في الذكرى 98 لـ”الجمهورية”.. كيف انتصر مصطفى كمال ونجا الاتحاديون وخسر الكرد؟

حسين جمو

في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1923، أعلن مصطفى كمال باشا عن تأسيس “الجمهورية التركية” ليستكمل مسيرة سريعة من التحولات العنيفة بإعادة بناء تركيا على أنقاض بقايا الدولة العثمانية عبر ما أسماه بنفسه “تحريرها من عبء الشعوب غير التركية”. لم يكن الإعلان عن الجمهورية قطعاً للصلة بالميراث العثماني في بادئ الأمر، لكنه تحول كذلك شيئاً فشيئاً، في مجالات معينة، دون أن يكون القطع كلياًّ، خاصة فيما يتعلق بنظرة الجمهورية للشعوب غير المسلمة التي وجدت نفسها ضمن دولة “الجمهورية”. التأسيس الفعلي للقطيعة الدستورية مع الميراث العثماني المشترك لشعوب هذه الجمهورية ظهر بعد ستة شهور من الإعلان، وتحديداً في 20 نيسان / أبريل 1924 حين تم تمرير دستور جديد “انقلابي” في مضمونه ضد الدستور الأول الصادر مطلع عام 1921 وهو الدستور الذي لم تنشر الجمهورية نصوص مواده الأصلية حتى الآن لأنه مصاغ على مبدأين: تحرير الدولة من الاحتلال الغربي و تأسيس وطن مشترك للشعوب التي خاضت المعركة الأخيرة لإنقاذ الجمهورية، أي حرب الاستقلال.

في نهاية يوم 29 أكتوبر، لم تكن الصورة واضحة لا للقريب ولا البعيد. في مثل هذا اليوم، وعلى مدى أسابيع بعدها، هيمن هذا الإعلان على الصحف البريطانية.

في 30 أكتوبر كتبت صحيفة ” Yorkshire Post” : “تركيا جمهورية .. تنصيب مصطفى كمال باشا رئيساً”.  الصحيفة نقلت عن وكالة رويترز أن القرار المفاجئ باستقالة الحكومة تم اتخاذه بعد اجتماع مطول، وتمت مناقشة القضية في اجتماع لحزب الشعب”، وهو الاجتماع الذي شهد خلافات عاصفة وفق الصحيفة. فما الذي جرى في الساعات التي سبقت تنصيب مصطفى كمال رئيساً؟

كتبت الصحيفة نقلاً عن مراسل وكالة رويترز في أنقرة: ” بعد أن أعلن فتحي بك (المقصود فتحي أوكيار)، رئيس الوزراء ، عن وجود خلاف كبير، طُلب منه توضيح التفاصيل في بيان رسمي، لكنه رفض القيام بذلك. و وجهت الانتقادات بشكل رئيسي إلى أوكيار” لرفضه توضيح ما حدث في الاجتماع العاصف. و يمكن استنباط نقطة الخلاف الرئيسية ضمن السرد الهادئ الذي قدمته وكالة رويترز حينها. فقد وافق “حزب الشعب” الذي أسسه مصطفى كمال في 9 أيلول سبتمبر 1923 (قبل أسابيع من إعلان الجمهورية) على مقترحات الباشا بانتخابه رئيساً ومنحه صلاحية ترشيح رئيس الوزراء.  من المرجح أن ربط ترشيح رئيس الوزراء بإرادة مصطفى كمال قد أثار بعض منافسي مصطفى كمال، وعلى رأسهم فتحي أوكيار، وهو بالتأكيد لن يقف في وجه مصطفى كمال لو لم يكن يحظى بدعم مجموعة عسكرية قوية أمثال كاظم قره باكير و فوزي جقمق، إلا أن الصحف عموماً لم تخض في تفاصيل الاصطفافات عشية إعلان الجمهورية.

معركة أنور ومصطفى

في الفقرة التالية من تقرير الصحيفة ذاتها، رسمت صورة إيجابية لمصطفى كمال، مستندة في ذلك إلى رسالة كتبها الجنرال البريطاني تشارلز تاونسند، الذي تم أسره في معركة الكوت عام 1916 وبقي عاماً في سجون الأناضول. بحسب شهادة تاونسند الذي أرسل رأيه عبر التلغراف إلى صحيفة التايمز قبل عام من إعلان الجمهورية، فإن مصطفى كمال “يمتلك فهمًا رائعًا للسياسة والشؤون الأوروبية”، ثم تطرقت الصحيفة إلى الجزء الأكثر جدلاً وغموضاً في وصول مصطفى إلى السلطة، وهو الصراع بينه وبين أنور باشا. من الواضح أن رواية مصطفى كمال هي التي انتصرت في وقت مبكر. فقد نقلت غالبية الصحف البريطانية الرواية التي أطلقها مصطفى كمال بخصوص بداية الخلاف مع أنور باشا بعد معركة غاليبولي عام 1915 في بحر مرمرة، وبسبب “غيرة وحسد أنور باشا من مصطفى كمال” على حد تعبير يوركشاير، صدر أمر بنقل مصطفى باشا إلى الولايات العربية لإبعاده عن مركز الحكم. ثم ما أن حل عام 1919 حتى كان أنور باشاً من الفارين من وجه العدالة فاتجه أعضاء “الاتحاد والترقي” إلى مصطفى كمال ليصبح زعيماً لهم، وفق الصحيفة.

و سلّطت صحيفة يوركشاير الضوء على رواية أخرى أعادت نشر جزء منها، في الأصل قد نشرت قبل عام بقلم مراسل الصحيفة، كان قد حبكها مصطفى كمال وأنصاره مبكراً، وهو أنه أعاد بناء الجيش “من لاشيء”. من المعروف ، حتى وفق كتاب سيرة مصطفى كمال، أن هذا الادعاء تنفيه الوقائع ولم يصمد بهذا الادعاء أي من الشهود المساهمين في سرد سيرة مصطفى كمال. لم يبنِ مصطفى كمال شيئاً من الصفر كما تم الترويج له في وقت مبكر، حتى قبل إعلان الجمهورية بعام وعامين، أي قبل أن يعلن انتصاره النهائي في حرب الاستقلال. كيف وجدت إذاً رواية مصطفى كمال طريقها بهذه السهولة إلى النشر وباتت هي الرواية السائدة؟ إن القارئ لبعض سير مصطفى كمال يعتقد لوهلة أن السرديات المعاد صياغتها، مثل بناء مصطفى كمال الجيش من الصفر، هي نتاج فترة لاحقة بعد إعلان الجمهورية و عمليات صناعة “مصطفى كمال” لتقديمه إلى الشعب بصورة البطل الأوحد و مهندس كل الانتصارات حتى منذ انقلاب 1908. لكن مراجعة سرديات صحفية عشية وغداة إعلان الجمهورية تكشف، بلا لبس، أن الروايات التي تم تثبيتها لاحقاً عن مصطفى كمال، بجهود عصمت إينونو، قد كانت موجودة مسبقاً، والأرجح أنها وجدت طريقها لتصبح القصة السائدة لأن الخصوم لم يعودوا في الساحة للدفاع عن أنفسهم. فقد تم عزل السلطان وحيد الدين وهو السلطان الذي يقول إنه أرسل مصطفى كمال إلى الأناضول مع التفويض اللازم لتجميع الجيش هناك و انتظار أمر الهجوم، كما تم طرد أنور باشا في العام 1919، وتم إسكات كاظم قره بكير، قائد الجيش الوحيد الذي حافظ على تشكلاته العسكرية في كردستان و الجبهة الشرقية. و بخصوص المشاركة الكردية الكثيفة في التأسيس وخوض حروب الاستقلال، فإنها تبددت – وفق تعبير زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان- بسبب الطابع الفردي التطوعي لهذه المشاركة وعدم انتظامها تحت قيادة مرجعية كردية.

لماذا تراجع فوزي جقمق؟

في 31 تشرين الأول/ أكتوبر (بعد يومين من إعلان الجمهورية) كتبت صحيفة ” Nottingham Journal” : “تركيا جمهورية.. مصطفى كمال وعصمت يقودان الحكومة الجديدة”. وركزت في تقريرها القصير على شخصية عصمت إينونو ومسيرته في التوصل إلى صلح مودانيا عام 1922 مع حكومة لويد جورج البريطانية، وهي الاتفاقية التي مهدت لانسحاب بريطانيا من القسطنطينية والمضائق.

في 31 من الشهر أيضاً، عنون صحيفة Daily News اللندنية: “تركيا الجديدة.. كمال رئيساً وعصمت رئيساً للوزراء”. وكتب مراسلها الخاص في القسطنطينية موجزاً عن المبادئ الرئيسية للجمهورية، أو ما يهم البريطانيين منها، مثل إعلان المحمدية (الإسلام) الدين الرسمي للدولة. وفي الجزء الأخير من التقرير ذكرت الصحيفة خبر تعيين عصمت إينونو رئيساً للوزراء، وقامت بتعريفه فقط من خلال التذكير أنه قاد الوفد التركي في مفاوضات لوزان. و من اللافت أنه حين أذيع نبأ استقالة فتحي أوكيار قبل يوم من إعلان الجمهورية، كان هناك مرشحان لرئاسة الحكومة، فقد كان إلى جانب عصمت إينونو شخصية أخرى مرشحة وهو قائد الجيش فوزي جقمق، وقد ورد اسم جقمق في تقرير قصير لصحيفة Halifax Evening Courier بتاريخ 29 تشرين الأول/ أكتوبر.

أما صحيفة ” Yorkshire Evening” فقد استهلت تقريراً أقرب إلى مقال الرأي تحت عنوان “الجمهورية الجديدة” وكتبت:

“أصبحت تركيا جمهورية. لو حدث شيء من هذا القبيل قبل اثني عشر عامًا، لكان تحولاً سياسياً من الدرجة الأولى. ومع ذلك ، منذ بدء الحرب (العالمية الأولى)، تكررت التغييرات في شكل الحكومات الوطنية لدرجة أنها لم تعد تشكل منعطفاً حاسماً، وفي كثير من الحالات لم تعني هذه التغييرات الكثير لكي نبني عليها أملًا كبيرًا”. ثم كالت الصحيفة بالمديح على مصطفى كمال واعتبرت أن هذا البلد المرهق من الحرب وسوء الإدارة يستحق رجلاً مستقيماً كمصطفى كمال الذي “هزم نخبة الدبلوماسيين الأوروبيين” على حد تعبير الصحيفة البريطانية. واختتمت بالقول: “تحت قيادة مثل هذا الرجل، فإن تركيا على الطريق الصحيح”.

التسوية غير المعلنة

في 31 أكتوبر أيضاً، نشرت صحيفة ” Sheffield Daily Telegraph” تقريراً بعنوان: “لعبة مصطفى كمال الخطرة”. وجاء في المقال: “إذاً، تم الإعلان عن تأسيس تركيا كجمهورية مع مصطفى كمال باشا رئيسًا والجنرال عصمت باشا رئيسًا للوزراء. من المحتمل أن يعتقد الأمريكيون أن هذا دليل قاطع على أن تركيا القومية بعد الحرب قد حصّنت مكاسبها بقوة، وأن المعركة بين منزل كمال الجديد ومنزل عثمان القديم ، قد تم حسمها بانتصار مصطفى كمال. ولكن إذا كان الأمر كذلك فإن ما جرى أمر مشكوك فيه للغاية. قد تكون خطوة مصطفى كمال قد اتخذت في خضم اليأس وليس الشعور بالأمان المطلق. ربما يكون الشعور بأن الأمور لا تسير على ما يرام قد دفعه إلى إبعاد فتحي بيك المعتدل عن الطريق ، وبالتالي تمهيد الطريق لدكتاتورية مكشوفة”.

شككت الصحيفة بقدرة الجمهورية على الاستمرار وحذرت من أن إمكانية عودة العثمانيين إلى الحكم واردة خاصة في ظل نفوذ قوي للمعارضة المتمثلة في لجنة الاتحاد والترقي إلى جانب ضعف مناعة كل من مصطفى كمال وعصمت إينونو أمام المؤامرات بسبب طموحاتهما الشخصية. واقع الأمر أن ما نشرته ” Sheffield Daily Telegraph” يبدو لوهلة الأبعد عن مسار الأحداث، نظرياً، لأنه ببساطة، الجمهورية صمدت، والاتحاد والترقي لم تشكل تحدياً لمصطفى كمال. لكن من زاوية أخرى، هذا بالضبط ما يمثل صفحة غير معلنة حتى الآن في تاريخ الترتيبات الأولى للجمهورية: ما هي التسوية التي تمت بين جنرالات الاتحاد والترقي و “فريق الجمهورية”؟

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد