الهوية ونداءات التقانية الرقمية الجديدة .. والمدمرة!

بدر الحمري

قد يَبدُو العُنوان فِيه شيّْء من الغَرابَة والتَّعَجُّب، إذ كيف يمكنُ أن نصِلَ بين الشَّخص بوصفه كائن حيّ عَاقل وبين التِّقنيَّة الرَّقمِية  Digital Technologyبوصفها آلَة « جامدة » لا حياة فيها؟ وهل صَحيح أننا يمكنُ أن نضع هُوِيَّة الشَّخص أمام التقنيات الجديدة أو حتى أن نفكر في المقارنةِ بينهُما؟ أليست كل التقنيات هي ما يدخل في باب مُبتكرات الإنسان ومنتجاته؟ وهل يكتملُ الوجود في حَضْرتِهَا مِن دُون الاضرار بهُوية الإنسان أو حتى مَسِّه في كينُونته؟ وهل هويتنا ثابتة في عصر سُمِّي بــ« الانهماك المعلُومَاتي »؟ أليست التكنولوجيا- الرقمية تشكل إدراكاتنا وتغير من شكل أدمغتنا كذلك وهي بذلك إنما تعمل على تغيير ملامح هوياتنا؟ أي طرف آخذٌ طريقة إلى النهاية: الهوية ( الإنسان ) أم التكنولوجيا- الرقمية ( الآلة )؟ ..

تَـفاعُـل الــــهُـويَّة والتِّكنُولُوجيــا

لاَ غَرْوَ أنّ ما يجعلنا نضع الهُويَّة في صلة مباشرة مع التكنولوجيا هو هذا التفاعُل الهُوِيَّاتِي الحاصِل اليوْمَ بينهما؛ فمنذ تقدُّم التِّقنيات الرَّقمِية تعامل معها الشخص بكثير من الاهتمام المُبالغ فيه، مواكباً جديدها، ومتتبعاً صرختها القوية في تغيير العالم وشكله وصورته ونظرتنا إليه من خلال السهولة والبساطة والسعادة التي تستعرضها، لا من خلال كائنات عاقلة تشاركنا الوجود ولكن من خلالها هي نفسها؛ بمعنى أنّ الآلة تستعرضُ قوتها من خلال الآلة نفسها، أو في أبعد تقدير إننا نقيس الآلة بآلة أخرى، نقارن بينهما: هذا حديث وهذا قديم رغم كونهما ينتميان إلى العصر نفسه، لكن الآلة – التِّقانية تفرض علينا أسماء أجيالها وترتيبهم، جيلا بعد جيل، وكأننا أمام جنس آخر ينافس الجنس البشري في أسمائه وصفاته! .. ومع هذه التِّقنيات عرف الشخص مجموعة من التغيرات النفسيَّة والعَصَبيَّة والدماغية التي ميزته عن وضعه البشري قبل قرن مثلا، مما نتج عن ذلك إعادة النظر فلسفياً فيما يميز الشخص بوصفه مفكراً، وماهية وجوده، وبالتالي التعريفات التي قدِّمت لهُوَّيته، مثلا: الذاكرة مع جون لاشولي، التفكير مع رينه ديكارت من خلال الكوجيطو، الشعور أو الإحساس مع جون لوك، اللاشعور أو اللاوعي بوصفه طبيعة الحياة النفسية التي تميز الفرد (الشخص) مع سيغموند فرويد .. بالإضافة إلى فلسفات الوعي أو الدماغ التي أحدثت انقلابات عديدة في مجلات تعريف الشخص فلم يُعَدّ إلاّ كوْمَة من العُصبُونات التي تحدد تفاعلهُ مع العالم الخَارجي، ومن جملته التقنيات الرقمية التي تحول دماغه إلى « دماغ إدماني » فتمزق ذاكرته وتركيزه وانسجامه النفسي؛ وتشير عديد من الدراسات أنّ التعامل مع الشاشات الرقمية ( خاصة شاشات الهواتف الذكية ) تُفسد على الشخص عمقهُ، ذلك العمق الذي تحدث عنه ديكارت عندما سأل أي شيء أنا إذن؟ فكانت إجابته الواضحة ‘أنا شيء مفكر. وما الشيء المفكر. إنه شيء يشك ويفهم، ويَتصور، ويُثبت، ويَنفي، ويُريد، ويَتخيل، ويُحسُّ أيضاً’ غير مستغربٍ أن تكُونَ كلّ هذه الخَصائِص من طبيعتِه المفكِّرة، فكانت النتيجة أن قال’ فبديهي كل البداهة أنني أنا الذي أشك وأنا الذي أفهم وأنا الذي أرغب، ولا حاجة إلى شيء لزيادة الإيضاح‘، فهل معنى هذا أنَّنا اليوم نتحقق بتلك الخصائص التي تميزنا بوصفنا كائنات مفكّرة، أم أنّ التقنيات الرقمية تميز هويتنا عنّا، شيء ما يجعلها تتلاعب بأدمغتنا، وتعيد من خلالها تشكيل ذاكرتنا فلا نفكر بالطريقة نفسها التي كنا عليها قبلها.

شُرُوخُ الهُوية أمام منطق الرَّقمَنة

قد بيَّن انتقال المنطق من مجاله الصوري إلى مجاله غير الصوري شرخاً في هوية الإنسان العاقل الباحث عن الحق والحقيقة وقيم الجمال والحرية والكرامة؛ فلم يعدّ المنطق آلة العقل التي تعصمه من الخطأ، بل في مقابل ذلك صار الحديث عن المغالطات التي ينتجها العقل نفسه، والخداع الذي يمارسه، والأوهام التي تتسلق أفكاره، والاستيلاب الذي تمارسه الخطابات التضليلية، والمنطق الغائم أو الضبابي ( بريادة عالم المنطق لطفي زاده) الذي تمارسه الخطابات وتم تطبيقها في التكنولوجيا الجديدة، فجلها يُعيد تعريف الإنسان بما هو كائن يقِفُ جنياً إلى جنب مع الآلة، فيَتمُّ الحديث عن التخطيط الرَّقمي للدِّماغ، فأبدعت مفاهيم جديدة مثل الشَّخص الرقمي، أو الجيل الرقمي، أو الهُويَّة الرقمية!

الانترنيت صنعناهُ بأيدينا فتحول – بعد حين- إلى كائن آخر يتحكم فينا ويصنعنا، بل يمكنُ أن يدمر علينا حياتنا إن لم نتنبّه إلى صراعه المركزي في حياتنا وحولها. فهل آن أوان التحالف مع الرقمنة – التقنية قبل أن تدمرنا؟

إنه لأمر مربك أن يكون طوفان التقنيات الرقمية غير متحكم فيه، بل ما يربكنا أكثر أن تكون تلك التكنولوجيات في يد فيالق من الحمقى والمجانين واللامبالين الذين يخربون بيوت الناس، أو في يدّ أعداء السلام الذين يدمرون كل مشروع سلام ممكن بين البشرية.

قد يقول قائل، وإن يكن، فما يربطنا بالتِّقَنِيات الرقمية هو التيار الكهربائي، نقطعه عنها وننهي الأمر؟ وحسبي أنّ هذا غباء شديد، وإلاّ فمعنى ذلك أننا نلغي الحضارة والإنسان معاً، كيف نمضي والاتجاهات كلها مُرقمنة تقنياً!

الهوية الرقمية .. بناء جديد!

 بل أكثر من ذلك إن حديثنا عن الذكاء الصناعي اليوم ملفت للنظر، وبالتالي فمن البديهي أن يتغير مفهومنا للهوية وأن يكون هناك حديث عن الهوية الرقمية للأشخاص، وقد يبدو هذا المفهوم عند البعض خرافات أو أساطير أخرى مؤسسة للفكر البشري المعاصر، لكن المفارقة أن عملية بناء الهويات تتم – في وجه من أوجهها – من خلال الانترنت فِعلا؛ فعملية البناء هذه هي « واقع ملموس وقضية ملحة لعدد يتزايد سريعاً من الناس الذين عاشوا كل حياتهم الراشدة منغمسين بالفعل في فيسبوك، وغوغل بلس، ولنكد إن، وتويتر، والمدونات، ويوتيوب، وفليكر، وغير ذلك. وهؤلاء الناس يرون التساؤل عن هوياتهم الشخصية على الإنترنيت أمراً طبيعياً، ويتعاملون مع شخصياتهم على أنها قيد التطوير، ويجتهدون يومياً لتشكيلها وتحديثها »1.

إننا اليوم نعيش بين جيل جديد تزداد اهتماماته بهويته الرقمية كل يوم أكثر من اهتماماته بهويته الواقعية، أو إن شئنا بوصف دقيق يهتم بهويته الرقمية ظناً منه أنه يهتم بهويته الواقعية أحسن اهتمام؛ فمن خلال فايسبوك أو تويتر يستمر في التدفق عبر تدوين آرائه الذاتية ونشر لحظاته الشخصية وتجاربه اليومية بل إنه يشارك تفاصيل حياته الحميمية، مما يعكس إفراطاً في « الانشغال بالذات »2 وتدفقاً للهوية التي تتخفى أو تظهر في تدوينات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. نحن نعلنُ هوياتنا للعالم من خلال الرقمي- الاجتماعي من جهة، ومن جهة ثانية تعلننا الرَّقمنة كفضاءات هُوِيَّاتية متشابكة ومتفاعلة مع بعضها البعض، وهنا خطورة التشبيك الاجتماعي الذي يجعلنا ننصهِرُ كما تَنْصَهِر المَّادة الصُّلبة في الماء .. وهكذا يتم تعريف الإنسان وهويته من جديد، بما يتناسب مع العالم السبرنيتيقي وقانونه الجديد.

مشكلة الهوية في وسائل التواصل الاجتماعي أنها متصلة دائماً، لا تبنى من خلال تاريخها أو مجالها التداولي فقط، بل إنها تُبنى من خلال الأُونلاين ONLINE واللايف LIVE، وبالتالي فهي مفتوحة أمام هويات أخرى تَتَفاعل معها من خلال الصور والتعليقات أو ما يسمى بالسرديات الجزئية، بمعنى أن حياة الإنسان أصبحت حياة متصلة ONLIFE « تعيد تشكيل القيود والمحددات وتتيح قدرات جديدة في تكوين هوياتنا، واكتسابها الواعي، وتعيد تشكيل فهمنا الشخصي والجمعي للذات»3، ومن جملة ما يمكن تشكيله شعورنا الديني أو انتماءاتنا العقدية أو المذهبية أو السياسية، تشكلهُ أم تدمرهُ، ويتم ذلك – طبعاً- في سياق علائقي رقمي- واقعي بين الذوات؛ إنه رقمي لأن مجال التواصل أو البوح أو التعبير الحر هو الانترنيت، وهو واقعي لأن المنطلقات واقعية والنهايات واقعية أيضاً، فغالباً ما تعودُ هوياتنا الشخصية إلى الواقع محملة بأفكار أو هواجس أو عواطف جديدة، و« هكذا يظهر منطق العلائقية أكثر حسماً من منطق الهوية في استعمال الشبكات الاجتماعية، لأن هم التمييز بشأن الآخرين يستند أيضاً ودائماً إلى هم أصالة صورته وأذواقه من طرف أمثاله […] فالهوية الرقمية تكون إذن في ذلك المنظور نتيجة لمشروع حقيقي عاكس لبناء الذات الذي يحتاجُ إلى الاعتراف والتأييد من الطرف الآخر للإنجاز التام. بمعنى آخر، الاستخدام المكثف للشبكات الاجتماعية بتم بشكل عام وفق ثلاثة أشكال أساسية: التعبيرية، والمنطق العلائقي، والبحث عن الاعتراف»4.

تكنولوجيا الذات .. « عالم جديد يناديكم » أو يدمركم!

وبما أننا هويات نتشكل وفق سرديات فإن الذات ينظر إليها على أنها نظام معقد من المعلومات، تتدخل في تركيبتها تفاعلات واعية وذكريات وحكايات، وبالتالي فنحن لسنا إلاَّ معلومات خاصة بنا « ولأن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات يمكنها أن تؤثر بعمق في هذه الأنماط المعلوماتية، فهي حقيقة تكنولوجيات نافذة إلى الذات »5. المثير للاهتمام هنا هو كيفيات تبادل المعلومات في وسائل التواصل الاجتماعي، وإذا علمنا أن هذا التبادل يكون في وجه من أوجهه عبر تفاعل المواقف والآراء حول موضوعات مختلفة من جملتها الدينية والسياسية، تمكنا من الاستنتاج أن البحث في كيفيات التبادل سيميل إلى البحث في كيفيات التبليغ والإقناع والمُحَاجَجَة، لأن هذا سيدلنا على طبيعة الهوية عند الأشخاص في وسائل التواصل الاجتماعي.

بعد أن زاحمت التكنولوجيا الرقمية الإنسان وجوده، وصارت معه الحياة أشبه بحاسوب كبير لا فرار من تشغيله حتى تستأنف مسيرتها وحركتها ونشاطها اليوميَّ، هل يمكنُ للنهايات أن تطل بعنقها من جديد؛ نهاية الإنسان وموته، نهاية التاريخ ومصرعه خاصة وأنّ هذا النوع من التكنولوجيا يوظف ضد مصلحة الوجود البشري وحياته، وما يحدث من هَجمات سِيبرانية ووصُولها إلى حد غير مسبوق اليوم يؤكد أنّ العالم بخصوصياته الثقافية والحضارية والدينية يعرفُ نداءات تِقَانية رقمية جديدة .. ومدمرة!

المصادر والمراجع:

1. لوتشيانو فلوريدي، الثورة الرابعة: كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني، ترجمة لؤي عبد المجيد السيد، عالم المعرفة، العدد 452، سبتمبر 2017.

2.فلوريدي، يرجع إلى الفصل الثالث كاملا.

3.فلوريدي، ص 96.

4.ريمي ريفيل، الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟، ترجمة سعيد بلمبخوت ومراجعة الزواوي بغورة، سلسلة عالم المعرفة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يوليو 462، 2018، ص 70.

5. ريفيل، ص 100.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد