في مغالطات المتطرف: الاحتكام إلى سلطة الاستشهاد !

د. بدر الحمري

خلصنا سابقاً إلى فكرة مفادها: انّ الخطاب المتطرف العنيف، أو الإرهابي، هو خِطاب مُتسلط، يعتمدُ على كل الطرق غير المشروعة واللاقانونية في آمتلاك السلطة كما يتخيّلها، وبالتالي فهو خطاب تضليليّ، تتطابق آلياته الخِطابية مع جملة من المغالطات المنطقية، من ثمة يصير السؤال: ما هي أنواع هذه المغالطات التي يستعملها الخطاب الإرهابي في تسلُّطه على عقول المخاطبين وتضليله للضحايا المفترضين من أجل إكراههم بوعي أو من دون وعــي على القيام بالأفعال الإجرامية؟

بداية، يلاحظ أنّ الخطاب المتطرف العنيف تتنوع طرق تضليله للجمهور، بل قد يصل هذا التنوع إلى حدِّ التعقيد، حيث يصير كشف خيوطه وفهمه من الأمور الصعبة على كل باحث فيه بَلْهَ المتلقي. لكن قليلا من التركيز والتأمل يقودانا إلى أشدّ مغالطة يستعملها، تكادُ تكون مشتركة بين جميع التنظيمات المتطرفة العنيفة، السِّرية أو العلنيَّة، وهي مُغالطة الاحتكام إلى سُلطة Appeal to authority؛ حيثُ يقع الضحيّةُ في هذه المغالطة :” عندما يعتقد بصدق قضية أو فكرة لا سند لها إلاّ سُلطة قائلها. قد تكون الفكرة صائبة بطبيعة الحال، وإنّما تكمن المغالطة في اعتبار السلطة بديلا عن البـَيِّنة، أو اتخاذها بَيِّنة من دون البينة!“1. بمعنى أن هذه الحجة التضليلية التي يوردها المتطرفُ تستمد سلطتها من قائلها، أو من مصدرها، أو من النص الذي أخذت منه، أو المرجع الذي رجعت إليه، كما يمكنُ أن يكون الاحتكام إلى سلطتها مستمد من مؤسسة رسمية أو غير رسمية أو نصّ ديني أو قانوني أو حتى شخصية لها مكانتها الرمزية عند المخاطبين، على سبيل المثال لا الحصر ما تحمله سُلطة الخطاب المتضمن لـــــ أكدّ « أهل العلم والاختصاص »2 وتزيد قوة هذه المغالطة كلما كان الاختصاص دقيقاً، كل في مجاله، أو تزيد على قدر سلطة إجماع العلماء كما يأتي بيانه في سياقات القول المتطرف، لكن إذا ما تقدمنا خطوة إلى الأمام وطرح بعض الأسئلة مثل: من هم هؤلاء العلماء، ومتى أجمعوا، وما هي ظروف الإجماع وسياقاته الثقافية أو مرجعيته السياسية فإنّ هذا الخطاب سرعان ما ينتفي ويضمحلُ ويتقوقع داخل مجاله الأيديولوجي الدمويّ، ويتم تعريض السائل إلى شخصنة مواقفه وآتهامه بالإلحاد والزندقة والكفر، حتى تنسفَ حججه أو يتخلّى عنها، ليبدو بعد ذلك كأن العكس هو الصحيح، وإن كان خصماً عنيدًا يمرّ المتطرف العنيف إلى المرحلة الثانية وهي: إعلان آستباحة دم السائل وعِرضه وماله وأهله ..

إذا كانت مغالطة الاحتكام إلى السلطة لها أشكال وأنواع تتعدد حسب المقام والسياق الذي يأتي فيه الخطاب العنيف، فإنَّ مغالطة الاحتكام إلى سلطة الاستشهاد تعدّ الأقوى رواجاً فيه، وهي على ثلاثة أنواع:

 مغالطة الاستشهاد المكثف بالنص القرآنيّ.

– مغالطة الاستشهاد بالنص الحديثيّ.

– مغالطة الاستشهاد بــأقوال ‘العلماء’ وأحكامهم.

