التسلط.. مفهوم الجماعات المتطرفة العنيفة

د. بدر الحمري

ليس تجديد الخطاب الديني بالعمل الهين، ولا تحقيق مشروع التنوير الإسلامي بالأمر السهل، فأمامهما عقبات كثيرة، من بينها: تَسَلُّط الفكر المتطرف على ‘العقل الإسلامي’ بتفخيخه لخطابه الديني وجعله قابلا للانفجار في لحظة ما، متى شاء، وأين شاء ! فهذه طريقة في نشأة الجماعات الإرهابية: من الفكر إلى العمل. يتنسفُ معها أكثر المفاهيم صلة بالمواطنة مثل الوطن والدولة والسّلم والسلام .. إلخ.

فلا غرو من أنّ الفكر المتطرف العنيفَ مُربكٌ للعقل الإسلامي، يُرخي بحمولته التاريخية الدَّموية – الخوارِجِيَّة – على أية مُحاولة في العيش تتخذ من التعددية الدينية والثقافية متنفساً لها أو تستقي إنسانيتها من مشروع السَّلام الدائم القائم على التَّعايش والتسامُح والتراحُم، فيكشف هذا الفكر المتطرفُ العنيف بذلك عن الجانب المظلم في تأويليته المنحرفة للدين ( النص القرآني مثلا أو الحديثي في الآن نفسه ) ما دام النص الدينيّ هو مُنطلقه ومرجِعه في التَّسلُّط على عقل الجمهور المتلقي.

وإذا كنا ننادي – كما ينادي كثير من الباحثين – بضرورة هذا التجديد فإن المدخل الفكريّ الأساس إليه ينقسمُ إلى قسمين على الأقل:

أولا: تبيان آليات بلاغة التسلط في تأويل النص القرآني.

ثانياً: تبيانُ كيف تخدم هذه الآليات التسلطية مصالح الجماعات الإرهابية التي تعيق التجديد والتنوير معاً؛ وهي على العموم آليات لا تقفُ عند حدود التأويل الزائف للقرآن بل تستغلُ تراثنا الثقافي ورأسمالنا الرمزي فتزيفه تزييفاُ وتلبسه لبوساً سوداوياً .. قاتماً.. لا حياة فيه ولا فرح.

إنّ تحليل آليات آشتغال الفكر المتطرف العنيف في تعبئة ضحاياه المفترضين يحتاجُ منّا إلى جهد نظري وتطبيقي في الآن نفسه، كما أشرنا في الورقة التمهيدية السابقة، فالأول يفهمنا هذا الخطاب المتسلط، أما الثاني فيسهل علينا عمليات الوقوف عند مغالطاته وتبيانها لعموم الناس، رحمة بهم وتجنباً لأي مخاطر يمكنُ أن يوقعهم فيها.

لكن يبقى السؤال المطروح في سياق بحثنا هو:

–  ما موقع آليةُ التسلُّط وبلاغتها في الخطاب الموجه من المتسلط / المتطرف العنيف إلى الجمهور، وهل يمكنُ معرفياً أن نتحدث عن وجود آليات لبلاغة التسلط؟

–  من منطلق أنّ البلاغة تحيل على مجال معرفي يدرس الممارسات الإنسانية اللغوية التي تؤثر بشكل متبادل في سلوك الناس وأفكارهم من خلال الاستعمالات الاستراتيجية للغة(1)، ألا يمكنُ أن توضع هذه الممارسات موضع دراسة آليات التسلط كونها تتصف في وجه من أوجهها بالرمزية التي تخترق الخطابات، والأيقوني، والإشاري؟

قبل أن نجيب عن ما سبق، ونقدم لذلك أمثلة من الخطابات المتطرفة العنيفة واستراتيجياتها المغالطة للجمهور، علينا أن نقف عند دلالة مفهوم ‘التسلُّط’ الذي وصفنا به عملها من جهة، وصلته باللغة التي هي مدار ‘الخطاب’ من جهة ثانية.

يمكنُ القول: إنّ التسلُّط هو اللاشرعية في آمتلاك السلطة والاستحواذ عليها بالعنف. أما بلاغته فهي تُستثمر في بناء الوضع الذي يرى فيه المتكلم نفسه أعلى من المٌخاطب/ الجمهور ولو كان مساوياً له في الرتبة الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية أو الاقتصادية، أو أقل أيضاً، وهنا التسلُّط ينتقل من مستواه البلاغي إلى مفهومه الاستراتيجي في الخطابات المتطرفة العنيفة؛ حيثُ يُلاحظ فيه اغتصاب الضعفاء والتحرّق والتلهّب والشدّة عليهم، والمتطرفُ إذا تسلط فبلسانه، وإذا فعل ذلك أفحشَ وأفسدَ الزرعَ والنّسلَ. من ثمة، فإن بداية التسلط اللسان / ( أي على مستوى اللغة )، وخاتمته إشاعة الفسادِ في بلاد النّاس، والتلهف على خيراتها، وقتل أبريائها، وترويع مواطنيها، والتآمّر عليهم، وتخريب أوطانهم كما هو الحال مثلا في سوريا والعراق وليبيا..

وبين التسلُّط والتطرف علاقات قوى متينة وتبليغية لا على حقيقة البلاغة ولكن في تزييف أصلها ومنطقها، يمدد من خلالها التطرف تسلطه ويفرض على المخاطبين خطابه من خلال التحريض والتضييق والكراهية والصد وكل مقولات الكراهية لا فقط السلطة(2).

وهي بذلك قد تسير في طريق بلاغة الكذب التي سبق وتحدث عنها أبو حيان التوحيديّ؛ فمن النصوص الجميلة التي أوردها أبو حيان التوحيدي في مقابساته نص يحاول أن يسبر أغوار ماهية البلاغة والخطابة، وكأن الرجل يعرف مسبقاً أنه ليس كل بليغ عالم صادق صاف تتطابق بلاغته مع أفعاله. وهذا ما كشف عنه جواب أبو زكريا الصيمري حين قال: « قد يكذب البليغ ولا يكون بكذبه خارجاً عن بلاغته؟ فقال: ذلك الكذب قد ألبس لباس الصدق، وأعير عليه حلة الحق، فالصدق حاكم، وإنما رجع معناه إلى الكذب الذي هو مخلف لصورة العقل الناظم للحقائق، المهذب للأعراض، المقرب للبعيد، المخضر للقريب»(3).

إذا ما حاولنا أن نقرأ هذا النص من منظور بلاغة التسلط سنجد أنه يصف، بطريقة أو بأخرى، هذه البلاغة؛ فالمتطرف العنيف لا يعير أي اهتمام لقيمة الصدق في كلامه، فهو يرص الكلمة إلى جانب أختها، ويرتبهما، وينظمهما، ويسبكهما، ويصلهما بأخواتهما، ليس بهدف رفض الاستكراه ومجانبة التعسف، وإنما يتخذ من الاستكراه والتعسف سبيلان لإقناع الناس بخطابه، فالتسلط حَاكم على بَلاغته، وبالتالي لا وجود لحقائق تنظم عقله، ومن خلالها تقوم بتنظيم الواقع والحياة الاجتماعية بصفة عامة.

نحن هنا أمام بلاغتين: بلاغة الصدق وبلاغة الكذب؛ في الأولى يتحرى فيها المتكلم الحق ويرفض العنف، وفي الثانية تحضر البلاغة ويغيب الحق والصدق معاً. وفي كلتا الحالتين فإن اللغة هي الوسيط الضروري بينهما، فما صلة اللغة ببلاغة التسلط؟ هل يمكنُ أن تتجاوز وظيفتها التواصلية إلى وظائف أخرى مثل اشعال فتيل الحروب وتغليط الجمهور وتزييف الحقائق؟

من البدهي أن نشير في هذا المقام إلى العلاقة القوية التي تربط اللغة بالسلطة، لكن ما نلحظه أن اللغة إذا أخذت من جهة ظاهرها بعدها أداة أو وسيلة أو آلية للتواصل فنحن لا نكون أوفياء جدا لاستعمالات اللغة، لأنه من جملة استعمالاتها التسلط، وهو الاستعمال الخاص بالخطابات المتطرفة العنيفة: ذلك أنّ قدرة أي تنظيم إرهابي متطرف على الانتشار والاستحواذ تكمنُ في قدرات كلماته على التبليغ والمحاججة والاقناع.

إن خطاب الجماعات المتطرفة العنيفة، وما يحتويه من رغبة متوحشة في الهيمنة والتجبر والتسلط على كلّ الثقافات، والسياسات، والعرقيات، والأديان، ونزعة في السيطرة على كل الممتلكات، يدعونا إلى توسيع النظر في دوائر تشابكاته المعرفية، واللغوية، والبلاغية، والاستراتيجية. من ثمّة ليس غريباً أن نجد في هذا الخطاب المتسلط كثير من مفاهيمه المركزية تنتمي إلى حقل النزعة الفرعونية التاريخية(4)، سواء كان هذا بشكل مباشر أو غير مباشر، سري أو علني، ظاهر أو ضمني؛ يلزم عن ذلك مقاربة هذا الخطاب من زاوية علاقته بهذه النزعة المتسلطة، بل وعده نوعاً من الفرعونية المعاصرة، لها تمظهراتها المتعددة والمختلفة من جهة، ثم تحليل أسس هذه العلاقة التي تقوم عليها فرعونية التطرف والفرعونية التاريخية من جهة ثانية، وهي أسس لها صلة مع مقاصد الخطاب وأسس اللغة ووظيفتهما في التواصل مع الغير سواء كان فرداً (الضحية) أو جماعة (جمهور المتطرفين أو المخاطبين بصفة عامة). فكيف تبرز العلاقة بين خطاب التطرف والتسلط؟ وما دام تركيزنا على بلاغة التسلط التي تميز الخطاب المتطرف، يمكننا طرح السؤال التالي: كيف تصارع اللغة في صناعة صور وأشكال للتطرف؟ ما هي مظاهر هذا الصراع ومستوياته؟

من أجل تفكيك علاقة التطرف بوصفه خطابا موجها للغير اعتماداً على السلطة، لا بد من الوقوف عند ماهية اللغة بوصفها سلطة؛ فاللغة ليست تلك الوسيلة التي نتواصل بها فقط، وإلاّ سنكون أمام مفهوم فارغ من كلّ معنى، لذلك فنحن نحتاج إلى تحليل نظري وتطبيقي يربط وظيفة اللغة بأبعادها التي تميل إلى التسلط على المخاطب؛ بمعنى آخر إننا عندما نقول اللغة والسلطة، وكأن الأمر مرتبط أساساً بالخطاب والهيمنة في مجمل تمظهراتهما الرقمية أو السيميائية .. والتي يمكنُ أن تكون فضاء الخطاب المتطرف والحاضنة له، والحال أننا يمكنُ أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنؤكد على فرعونية الخطاب المتطرف، وهذا الوصف أشنع من القول بــسلطة اللغة أو سلطة الخطاب المتطرف. مع العلم أنّ مفهوم السلطة نفسه ليس مفهوماً خالياً من المشكلات المعرفية؛ « فهو يحتاج– أيضاً – إلى التحليل النظري التفصيلي، فعلى سبيل المثال، كيف يرتبط ترتيل، أو ترنيم محدد، أو ضمير، أو عنوان، أو موضوع، أو مفردة معجمية، أو استعارة مجازية، أو لون، أو زاوية كاميرا، أو غيرها من الخصائص العلاماتية والإبداعية للخطاب؛ بشيء مجرد وعام مثل علاقات السلطة بالمجتمع؟ بمعنى آخر: نحتاجُ – بشكل ما – إلى ربط الخصائص النمطية على المستوى الجزئي للنص، والحديث والتفاعل، والممارسات العلاماتية مع الأبعاد النمطية على المستوى الشمولي للمجتمع مثل الجماعات أو المؤسسات وعلاقاته بالهيمنة »(5). ومن نماذج هذه الجماعات التي يكون لها فكر وسلوك متطرفان “داعش” وأخواتها!

إنّ تناول موضوع اللغة والسلطة يمكنُ أن يتم من منطلق الدراسات في مجال العلوم الإنسانية والفلسفية، ما دامت اللغة بوصفها سلطة تتوزع في المجتمع من كلّ حدب وصوب، الشيء الذي يجعلها موضوع تأمل فلسفي، كما هو الحال مثلا مع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو أو بيير بورديو أو رولان بارث الذين عدوا اللغة لا تخلو من السلطة أو العنف أو الهيمنة(6). لكن غابت عن بعض الباحثين الأشكال التسلطية للغة، أو إن شئت قل: النزعة الفرعونية التاريخية للُغة التَّخاطب عند المتطرف؛ فالجماعات المتطرفة العنيفة ما دامت تحمل أيديولوجيا فكرية سياسية متحجبة بالدين تقوم على التحريض والتقتيل، فلا يمكنُ أن تمررها إلاّ عن طريق خطاب يربط فكرها بلغة التسلط، بمعنى أنها تقيم حوارات داخلية بينها وبين الضحايا حتى تضفي الشرعية اللازمة عليهم.

«إنّ اللغة تزخر في ثناياها بالأيديولوجيا»(7). ومهمة الناظر في تفاعلات خطاب التطرف العنيف أن يقف على هذه الأيديولوجيا ثم ينسفها باظهار تسلط سحرها على عقول الناس، سواء ما كان منها على مستوى ظاهر الخطاب أو وراءه أو فيه، لأن الأيديولوجيا قد تأتي من كل الاتجاهات أثناء تلقي الخطاب. وما دمنا نتحدث عن هذا النوع من السحر المتسلط في الخطاب، فيمكنُ أن نوازن بينه وبين السلطة الخفية التي نجدها في خطاب أجهزة الإعلام المعروفة أو وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة للجميع.

 من ثمة، يمكنُ النظر إلى خطابات التطرف العنيف بوصفها عوالم غامضة سلطوية تعمل بالكلمات المضللة وعينها على تمكين تسلطها في المجتمع؛ فليس غريباً أن نجد هذا الخطاب يتضمن مزيجاً غريباً من أنواع الخطابات، فمرة يتحدث بلغة دينية ومرة أخرى يتحدث بلغة اجتماعية تاريخية ومرات عديدة يتحدث بلغة سياسية .. هذا المزيج قد يبدو للوهلة الأولى أنه ينم عن ثقافة عالية لأصحابه، وهذا وهم صحيح ! لكن مع الأسف الشديد لا يكون غرضه الحفاظ على حياة المخاطبين أو إن رسالته إليهم نبيلة، بل غرضه تدميرهم نفسياً وشحنهم فكرياً حتى يتسنّى لهم تخريب مجتمعاتهم أفراداً ومؤسسات، فهل صح الحديث هنا عن بلاغة سلطة تتلون بتلون الخطاب المتطرف، وتتوزع وفق الخطط التي ينهجها؟ بمعنى آخر أكثر جذرية وحتى نعيدَ التركيز على مفهوم التسلط بوصفه راية التوحُّش لدى الجماعات المتطرفة العنيفة لا بأس من إعادة طرح السؤال الآتي: هل تمتلك تلك الجماعات المتطرفة الإرهابية سلطة أم تسلط فعلا؟

هذا ما ستظهرُه الكيفيات التي يمرر بها «رسالته » عبر قنواته وخُططه ..( يتبع )

المراجع

1 – كريستيان بلانتان، الحجاج، ترجمة عبد القادر المهيري ومراجعة عبد الله صولة، ص:75. لا شكّ أن هذا التحديد يجعل البلاغة تخرج من الأسوار المعروفة (البيان، والبديع، والمعاني)، ليس تقليلا من شأنها، ولكن تطويراً لآلياتها من داخل مجالنا التداولي الخصب والمنفتح على حقول معرفية أخرى في تحليل الخطاب كما سيأتي بيان ذلك.

2 – نخالف هنا ما ذهب إليه جيل دولوز في قراءته للمعرفة والسلطة عند ميشال فوكو، ونرى أن التحريض والتضييق مثلا لا يمثلان قوى السلطة وفعلها بقدر ما يمثلان قوى التسلط أكثر؛ ففي الأولى تحضر الشرعية والقانون والعدالة والحق، بينما في الثانية لا تحضر هذه القيم إلاّ من جهة تزييف المفاهيم وخداع الناس ومغالطاتهم والتحكم فيهم، من ثم تغييب الشرعية. ينظر: جيل دولوز، المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1987.

3- أبو حيان التوحيدي، المقابسات، ص : 168.

4- يستعمل البحث مفهوم ‘نزعة فرعونية تاريخية’ نسبة إلى فرعون مصر، الذي جاء ذكره في القرآن، ويعدّ آدعاء الألوهية وقتله للأطفال من أكبر الميزات التي ميزته، وهي قيمة مشتركة، وإن بشكل مختلف، مع التنظيمات الإرهابية، كما سيأتي بيانُ ذلك

5- توين فان ديك، الخطاب والسلطة، ترجمة غيداء العلي، مراجعة وتقديم عماد عبد اللطيف، المركز القومي للترجمة، العدد 2419، الطبعة الأولى 2014، ص: 29-30.

6- ينظر مثلا كتاب: جيل دولوز، المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1994. 

7- – نورمان فاركوف، اللغة والسلطة، ترجمة محمد عناني، المركز القومي للترجمة، مصر، القاهرة ، ط1، 2016، ص: 17

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد