية الأوروبية الرسمية.
عقب صدور عقوبة الإعدام بحق أوجلان في مشهد هزلي أو استعراضي، وفق توصيفه، من قبل المحكمة الدستورية في تركيا، التي كانت عرضة للانتقادات من قبل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، لاسيما من جهة عدم حيادتها واستقلاليتها، ومن ثم رفض المحاكم الأوربية المعنية في إعادة محاكمته مكتفياً فقط بإلغاء عقوبة الإعدام، كونها منافية للميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان، بقيت قضية أوجلان عرضة للمماطلة والتسويف منذ أكثر من عشرين عاماً.
ناشد أوجلان بدوره مراراً الحضارة الأوروبية الرسمية، التي تدير المسيرة الحقوقية العالمية من خلال مرافعاته التسعة والمقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوربية، بأن تتجرأ في محاكمته من خلال قضاء يتخذ من الحقوق أساساً له، ولكن بلا جدوى.
لبرهة يتوقف المرء ويتساءل، لماذا يتوجه أوجلان لمخاطبة القارة العجوزة ومؤسساتها الحقوقية التي تتجاهل قضيته أساساً؟ في الحقيقة، تكمن ثلاث عوامل وراء ذلك، فالعامل الأول يجيبه أوجلان بنفسه عبر قوله: “لم يساروني الشك بأن المرحلة المعاشة منذ أن وضعت قدمي في أوروبا إلى حين الزج بي في إمرالي، قد تحققت بأكملها في تخطيط مشترك بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الاوروبي، كما لم أشك أبداً أن الدور المفضل لدى جمهوريات تركيا هو حراسة السجن فقط“. بمعنى يحيل أوجلان مسؤولية اعتقاله بطريقة تعسفية إلى كاهل المنظومة الغربية، وهذا مفهوماً قياساً لحجم المؤامرة التي حُبكت من قبل شبكة الغلاديو على خط أثينا وروما وموسكو. ثانياً، يعتبر أوجلان أنه من حقه الاستفادة من القوانين الأوروبية على صعيد الحقوق الفردية على الرغم من كل نقائصه. وهنا يقصد انتهاك حق اللجوء السياسي ورفض إعادة المحاكمة وعدم احترام سيادة القانون من قبل منظومة الناتو وشبكة الغلاديو ومصالح رأس المال. بينما يرمي أوجلان من وراء العامل الثالث في نقل حلبة الصراع السياسي للقضية الكردية إلى الفضاء العام الأوروبي، نظراً أن أشكال العدالة القائمة في القارة العجوزة تعتبر أرقى الأشكال في عصرنا الحالي. وتالياً، تقف بالتضاد مع القوانين والدساتير التركية والتي هي شريكة للاتحاد الاوروبي اقتصادياً وحليفتها الأمنية في حلف الناتو. تبعاً لذلك، يقول أوجلان “إني أخضع لحكم نظام خارج عن إطار التعاميم والقوانين والدساتير المطبقة بحق المحكومين والمعتقلين في تركيا “.
ينبغي أن نصدق أوجلان عندما يقول إن مراجعة حكمه ليست مصدر قلقه الرئيسي ولا الهدف الأساسي لشكواه. بل أن مقاربته تلك هي عبارة عن العودة إلى العدالة الأوروبية، حتى لو كانت مقترحاته السياسية تتعثر بسبب المصالح الاستراتيجية لحلف الناتو. فمنذ التسعينيات من القرن الماضي أيقن أوجلان بأن الصراع العسكري لن يؤدي إلى حل القضية الكردية والديمقراطية في تركيا. فالدولة الدستورية بالكامل قد لا تمثل أي ضمان ضد التدهور السياسي ومؤسساتها، لكنها بالتأكيد شرط مسبق لا غنى عنه للرقابة الديمقراطية والتطور السلمي للنظام السياسي، والتي وجدت تعبيرها المشترك في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وعلى عكس الناتو فقد حوّل الاتحاد الأوروبي هذا المعيار إلى شرط مسبق للعضوية تحت معايير كوبنهاغن. فهذه الإصلاحات، التي تعلي من سيادة القانون، لا تشمل فقط الحد من التعذيب وإخفاء الناس وطردهم وتدمير منازلهم وممتلكاتهم، لكنها تتضمن أيضاً الاعتراف بالهوية الكردية واستقلالهم الذاتي المحلي، فضلاً عن تشريع لغتهم وتنظيماتهم السياسية والمدنية. من هذه الزاوية، يعتبر حل القضية الكردية مرهوناً بتحقيق الدولة الدستورية في شكل “الجمهورية الثانية“. وهذا هو النهج الذي يتبعه أوجلان في إحداث الاختراق داخل الدولة التركية منذ اعتقاله.
في الواقع، يجادل أوجلان المدنية الأوروبية بذات الحجة التي تناولها الفيلسوف الألماني هيغل في كتابه “أصول فلسفة الحق” حيال فكرة إصدار الحكم بحق المتهم. فحسب هيغل لا يعد صدور حكم ما بحق المتهم اجحافاً، بقدر ما هو التعبير عن إنسانيته. فالبقاء معلقاً دون إصدار الحكم يجرد الإنسان والأمة من شرف التمتع بالأخلاق والإنسانية في آن معاً. أطلق المفكر الإيطالي، جورج أغامبين، على هذا المنظور صيغة “هومر سكر” في وصف هذا التناقض البنيوي داخل الحضارة الغربية، التي تعني الإنسان المستباح والمعرض للموت والقتل بمعزل عن إدراجه في خانة المنظومة الأخلاقية والقانونية، بحكم ابتلاع قانون الطوارئ منظومة الحق.
عندما انصاعت الدولة الاوربية لضغوطات شبكة الغلاديو بعدم قبول طلب اللجوء السياسي لأوجلان عقب مغادرته سوريا، كانت تبتغي عملياً من وراء ذلك حرمان حضور النضال الكردي في الفضاء العام الأوروبي من خلال رمزية أوجلان، وكانت تفضل بدلاً من ذلك بأن يقدم أوجلان على عملية الانتحار الذاتي، وذلك عندما سلمت موظفي السفارة اليونانية في كينيا سلاح له، ليس من أجل الدفاع عن النفس كما يزعم، وإنما في محاولة إقدامه على عملية الانتحار فيما لو اقتربت ساعة الاعتقال، وهو ما أشار إليه أوجلان أكثر من المرة.
وجهت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عام 2019 اللوم إلى المحكمة الدستورية التركية بسبب الإجراءات غير العادلة في قضية أوجلان، لكنها لم تعتبر اختطاف أوجلان من كينيا إلى تركيا جريمة ضد الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. فضلاً على أنها لا تزال ترفض إعادة محاكمة أوجلان، خشية من إماطة اللثام على طبيعة عملية الاختطاف التي اشتركت فيها دول من الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا. يعلق أوجلان على هذه الازدواجية لدى الحضارة الغربية قائلاً: “تعتبر تجربتي قطرة ماء في محيط مقابل اللوحات الأكثر دموية في تاريخ سلطة أوروبا وأمريكا، بدءاً من الحروب الاستعمارية المروعة إلى حرق الساحرات، من الحروب المذهبية إلى الحروب الوطنية ومن الصراعات الطبقية إلى النضال الإيديولوجي“. وتالياً بقي أوجلان منزوياً ومجرداً من أبسط حقوقه وهو أسير سجن معزول.
إمرالي من العزلة إلى التحرر
مع سيادة الدولة القومية على شكل العلاقات الدولية بدأت سجون الجزر تعزز مفهوم السيادة، وأصبحت وسيلة أكثر شيوعاً لإبقاء المناضلين ودعاة الحرية منفصلين جسدياً ورمزياً عن المجتمع. فسجن الجزيرة حسب الانثربولوجي الاسترالي، مايكل توسيغ، يشبه الحجر الصحي. كما أنّ العيش على الهوامش المكانية للدولة القومية يعني أن تعيش على عتبة القانون وليس ضمن نطاقه. بمعنى أن الحياة في مثل هذه الهوامش، مثل المناطق معزولة، والمناطق المحتلة، ومخيمات اللاجئين، والسجون، وسجون الجزر، تسودها حالة الطوارئ بصورة دائمة. فهذه المواقع الهامشية والعتبات تصبح فيها السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية غير متمايزة باعتبارها سلطة مطلقة، ولا يمكن التمييز بين الشرعية والعنف. هنا يصبح الانسان مستباحاً ومجرداً من الحماية القانونية والأخلاقية.
ففي حالة أوجلان، لا يسري عليه حتى الشروط المسبقة للفردانية المعاصرة بموجب القوانين الدولية المعمولة. فهو لا يملك صفة التملك ولا الانتماء إلى الأسرة أو الأمة. لذا، يُحرم أوجلان منذ سنوات من لقاء محاميه وأفراد أسرته وشعبه. بيد أنّ المفارقة تكمن في أن لدى إجراء أي اتصال مع أوجلان تتحول هذه العزلة إلى رغبة جمعية تثير بارقة الأمل. وبالتالي، تحتل أهمية رسائله محور حديث السياسة والفضاء العمومي، فيتحول معه المكان المهمش إلى دافع من أجل إعادة تشكيل مفهوم الانتماء لدى مناصري العدالة والسلام.
برهنت عزلة أوجلان في إمرالي على الدوام، بأنها حلبة تخوض فيها كل من الدولة والحركة الكردية معاركها السياسية والقانونية والوجودية. حيث تهدف الدولة إلى جعل إمرالي مكاناً رمزياً تفرض عليه سيادتها المطلقة من خلال خنق حق الحياة والحماية القانونية على الأمة الكردية والمتجسد في شخصية أوجلان. بينما يتفرد أوجلان من خلال نضاله التاريخي ونجاحه عما بناه بأفعاله وكتاباته داخل السجن في تحويل هذه العتبة إلى نقطة الارتكاز من أجل زعزعة مفهوم سيادة الدولة القومية. إذ يتحدى أوجلان طبيعة الظروف القاسية في هذا السجن المعزول، بقوله:” أول جواب يمكنني الرد به على سؤال كيفية تحملي إياها، سيكون مرة أخرى على الشكل التالي: إني أعيش قدر واقعي الاجتماعي“.
اسفرت رسائل أوجلان وكتاباته الموجهة إلى الفضاء العمومي في فترة ما بين 2013 إلى 2015، وهي فترة مفاوضات السلام والتحالفات السياسية الديمقراطية وانعقاد المؤتمرات وفق مقترحاته، إلى إحداث تصدعات في قلب مفهوم السيادة التقليدية في تركيا. حيث أفضت ورشات العمل اليومية والاجتماعات والزيارات التي نظمها الفاعلون السياسيون الكرد والاتراك والتضامن العالمي التحرري إلى ظهور حركة متعددة المراكز والاتجاهات من المثقفين والصحفيين والشباب والنساء والديمقراطيين في كل من آمد وجزيرة وماردين ووان وسروج وهولير وقامشلو وكوباني وأوروبا. كانت هذه الأجواء تعكس انفتاح الأجساد الاجتماعية والفردية لبعضها البعض تحت مظلة المشروع التحرري الذي يحمل بارقة الأمل.
مجدداً، كان أوجلان يراهن في تلك الفترة على التحول الديمقراطي للمجتمع الكردي وإنشاء دولة دستورية كشرط جوهرية لتحقيق حق التقرير المصير. غير أنّ حسابات السلطة والهيمنة الأحادية ومناصري العنف التاريخي انقلبوا في ربيع عام 2015 على عملية السلام، وخاصة عندما لم ينجح أردوغان في كبح جماح الشعبية المتزايدة لحزب حزب الشعوب الديمقراطي ومنعه من دخول البرلمان. وبذلك شنت أنقرة حملة الاضطهاد الممنهج والقمع الهستيري ضد الجميع ككل، وحرب بلا رحمة ضد الكرد على وجه الخصوص. لم يعترض أي من شركاء تركيا في الناتو من منع أردوغان التصرف بهذه الطريقة الإجرامية ضد شعبه. في حين لم يكن أحد مستعد في مجلس الأمن لرفع ملف الحكومة التركية والجيش التركي إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم الحرب. من الواضح تماماً أن الدور الاستراتيجي الذي تلعبه تركيا كقاعدة عسكرية وبؤرة استيطانية في الشرق الأوسط وكدرع وقائي ضد اللاجئين من مناطق الحرب هو أكثر أهمية من جميع اعترافات السلام وحقوق الإنسان.
أصبحت لغة العنف والحرب لعنة توصم حقيقة هذه الدولة التي ولدت عاقاً منذ تأسيسها. وقد تم الرد على مقترحات أوجلان حول السلام والديمقراطية بجملة من حملات الاضطهاد والاعتقالات الشاملة والقصف الجوي المستمر في حرب تتعدى حدود تركيا وتشمل حالياً كردستان العراق وسوريا بصورة يومية.
أمام هذه الأجواء القاتمة، تبقى فرصة التحرر من القمع والعنف أمر ممكن ويمكن تحقيقه حتى في الأوقات العصيبة. لا ينبغي أن نكتفي بافتراض أن نظام أردوغان سينتهي ذات يوم. فالمقاومة النشطة ضرورية وممكنة، كما يمنح أوجلان من خلال كتاباته وتصريحاته السابقة مع محاميه وأفراد أسرته مجموعة من الوسائل والطرق لتحقيق ذلك. لذا، ينبغي أن يكون فك العزلة عن أوجلان أحد الأهداف المباشرة، فالكفاح الكردي ليس يتيماً في هذا المسار، فهذه قضية تحررية معنية بالنضال العالمي أيضاً.
عليه، ينبغي العودة إلى أطروحات أوجلان في إمرالي تماشياً مع ذكرى اعتقاله الثالث والعشرون، ولا يسعنا في هذا السياق إلا أن نستحضر نصيحة المفكر الفرنسي، جورج باتاي، وهو يقرأ نيتشه، بأنه ينبغي على المرء أن ينزف، لأن نيتشه نفسه كان ينزف عندما كان يكتب. وهو وصفاً ينطبق على قراءة مؤلفات أوجلان في السجن أيضاً. فيتعين على المرء أن يختار طريقاً صعباً بنفس القدر، وأن يمتلك إيماناً بالعدالة والتحرر والسلام مع دلالة سطور أوجلان المؤثرة.