فرهاد حمي
في مطلع هذا العام، عاودت مجدداً شاشة القناة الالمانية العامة(ZDF) بعرض الفيلم السينمائي المشهور:” خلال براري كردستان” الذي صدر خلال حقبة الستينيات من القرن الماضي، مستنداً على رواية المستشرق الالماني الشهير، كارل ماي، المعروف بمؤلفاته أكثر شعبيةً ومبيعاً لردح طويل من الزمن بين الأوساط الشعبية الأوروبية.
تُسلط رواية “خلال براري كردستان” التي نشرت عام 1881 الضوء على مغامرات البطل الألماني، كارا بن نمسي، وسط صراعات القبائل الكردية الإيزيدية مع الحكومة المركزية في اسطنبول. حسب بعض النقّاد، الرواية صنعت صورة نمطية للكرد في المخيال الشعبي الأوروبي، فكانت كردستان، وفق ما قدّمه كارل ماي، موطناً للحروب الأهلية العشائرية، والسذاجة، وقضايا الشرف، ولكن أيضاً شملت الخرافات، والخيانة، والحرب القاسية المستمرة. كانت هذه الصورة إلى حد كبير تطابق صورة المتوحشين (البرابرة) في التاريخ المركزي للحضارة الأوروبية.
تحيلنا هذه المقدمة بوجوب وضع الاستشراق أمام المساءلة: هل لعب دوراً في رسم صورة نمطية سلبية للمجتمع الكردي – وفق معايير القيم الأوروبية في القرن التاسع عشر؟ سيما أنّ هذا المجال الأكاديمي في المساءلة، و الذي ظهر مع كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق” وتعزز مع دراسات ما بعد الكولونيالية (ما بعد الاستعمار)، لم يخضع لمراجعة نقدية جادة في الإنتاج المعرفي. يضاف إلى ذلك أن معظم الأدبيات الثقافية والسياسية الكردية، اقتصرت على تصنيف إسهامات المستشرقين ضمن ثنائية إيجابي/ سلبي، دون التوغل في النصوص الغربية التي ساهمت في صياغة صورة نمطية من منطق شمولية “الخطاب المؤسساتي” خلال حقبة تاريخية، حاسمة معرفياً، في سيرة الحداثة الغربية.
المفارقة الكردية
ومع ذلك، تنطوي الحالة الكردية على مفارقات متشعبة ومتباينة حقاً؛ فإن كانت ثمة تقاطعات كبيرة تسري على الواقعة الكردية من خلال ثنائية الغرب- الشرق، بيد أنّ الاستشراق الكردي يحتوي ثلاثة أبعاد متداخلة إن جاز التعبير. وهنا يظهر وجه صارخ من وجوه المفارقة؛ فالكرد الذين يشكلون بكتلتهم السكانية رابع أكبر مجموعة ثقافية في الشرق الأوسط، حرموا من الوجود السياسي والتعبير المؤسساتي ليصون هويتهم التاريخية عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، وبذلك كانوا ضحية تنميط رؤية المستشرقين مع السلطات الاستعمارية في المنطقة. ثانياً، أصبحوا وجهاً لوجه أمام ورثة الأنماط الاسشتراقية من خلال مؤسسات الأنظمة الحاكمة والنخب الثقافية التي تتقاسم مكانهم التاريخي عقب مرحلة ما بعد الاستعمار وصولاً إلى اليوم. ثالثاً، ونتيجة للتكثيف الدعائي للبعد الثاني، وتقويض مساحة التعبير المؤسساتي لديهم، تقوقعت النخب الكردية والكتلة الاجتماعية عموماً في التعبير عن ذواتها من خلال النمطية الاستشراقية، وترسخت بذلك كما يطلعنا التحليل النفسي الذي يدرس آثار خطاب الاستشراق على اللاشعور الجمعي والفردي، ظاهرة “ الإنكار الذاتي والاغتراب النفسي الذي يعيق تشكيل هوية قسم غير قليل من الكرد على مستوى الشخصية الاجتماعية“.
يُعتبر إغفال تفكيك خطاب الاستشراق، تاريخياً، ومن ثم، تبني النخب الثقافية والسياسية المتحالفة مع الدول القومية المضادة للتعددية، لهذا الخطاب الاستشراقي ضد الكرد، أسلوباً ممنهجاً لإحباط محاولات تصحيح الإنتاج المعرفي السلبي المتعلق بالكرد. ولا يخفي الروائي والمترجم الكردي، إبراهيم يونسي، حسرته وهو يصف هذه الواقعة مع الكاتبة شيري ليزي في كتابها (كردستان- حدود تحت النار) :”إن الكرد، بسبب عدم القدرة على الوصول إلى الخطاب الاستشراقي، ما زالوا غير قادرين على محو أكاذيب رحالة وكتّاب القرن التاسع عشر من عقول الأوروبيين وغيرهم. لا تزال قصة اللصوصية والخداع الوهمي هي قصة الاحتفالات التي يطور القراء من خلالها صورتهم عن الكرد“.
منذ انهيار الامارات الكردية( الإرادة السياسية) داخل الامبراطورية العثمانية التي ابتدأت من عصيان قبيلة بابان عام 1806 وصولاً إلى سقوط إمارة بدرخان بيك في إقليم بوطان عام 1842، نتيجة سلسلة من السياسات المركزية التي تبنتها الدولة العثمانية وبالضغط من الدول الامبريالية على غرار ميثاق التحالف، وإلغاء الانكشارية، وفرمان الإصلاحات، وتأسيس الجيش الجديد العثماني، والإصلاحات البيروقراطية، والمشروطية الأولى والثانية. منذ ذلك الحين، بدأت طاحونة القمع والصهر والمجازر تهرس الكرد إلى اليوم. ومع ذلك، يحذرنا المفكر الايطالي، انطوني غرامشي – الذي استلهم منه إداورد سعيد لفظ” الهيمنة الثقافية” في حقل المجتمع المدني- معتبراً بأن الهيمنة العسكرية والسياسية والبيروقراطية المباشرة ليست هي وحدها من تقرر تقويض مجتمع ما، ما لم ترافقها بالهيمنة الثقافية والنفسية التي تكرس عقيدة التفوق والعنصرية وتحطيم الذات الآخر.
تبعاً لذلك، يصلح القول أن كل ما كُتب عن سياسة “ فرق- تسد” التي اتقنتها الإدارات الاستعمارية التقليدية، وعلى رأسها بريطانيا، وساهمت في إخراج المجتمع الكردي من خانة ” المجتمعات التاريخية والسياسية” ليست هي عنصر جوهري وحيد شتت أوصال المجتمع الكردي تاريخياً، بل ساهم الخطاب الاستشراقي منذ منتصف القرن التاسع عشر بزرع الالغام حول رقبة المجتمع الكردي، وتالياً توجت خاتمة العرض المسرحي من خلال لعبة” فرق- تسد” في مؤتمر القاهرة الشهير عام 1921. المؤتمر الذي وصفه ونستون تشرتشل في مذكراته بأنه منصة ” علي بابا والأربعين حرامي“.
في سبيل توضيح هذه الفكرة، ينبغي استحضار بضعة أمثلة صغيرة، مثل، كتاب مارك سايكس الشهير عن رحلته في كردستان( القبائل الكردية في الامبراطورية العثمانية عام 1899-1906)، كذلك رسائل سكرتيرة المندوب البريطاني الشهيرة في العراق غيروترد بيل، وخرائط الرسام الهاوي والضابط الانكليزي عن كردستان، فرانسيس ريتشارد مونسيل والتي كانت بمثابة مرجعية للسياسات البريطانية الجغرافية، فضلاً عن العديد من الدراسات من قبل الضباط والدبلوماسيين والمبشرين والمنقبين البريطانيين منذ رحلة النقيب جون ماكدونالد كينز عام 1814. فهذه الدراسات بالعموم، هي من مهدت الأجواء في إطلاق رصاصة الرحمة على المجتمع الكردي، حتى قبل بروز اتفاقية سايكس بيكو ومؤتمر القاهرة ولوزان واتفاقية الموصل. والجدير أن الأدبيات الاستشراقية الأوروبية تزخر بالجانب الإيجابي أيضاً عن الكرد، لكن لم يتم الركون إليه في أي مرة في عملية صنع السياسات في حقبة الاستعمار التقليدي.
رغم أفول هذه الصيغة من الاستعمار التقليدي، لكنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخراً أعاد النغمة الاستشراقية إلى الأذهان، حينما نعت الكرد بأنهم” مقاتلون أقوياء وأشداء” وقام في الوقت ذاته، بتفويض الاحتلال التركي تنفيذ حملة عسكرية لاحتلال مدن حررتها قوات سوريا الديمقراطية من التنيظمات الإرهابية في شمال و شرق سوريا. وكأن هذه الحادثة تعود بنا إلى إحدى الفرضيات الرئيسية في النص الاستشراقي الذي يؤطر الكرد في خانة “مقاتلون شجعان وفرسان الشرق“، لكن تتبعها دوماً بجملة معترضة على غرار قول الضابط الانكليزي الذي عمل في العراق في عشرينيات القرن الماضي، سيسل أدموندز” لكنهم لا يصلحون للإدارة“، وذلك في كتابه الشهير” كورد، أتراك، عرب”.
لا يمكن الاستغناء عن مفاهيم إدوارد سعيد في دراسة النصوص الغربية التي كُتبت عن المجتمع الكردي، لكننا لا نأخذ الاستشراق من زاوية الباحثين والرحّالة والاداريين والعسكريين الغربيين في مواجهة الشرق فقط، لأنّ خطاب الاستشراق بمفهومه العام يعني تأمين التبعية الاجتماعية لهيمنة إيديولوجية للحداثة الغربية( الدولة القومية، التصنيع، النزعة الربحية)، وذلك من خلال النخب والطبقات الاجتماعية التي خلفت تركة الخرائط السياسية المصطنعة في الشرق الأوسط، بغية مواصلة حمولة الاستشراق لتنميط صورة الكرد، حتى أصبحت هذه المسلّمات النمطية تخترق لا شعورياً في خطاب الضحية ذاتها، وفق ما يخبرنا العالم الاجتماعي ألبير ميمّي(Albert Memmi)، ومفهومه عن صورة المستعمِر والمستعمَر.
مفهوم الاستشراق
لدرء سوء الفهم، ينبغي التأكيد على أنّ خطاب الاستشراق( طريقة التفكير والكلام) ليس منهجية تتبع لنظرية المؤامرة أو تخضع لعوامل الكراهية والعنصرية والمتخيلات الفردية. وبهذه الحالة، ليس مطلوباً أن نعجب به أو نآسف له، بل نقترنه في سياق خطاب تاريخي اجتماعي، وبوصفه معلماً من تطور التفوق الغربي أمام تدهور المجتمعات الشرقية علمياً وتاريخياً. وهذا التفوق الغربي مقابل “الآخر المتخلف” الذي يتحدث باسمه ويمثله، لا يحدث من خلال السيطرة المباشرة والعنف والتدخل البيروقراطي” الحقل السياسي” لوحده، وإنما من خلال الرضى والطواعية، أو كما ينعت غرامشي بـ “ الهيمنة الثقافية غير المباشرة” في حقل المجتمع المدني، ومن شأن هذه المقولة كما يبين إدوارد سعيد أن ” تتجاهل الآخر من خلال إزاحة إمكانية وجود آراء تتمتع بدرجة أكبر من الاستقلالية أو المقدرة الشكيّة حيال القضايا المطروحة”.
تاريخياً، ومنذ عصر النهضة، تجذرت التناقضات بين الذات” الفاعل والقادر والعارف” وموضوع الدراسة” المفعول به والجامد والجاهل” بصورة حادة. حيث اتخذت الرحلات الاستكشافية والأنشطة الاستعمارية المنطلقة من “الغرب بما في ذلك روسيا”، وكذا نشر المسافرون والسيّاح والكتّاب الغربيون مجموعة متنوعة من الكتب عن المجتمعات والثقافات الغربية التي أقرت الاستشراق. لكن لم تصُغ هذه الأعمال مفهوم “الآخر” فحسب، كما يقول إدوارد سعيد، بل شيدت أيضًا “الشرق” و”الاستشراق” ومهدت الطريق لـ “اكتساب الثقافة الأوروبية، القوة والهوية من خلال مواجهة الشرق. ويصحّ القول في هذه الحالة، أنّ الدول القومية في الشرق الأوسط عبارة عن كيانات مشيّدة غربياً وتابعةً له.
يرى إدوارد سعيد وصف الاستشراق للآخر على أنه غير عقلاني وفاسد، مثل طفل متخلف، غريب، دوني؛ فالاستشراق هو “نمط من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة السيطرة عليه”، ويتقمص موقف سلطوي، مهيمن، ومتفوق، بحيث يكسب هويته من خلال بناء “الآخر” ويضع نفسه ضده كنوع من هوية أدنى. ولو رغبنا أن نعلق على هذه المقولات اختصاراً سيكون على الشكل الآتي:” إنها البذرة العنصرية والفاشية في تكوين هوية الدولة القومية“.
في هذه الخاصية على وجه التحديد، انبرى سلافوي جيجك بفتح ثغرة نقدية ضد إدوارد سعيد، كونه وقع في هفوة الهوية المركزية الغربية على النحو التعميمي. فهذه الذات الغربية وفق جيجك يعتريها النقص الوجودي أساساً بعد إزاحة القوى الميتافيزيقية والدينية التي كانت تشكل هوية الإنسان الغربي، مما استشاط بالمستشرقين تفجير فيض من الخيالات والتوهمات والاسقاطات عبر تصوير الشرق بغية التستر على عيوب هويتهم الوجودية.
يعتبر جيجك هذه المقاربة، مكمن العنصرية الناجمة عن التفوق في سياسة الهويات عموماً؛ فإيديولوجية النازية لا تختلف كثيراً عن أية هوية تزعم بالكلية والتجانس من خلال إقصاء الآخر وتحويله إلى كائن شرير ووحشي. ولعل السيرة الذاتية للجاسوسة البريطانية، غروترود بيل – التي ساهمت بقسط كبيرة في تجزئة كردستان-عرضت سيرتها مؤخراً في فيلم سينمائي بعنوان ” ملكة الصحراء“- تعبيراً منها عن هذا الضجر والفراغ في الهوية الوجودية، حيث اتخذت من مغامراتها المشرقية الرومانسية حقلاً لتفجير التخيلات النفسية والاسقاطات المتوهمة على شعوب المنطقة. ولدى بروز عنصر الخيال كآلية تعويضية بغرض ترسيخ الهوية الذاتية المتجانسة والمثالية، حينها تبدأ الإيديولوجيا في إطلاق العنان لكل أشكال النعوت والأوصاف ضد الآخر المختلف.
بالعودة إلى تعريف إدوارد سعيد للاستشراق، نسجل هنا أربعة ملاحظات: أولاً، يعرّف الاستشراق بأنه أسلوب التفكير القائم على التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يسمى” الشرق” وبين ما يسمى في معظم الأحيان “ الغرب”، ثانياً، نرى أنه يستخدم بعض الممارسات والعناصر الخطابية لتمثيل وتوضيح عالم الذات الخاص به. ثالثاً، فهو يعتبر “الشرق” (وكردستان جزء منه) عالم مخترع من قبله، وهو كياناً موحداً لا ينطوي على الاختلاف والتنوع. أما رابعاً فهو يصفه باللجوء إلى عناصره الخطابية، مثل: غريب عن الغرب، غير متزامن حضارياً، الافتقار إلى الصحة، والغرابة، والإشكالية، والبحث العنيف، والغباء المتأصل، والتخلف وإلخ.
يشدد إدوارد سعيد على أنّ :”عدد كبير من الكتّاب، من بينهم شعراء، وروائيون، وفلاسفة، واصحاب نظريات سياسية، واقتصاديون، ومديرون امبرياليون، قد قبلوا التميز الاساسي بين الشرق والغرب باعتباره نقطة انطلاق لوضع نظريات مفصلة، وإنشاء ملاحم، وكتابة روايات، وأوصاف اجتماعية، ودراسات سياسية عن الشرق وأهله وعاداته وعقله ومصيره”.
استناداً لهذا التميّز، تقوم مجموعة هذه الأعمال سواء أكانت أكاديمية أم غير أكاديمية بإعادة إنتاج “صورة الشرق“. لذلك، أظهر سعيد بأن هناك عدداً من السمات والأوصاف التي تكرر في النصوص المتعلقة بالدول المستعمرة لا يمكن إرجاعها ببساطة إلى معتقدات المؤلف الفردي والنصوص المماثلة حول موضوع ما، بل هي بالأحرى منظومة إيديولوجية واسعة النطاق التي تم تشكيلها من خلال الأطر الخطابية، ويتم منحهم المصداقية والقوة من خلال علاقات القوة الموجودة في المؤسسات الامبريالية والنخب الشرقية التي قبلت هذه التشكيلات المعرفية بوصفها قوانين ثابتة.
ورغم كل الحيادية التي وصُفت المؤلفات المكتوبة عن الكرد، ورغم محاولات المؤلفين لتنبي منهجية موضوعية، إلاّ أنّ هذه الدراسات كانت وثيقة الصلة بالمجال الثقافي والاتجاهات السياسية والحقائق المسيطرة المحددة، أو كما يقول ميشيل فوكو تشابك علاقة” أنساق المعرفة والسلطة” والذي استفاد منه سعيد كمصدر مهم في ربط علاقة المعرفة بمؤسسات السلطة الامبريالية. دون أن ننسى الإشارة إلى ظهور توجهات جديدة في الوقت الراهن، تحاول إنصاف الظاهرة الكردية من الداخل نسبياً.
الخلفية التاريخية
ظهرت الدراسات الكردية بأوسع معانيها منذ القرن الرابع قبل الميلاد، حيث خصص المؤرخ اليوناني الكلاسيكي زينوفون صفحات قليلة من عمله الشهير” الاناباسيس“(الصعود) للأحداث التي وقعت في كردستان، وأطلق على قومها لقب:” كاردوخ” ويشكل هذا النص أقدم مصدر للعلماء الاوروبيين. وفي القرن الخامس الميلادي، ذكر المؤرخ الأرمني موسى الخوريني في كتابه” التاريخ الأرمني” حياة الكرد، وعندما تأسس مركز” الاستشراق” في الغرب عام 1841 ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الفرنسية، وكثيراً ما أشار المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي إلى هذا الكتاب بوصفه أحد المراجع الرئيسية في دراساته عن الكرد.
تجمدت الدراسات الاوروبية عن الكرد في فترة العصور الوسطى، وخاصة من بداية القرن العاشر وما تلاه، حيث أصبحت نصوص الكتّاب والعلماء المسلمين هي السائدة. ومن المؤلفين المسلمين الرئيسيين الذين كتبوا عن الكرد هم، الطبري، وأبو حنيفة الدينوري، وابن رسته، واليعقوبي، واصطخري، والمسعودي، وابن حوقل، وأبو علي الفارسي، وابو زيد البلخي، وابن الاثير، وابن جبير، وياقوت الحموي، وابن شداد، وأبو زكريا الازدي، وأبو الفداء الايوبي، وابن خلدون، وفضل الله العمري، وابن بطوطة، وحمد الله المستوفي.
مع انتشار الاستشراق في القرون التالية، نشر الكتّاب الأوروبيون بعض النصوص عن الكرد. من بين الكتب التي ألفها الكتّاب الغربيون والتي تعاملت بطريقة ما مع الأكراد حتى نهاية القرن الثامن عشر، هناك حالتان استثنائيتان. كان أولهما هو القسّ الإيطالي موريتز كارتزوني، الذي وضع كتاباً معجمياً في قواعد اللغة الكردية- اللهجة الشمالية باللغة الإيطالية 1787. حيث أمضى 18 عامًا في منطقة “العمادي”، وينظر إليه على أنه مؤسس الدراسات الكردية الحديثة. في حين صدر عمل لغوي آخر بعنوان “القاموس المقارن للغات” بناءً على أوامر الإمبراطورة الروسية، كاثرين الثاني، حيث اشتمل على 276 كلمة كردية حسب باسيلي نيكتين.
تتالت الدراسات الاستشراقية حول كردستان على مرحلتين، الأولى، منذ عام 1815 إلى 1875 وهي الفترة التي تأسس النظام الدولي على مبدأ تحقيق التوازن بين القوى الامبريالية المتنافسة، إثر تفجير المسألة الشرقية، ومن ثم تنشيط دور الرحّالة والبعثات التبشرية المسيحية وتنافس القوى الدولية على الدولة العثمانية( الرجل المريض). والثانية، هي الفترة التي تمتد من عام 1875-1945، حيث اشتد التنافس بين القوى الامبريالية للسيطرة على المناطق والموارد والطرقات التجارية. في حين تشكل الأعوام المحصورة بين 1945-1990 بداية هيمنة الولايات المتحدة على الخارطة الدولية، وبدأ الاستشراق يغلف نفسه وفق العقيدة الأمريكية الليبرالية.
بناء على ذلك، فإنَّ الاستشراق الروسي، والكمَّ الكبير من الدراسات حول الكرد، تسارع بوتيرة عالية منذ القرن 18، وخاصة عندما شعرت الإمبراطورية العثمانية بأحد أعظم التهديدات من جارتها الشمالية الطموحة، روسيا، التي اخترقت شرق الأناضول حتى أرضروم في عام 1829. لقد شكلت الحرب ملاحظة جديدة للخطر الروسي، حيث لم يقتصر الأمر على مساعدة الأرمن العثمانيين في الاستيلاء الروسي على قارص، بل قدمت القبائل الكردية فوجاً ضد السلطان أيضاً. فقد كان منعطفاً كبيراً في تاريخ الدراسات الكردية، حيث استقطب بلاد الكرد، الرحّالة والمؤرخين والمستشرقين الروس، خصوصاً أنَّ المسافة كانت متقاربة من الناحية الجغرافية. وقد بلغت (الدراسات الروسية) ذروتها من حيث الكمّ والنوع في العهد السوفيتي، وتم – آنذاك – تأسيس العديد من المعاهد والأقسام في الجامعات لتخصص بالدراسات الكردية، وخاصة في مدينتي: موسكو، لينينغراد (بطرسبورغ).
بالموازة مع ذلك، كان الجانب الغربي الذي شعر بالخطر الروسي، كثفت انشطتها في كردستان الواقعة على طريق الهند، واستهلت رحلة النقيب الانكليزي، جون ماكدونالد كينز عام 1814 كمقدمة لفتح السبل أمام شخصيات من مختلف الخبرات والاهتمامات، حيث حاولوا جمع المعلومات والبيانات الأساسية عن طريق السفر إلى كردستان أو من خلال دراسة أعمال علماء الكرد آخرين ونشروا عددًا كبيرًا من الأعمال حول الكرد.
فالأهداف الرئيسية للكتّاب الغربيين كانت سياسية وتبشيرية واقتصادية وعلمية وأدبية وفنية، وكانت موضوعاتهم هي الخصائص الأنثروبولوجية للكرد (العرق والأصل وما إلى ذلك) وعلم الآثار وتاريخ الكرد وكردستان (المخطوطات، التاريخ والمواقع القديمة والآثار وما إلى ذلك)، واللغة الكردية ولهجاتها، والأدب والفولكلور الكردي، والعمارة، والموسيقى، والجغرافيا الطبيعية والسياسية والخصائص الدينية، وكان سؤالهم الجوهري والخفي: هل الكرد يملكون صفات حضارية -وفق رؤية المستشرقيين- تؤهلهم لتأسيس الدولة القومية على جغرافية ميزوبوتاميا؟
ختاماً، ينبغي أن نسأل: كيف تم تمثيل الكرد في النصوص التي كتبت عنهم؟ ثانياً، ما هي العناصر المتشابهة للنصوص الكردية التي كتبت من قبل الكتّاب الغربيين وخطاب الاستشراق؟ الإجابة عن هاتين الفرضيتين ستكون محور المادة القادمة.