وبيانُ ذلك على الشكل الآتي:

فمن المفارقات التي تلاحظ بخصوص هذه المغالطة أن النص القرآني رغم كونه حمال تأويلات متعددة ومتنوعة حسب السياق الذي ترد فيه الآيات وأوضاعها الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية، أو حتى الروحية-العقدية التي تُعالجها، إلاّ أنه في تصور الخطاب المتطرف – داعش  مثلا- ليس له إلاّ معنى واحد ووحيد، وهو تصور جامد وصُلب لا يجدُ في التأويلات المخالفة له إلاّ ضلالات وجب القضاء عليها شرعاً، بعد تكفيرها وزندقتها واتهامها بالإلحاد والمروق عن الدين. من ثمة يصير الخطاب المتطرف مهيمناً على كل شيء مخالف والتحريض على قتله إذا لم يستجب إليه، أما الغريب أننا إذا ما أخذنا عينة من هذه الخطابات وفق السياقات التسلطية التي وردت فيها فغالباً ما يُغيَّب الاستشهادُ بالآيات التي يأتي فيها ذكر الرحمة والمغفرة والتعارف والمعروف والصَّفح والسِّلم والعفو والكرم وعدم الإكراه في الدِّين وحريَّة المعتقد .. وغيرها من الحقوق أو القيم الإنسانية النبيلة التي أنزل من أجلها الذكر الحكيم وبعث لأجلها الرسول الأعظم محمد، بل يتطاول الأمر في أحيان كثيرة ليمضي إلى تحريف الآيات وليِّ منطوقها والوقوف عند (ويل للمصلين) !والتأكيد على أن آيات القتال أو الجهاد نسخت كل قيمة إنسانية قبلهما.

أما نماذج هذه الآيات فتكاد تتكرر في مجمل حديث المتطرفين، وخطاباتهم، وكتاباتهم، حيثُ يمكن أن نذكر أمثلة عديدة تزخر بها تلك الأدبيات المتطرفة وبلاغتها، مما يعني أن نسق التطرف الفكري والمرجع الأيديولوجي واحد لا يتعدد، بضعة آيات مزيفة تفسيراً يحتكمون إليها في التسلط، ومنها الآتي:

 ·(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 5).

هذه الآية تعرفُ عند علماء التفسير بآية السيف، وتعدُّ بمثابة الآية التأسيسية للتنظيمات الجهادية المتطرفة التي تقودُ إرهابهاً ضد الإنسانية جمعاء، لمجرد أن منطوق الآية جاء فيها أن كلّ من لم يؤمن بالله وكان على دين غير الإسلام فهو مشرك، وبالتالي فدمه حلال حتى لو كان غير مُحارب أو عدو .. أو حتى عدو محتمل! نجدُ هذا التفسير عند غير واحد من المفسِّرين الكبار المعتمدين حتى في التأويلات التفسيرية الحديثة، حيث يقول أحدهم في تفسير الآية السابقة:” وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ شُرِعُ الْجِهَادُ وَالْإِذْنُ فِيهِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرُ الْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ آيَاتِ الْمُوَادَعَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ. وَقَدْ عَمَّتِ الْآيَةُ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ وَعَمَّتِ الْبِقَاعَ إِلَّا مَا خَصَّصَتْهُ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ“3!

خطورة هذا التفسير، الذي تجد فيه التنظيمات المتطرفة الإرهابية ضالتها ومآربها الشخصية الأخرى- أنه  يجزم بكون هذه الآية ناسخة لكل ما سبقها، أي أنّ الآيات التي تخالفها لا تبني أي تشريع جديد! وإن كان المفسّر السابق يضع شرط ما خصصته الأدلة من الكتاب والسنة، لكن حُجة الناسخ والمنسوخ تعدّ أقوى حُكماً عندهم من كل آجتهاد محتمل يدعو إلى الموادعة والمعاهدة، وإلاّ فما كنا لنراها آية يحتكم إليها الإرهابيّ من أجل التسلط على عقول المخاطبين وعواطفهم وإذكاء نيران الفرقة بين عباد الرّحمن!

لمزيد من التوضيح وحتى نعلم هذه الخطورة التي تأتي من وراء الادعاء بالنسخ يمكنُ أن نؤكد فقط أنّ آيات كثيرة مثل آيات عدم الإكراه في الدين، وآيات الدعوة إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وآيات الحث على البر لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم .. وأخرى تصبح لاغية – منسوخة – بقدرة هذا الفهم المغالط والمتشدد والمفخخ لآية السيف.

هناك اجتهادات حديثة أو معاصرة حاولت نقد تلك التفسيرات المتطرفة ‘لآية السيف’، منها مثلا تأويلات محمد أركون ومحمد شحرور ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي .. لكن التنظيمات المتطرفة الإرهابية تتحصن بنصوص رجالات تنظيماتها تستندُ هي الأخرى على الناسخ والمنسوخ ولا تقبل بأية دعوة إلى قيم التعايش والتسامح والسلام حتى وإن كانت كل الشروط التاريخية تدعو إليها، ومنها نصوص سيد قطب، منظّر جماعات الإخوان [..] التي فرخت تنظيمات أخرى أكثر تطرفاً، بل وكفَّرت الجماعة نفسها، ومن كلامه التضليلي في فهم “آية السَّيف” وعن التأويلات التي تعارض نسخها، يقول إنّ هذه التأويلات لا تُلقي بالها:« إلى حق الإسلام المطلق في أن ينطلق في الأرض لتحرير البشرية من العبودية للعباد، وردها إلى الله وحده، حيثما كان ذلك ممكنا له، بغض النظر عما إذا كان هناك اعتداء على أهله داخل حدودهم الإقليمية أم لم يكن .. فهو يستبعد هذا المبدأ ابتداء. وهو المبدأ الذي يقوم عليه الجهاد في الإسلام. وبدونه يفقد دين الله حقه في أن يزيل العقبات المادية من طريق الدعوة، ويفقد كذلك جديته وواقعيته في مواجهة الواقع البشري بوسائل مكافئة له في مراحل متعددة بوسائل متجددة، ويصبح عليه أن يواجه القوى المادية بالدعوة العقيدية ! وهو هزال لا يرضاه الله لدينه في هذه الأرض ! »4 .

الملاحظ في هذا المقتطف من كلام سيد قطب في تفسيره ‘لآية السيف’ أنه يمزج في مغالطة التسلط باسم الإسلام بين ما يمكنُ أن نسميه معجم الاستعلاء الحربي والكلام نيابة عن الله؛ فكلام مثل ‘حق الإسلام المطلق’ وتكرار كلمات بعينها أو بمعانيها (اعتداء، الجهاد، أن يزيل، مواجهة ..) يمكنُ أن يصور دين الرحمة – الذي هو الإسلام وكما نراه كذلك- على أنه دين وصاية على كرامة الناس، دين مستبد وديكتاتوري، وله الحق على رقاب الناس وأموالهم وأعراضهم، وهذا هو التسلط عينه بلا شك. بل إنّ سيد قطب ليعرفُ ما ” لا يرضاه الله لدينه في هذه الأرض!”. وهذه مغالطة فاقت الاحتكام إلى سلطة دنيوية حتى نصفها بالتسلط، فماذا بعد أن تكلم سيد قطب وكأنه ينوب عن الله أو في أقل تقدير وكأنه وحدهُ من يعرفُ ما يرضاه الله وما لا يرضاه.

بناء على ما سبق يمكنُ أن نفهم دلالات مهاجمة التفسير المتطرف للتأويلات المخالفة له، بل يذهبُ في مهاجمتها العنيفة إلى حدّ إخراجها من دائرة الإسلام بطريقة غير مباشرة وفي سياق تضليلي تسلطيّ دائماً؛ يقول سيد قطب عن تلك التأويلات المخالفة له – في معرض تفسيره لآية السَّيف – بأنها لا تهتم بـــ” طبيعة المنهج الحركي في الإسلام، ومواجهته للواقع بوسائل مكافئة. فهو يحيل الأحكام النهائية الأخيرة على النصوص المرحلية قبلها. دون التفات إلى أن النصوص السابقة كانت تواجه حالات واقعة غير الحالة التي جاءت النصوص الأخيرة تواجهها .. وحقيقة إن هذه الأحكام ليست (منسوخة) بمعنى أنه لا يجوز الأخذ بها مهما تكن الأحوال – بعد نزول الأحكام الأخيرة – فهي باقية لمواجهة الحالات التي تكون من نوع الحالات التي واجهتها. ولكنها لا تقيد المسلمين إذا واجهتهم حالات كالتي واجهتها النصوص الأخيرة، وكانوا قادرين على تنفيذها”3. فتأمل المعجم الحربي الذي كتبت به هذه الفقرة، وكيف أنّ النصوص التي تدعو إلى السيف كما يفهمها سيد قطب هي باقية ما دام الإسلام حركيّ فقط، ومعنى الحركة هنا المواجهة والقتال. ثم يختم هذه الفقرة بجملة تعكسُ فكره المتسلط وتبين فهمه المستبدّ وكأنه هو الوحيد الذي يفهم النص القرآن، حيث يقول:” إن الأمر في حاجة إلى سعة ومرونة وإدراك لطبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي كما أسلفنا ..”5.

إن مغالطة الاحتكام إلى سلطة الاستشهاد بآية السيف لا تكون غالباً منفردة في السياق الخطابي بل تأتي آيات أخرى إلى جانبها، تشكل استراتيجيات من أجل الايقاع بالمخاطبين المحتملين، نذكرُ من هذه الآيات الآتي:

·( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِى عَزِيزٌ) (الحج: 39-40)

·( فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان : 52)

·(فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد : 04)

·( قاتلوا المشركين كافة)  ( التوبة : 36 ).

·(انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (التوبة :41).

·( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) ( البقرة : 194).

وكما هو حال الاستشهاد المغالط بالنص القرآني مع تكرار آيات بعينها في مجموعة من السياقات الخطابية المتطرفة من دون أخرى تدعو إلى السلم والرحمة والمحبة، ومن جملتها تلك التي ذكرناها سابقاً، يأتي النص الحديثي الشريف في المرتبة الثانية من الاستشهاد المغالط، وهي على العموم متفاوتة الحضور في الخطاب، بين الكثرة والقلة، ونكتفي بذكر بعض من تلك الأحاديث يتم إيرادها بشكل قوي في الخطاب المتطرف العنيف، وهي:

أ‌- ( لأن يهدى الله بك رجلا واحداً خير من حمر النعم).

ب‌- ( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله).

ت‌- عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمرة الجنة أو شجر الجنة.

ث‌- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء على بارق نهر الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرةً وعشياً.

ج‌- عن سهل بن سعد الساعدي. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا، وما فيها.

نضيف إلى ما سبق مغالطة سلطة الاستشهاد بسير الصحابة وبمواقف من يعدونهم فقهاء أو علماء نذكر منهم ابن تيمية الذي يحتفى في أدبياتهم .. وفي كل هذه الأنواع الثلاثة من المغالطات المفخخة يتم انتزاع النصوص المستشهد بها انتزاعاً من أسباب نزولها ومقاصدها الربانية أو سياقاتها التاريخية. من هنا نفهم لماذا هناك دائماً جرأة في تأويل النصوص الدينية المؤسسة ‘القرآن والحديث النبوي الشريف’ بفصلها أولا عن سياقاتها المتعددة ( التاريخية أو الاجتماعية ..) ولماذا المتطرف لا يقبلُ مُراجعة أفكاره، وكيف يفعل ذلك والكلمة التي يتفوه بها ليست فردية مسؤولة، بل هي أيديولوجيا تنظيمية، بل أيديولوجيا تسعى إلى العالمية لتكون عابرة للقرارات .. والقارات معاً ! وبفهم هذه الاستراتيجيات الأيديولوجية المغالطة نفهم كيف يهرب الفكر المتطرف إلى العنف والقتل والتقتيل والصَّلب والشنق والإعدامات والتفجيرات الانتحارية، ولا يلجأ إلى المحاورة والمناقشة والمحاججة والمجادلة بالتي هي أحسن كما يدعو إلى ذلك القرآن نفسه!

وأخيراً، وجب علينا التأكيدُ ان هذا التوظيف التسلطي للنصوص الدينية على اختلاف مستوياتها في الاحتجاج الشرعي يتم في الخطاب المتسلط حصراً من أجل مغالطة الجمهور المستهدف والمخاطبين الضحايا المحتملين، من ثمة فهو يجعلنا نفهم – من جهة أخرى – لماذا ليست هناك مساجلات مستمرة بين أصحاب هذا التأويل المغالط وفِرق أو تيارات أخرى يرى فيها هؤلاء ‘خصوماً ‘ مثل المؤسسات الدينية الرسمية في العالم الاسلامي ( الأزهر مثلا) أو شخصيات دينية وفكرية يشهد لها بمخالفتها لأيديولوجيا الإرهاب ( من محمد عبده إلى حسن حنفي .. وغيرهما) وإن كانت هذه المساجلات تتم بطريقة غير مباشرة .. وكم سيكون جليلا لقاء من تراه داعش مثلا مفتيها الصنديد مع من تراه جامعة الأزهر عالمها المتمكن، فبهذا اللقاء تكشف المغالطات وتنتصر الرحمة على من يخالفها، لكن ما دامت الخطابات المتطرفة ضعيفة في حُجتها، كاذبة في شرعيتها، فهي تهرب من أي مواجهة حقيقية ما دامت تحب المواجهات، وتفضل على ذلك إلقاء شباكها في وسائل التواصل الاجتماعي ( مثلا) لعله يأتي بصيد ثمين، لكن ومع الأسف فكثيراً ما تحقق لها ذلك.

المصادر والمراجع:

1. د. عادل مصطفى، المغالطات المنطقية، طبيعتنا الثانية وخبزنا اليومي، فصول في المنطق غير الصوري، دار رؤيا للنشر والتوزيع، مصر، 2013، ص: 85.

2. د. عادل مصطفى، المغالطات المنطقية، الصفحة نفسها.

3. الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، دار سحنون للنشر والتوزيع، د.ت، ج11، ص: 115.

4. سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، ط 32، سنة 2003، ج3، ص: 1591.

5. سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، ط 32، سنة 2003، ج3، ص: 1592.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد