من باسيلي نيكيتين إلى جوناثان راندل … كيف نسج النص الاستشراقي صورة الكرد؟ (2)

فرهاد حمي

وصفت الرحّالة الانكليزية، إيزابيلا بيرد، في مذكراتها التي جاءت بعنوان “رحلات في بلاد فارس وكردستان” عام 1891 مشاهدتها لبلاد الكرد بأنه: “نادراً ما تكون كردستان “تعبيراً جغرافياً“، تُستخدم الكلمة محلياً لتغطية البلاد التي يقطنها الكرد. إنهم شعب غامض، وقد حافظوا على أنفسهم في حالة شبه منعزلة، ولم يواكبوا قاطرة التطورات التي مرّت على غرب آسيا، فالحرب والسرقة من أعمال الحياة الكردية، والحب للنهب والجشع والتعصب الديني والوحشية القاسية هي من بين رزائلهم الرئيسية”.

من هذا الاقتباس الوصفي والعابر والمشبع بالأحكام القطعية لتأطير صورة الإنسان الكردي، يتبين حضور المفاهيم التالية: تعميم هوية المجتمع، والغرائبية، والتخلف الزمني، والصفات السرمدية. هذه العناصر الأربعة معطوفة على صناعة الأساطير سنعالجها في هذه المادة، استكمالاً لما ناقشناه في المادة السابقة “مفهوم الاستشراق وعلاقته بالتاريخ السياسي الكردي”. والآن، سنأخذ المقاربة النصيّة في دراسة خطاب الاستشراق وكيفية تصوير المجتمع الكردي، ونستفسر أولاً، كيف يتم تمثيل الكرد في النصوص التي كُتبت عنهم؟ ثانياً، ما هي العناصر المتشابهة للنصوص الكردية التي دُونت من قبل الكتّاب الغربيين مع خطاب الاستشراق؟

تتضمن النصوص الكردية، التي تم مناقشة البعض منها في هذه المادة، مجموعة متنوعة من الأعمال على شكل ملاحظات يومية إلى التحليل السياسي العام والدراسات الأكاديمية المنشورة في كتب ومقالات من قبل الكتّاب الغربيين والروس. وتستند هذه بشكل أساسي على الكتب التالية :(الكرد وكردستان: دراسة تاريخية واجتماعية) للقنصل الروسي السابق في إيران، باسيلي نيكيتين، ومذكرات الضابط الانكليزي، سيسل إدموندز (كرد وترك وعرب)، ومؤلف ديرك كينان (الكرد وكردستان)، وكتاب ( في كردستان: الحدود تحت النار- 1991) للكاتبة الأمريكية شيري لايزر، وكذلك مؤلف (الأغا والشيخ والدولة… البنى الاجتماعية والسياسية لكردستان) للمؤلف الهولندي الشهير مارتن فان برونسن،  وتاريخ الكرد الحديث المعرّب إلى (تاريخ الأكراد الحديث- 1996) لديفيد مكدول، (وأمة في شقاق… دروب كردستان كما سلكتها-1997) للصحفي والمراسل الامريكي جوناثان راندال، إضافة إلى إشارات متفرقة لبعض النصوص الأخرى.

تأتي أهمية هذه الأعمال لجملة من الأسباب: إذ يتم الإشارة إليها غالباً من قبل السواد الأعظم من الكتّاب والباحثين الذين درسوا الكرد، فضلاً عن أنها شاملة وتغطي جميع أجزاء وجوانب كردستان. وتصبح مهمة تفكيك خطاب النص الاستشراقي في الكشف عن العناصر التالية: شمولية التسميات، والغرائبية، والتفاوت الزمني، ونسج الأساطير، والصفات السرمدية.

شمولية التسمية

 يبين عالم الاجتماع، ألبير ممّي، بأن الكتّاب الغربيين لم يترددوا في جعل الصور والأحكام عن المجتمعات الشرقية والمستعمرة في خانة أوصاف عامة وشمولية، وذلك من خلال انتقاء العنوان المختار، بحيث يتم تجريد الإنسان من كل الصفات والألقاب المتباينة، فالعنوان المختار لا ينظر إلى الإنسان بوصفه فرداً، بل بوصفه جزءاً من جماعة هلامية ومجهولة، ينبغي أن يعمل لخدمة رؤية المؤلف. طبقاً لذلك، تعكس العينة العشوائية لمجموعة العناوين الآتية ماهية هذا التعريف: (الحياة الموحشة بين الكرد) للضابط والرحالة فريدريك ميللينكن عام 1870، ومؤلف (عبر براري كردستان) للروائي الألماني كارل ماي، وكذلك كتاب جون سي غيست (الإيزيديون: أعجوبة البقاء) حيث ورد في هذا الكتاب عدة إحالات من الكتب الأخرى مثل (عيد عبدة الشيطان) و(عبدة الشيطان)، وكتاب الأمريكية مارغريت كان (أبناء الجن.. مذكرات عن الكرد و وطنهم) والقائمة تطول…

في حين، ركزت عينة أخرى من الدراسات على النطاق السياسي والعسكري حصراً، مستبعدة النطاق الثقافي العام، مثل: الأدب والفلكلور والحكايات والملاحم والغناء الشعبي والذاكرة الشفوية والطقوس والرموز الاجتماعية، وهي بذلك كانت انتقائية، رغم أنها زعمت الصفة العمومية في دراسة المجتمع الكردي. وتصب في هذه الخانة الكتب التالية: ديفيد أدامسن (الحرب الكردية وانشقاق عام 1946). وديرك كينان (الكرد وكردستان)، وكذلك كتاب شيري لايزر (في كردستان: حدود تحت النار)، و(تاريخ الأكراد الحديث) لديفيد مكدول، (وكرد وعرب وترك) لسيسل إدموندز، و(تاريخ الأكراد) لتوماس بوما، و(أمة في شقاق …. دروب كردستان كما سلكتها) لجوناثان راندل.

الغرائبية

إنّ عنصر الغرابة شائع بشكل غريب بين جميع الكتّاب الذين درسوا الكرد. حيث كتب باسيلي نيكيتين: “يبدو أنّ الكردي مثل الألباني الذي يشبهه في الكثير من الأمور، يجد لذة في مشاهدة أثر الرصاصة التي يطلقها من بندقيته على رجل قوي“. واللافت، إن نيكيتين يسخر هذه الأقصوصة ليصل بها إلى استنتاجات عامة بشأن طباع شعب بأسره!

بدوره، يبدي سيسل إدموندز دهشته وهو يروي قصة غريبة حول تسمية قبيلة الشيخ بيزني التي تنحدر من مدينة جمجمال الواقعة في محافظة السليمانية، قائلاً:” كان الشيخ عالماً تقياً مرشداً للكثير من المريدين، وذات يوم كان يركب بغله برفقة خادم واحد وهو يتجول في المنطقة، فوقع في يد عصابة من اللصوص وقطاعيّ الطرق، فحاول احتثاث دابته لتسرع به، فكان كلما يضرب دابته بالعصا، كلما كان ينبت في رأس البغل قرن من النحل الأحمر، ليطعن به أحد المهاجمين، مما غاص الفضاء بصراخ اللصوص من شدة الألم، وما أن أدرك الخادم الحقيقة، حتى راح يحث سيده على بذل المزيد من المجهود وهو يهتف بالفارسية: شيخ بزن! شيخ بزن “اضرب يا شيخ، اضرب يا شيخ “. في هذا الاقتباس لا نواجه نوعاً من الغرابة فحسب، بل نندهش أيضاً كيف يجادل إدموندز بأن شخصاً كردياً من شمال شرق كركوك قبل قرن من الزمن، يعبر عن حياته اليومية بالمفردات الفارسية!

على الرغم من تعاطفها الواعي مع القضية الكردية، إلا أنّ شيري لايزر تكرر الكليشيهات الاستشراقية القديمة عن الغرائبية، وتكتب في وصف كردستان والشرق الأوسط بأن: “شرب الشاي في الشرق الأوسط له طقوس خاصة، ينير الإنسان وهو في حالة من التأمل العميق”. ويروي جوناثان راندل في عمله أيضاً حادثة غريبة عن الزعيم الكردي، ملا مصطفى البرازني، مشيراً : “إن البارزاني فرّ من السليمانية عائداً إلى موطنه في الجبال، لأن الراتب الذي كان يتقاضاه من الحكومة لم يعد كافياً لإطعام عائلته بسبب التضخم الناتج من الحرب”، ويقال أنه أدرك حجم المشكلة المادية التي يعاني منها، وعندما دس يده يوماً ما في شعر زوجته [لأخذ النقود الذهبية التي تم حفظها في الشعر حسب رواية الكاتب]، وجد أنه علق حدوة حصان فيه، فبدلاً من النقود الذهبية التي خبأتها العائلة، فقد أنفقت زوجته هذه النقود لإطعام عائلتها، حينها استشاط البارزاني غضباً، وعبر الحدود ودخل الأراضي الإيرانية أولاً، ثم عاد إلى العراق واتجه إلى بارزان”. والمثير أنه يسرد هذه القصة رغم أنه لا يجدها منطقية.

 ومثال آخر على الغرابة، يتعلق بالتمرد التقليدي الكردي الذي ينسبه فان برونسن إلى الكرد، ويعتبره” ظاهرة متأصلة في كردستان“. وبالمثل، وبطريقة غير متوقعة يستحضر ديفيد ماكدول كلمات الكاتبة الانجليزية روزيتا فوربيز، وهو يسرد أحداث ثورة آغري بقيادة إحسان نوري باشا: ” لقد ظهر للعيان أن الكرد الذين بدوا أن جميع نسوتهم يحملن أطفالهنّ على ظهورهنّ والبنادق في أيديهنّ، ينظرن إلى القتال على أنه مجرد تسلية ليس إلاّ “. في الوقت الذي كان يشير في الفقرة اللاحقة إلى مذبحة وادي زيلان التي راح ضحيتها حوالي 3000 من المدنيين بين رجل وامرأة وطفل أثناء عمليات التطهير من قبل الجيش التركي.

تسليط الضوء على جوانب غريبة عن الكرد من قبل المستشرقين يشبه الأوصاف والسياسات الرسمية والأدبيات السياسية العنصرية من قبل النخب والأنظمة التي تسيطر على جغرافية كردستان، وتؤمن بتفوقها على الكرد، فعلى سبيل المثال، نقل مكدول اقتباساً عن مجلة تركية عام 1967 مفاده بأن:” الأكراد ليست لهم وجوه بشرية، وأيدت [المجلة] هجرتهم إلى أفريقيا“. وأوضح مكدول أن الموقف الجماهيري التركي تجاه الكرد تم إدارته بطريقة يعتقدون أن: ” الأكراد ريفيون بدائيون، أتراك جبليون، ويتشاركون في بعض أجزاء من أجسامهم مع الحيوانات، مثل الذيل أو الوجه”.

وبالمثل، وصف برونسن موقف حروب صدام ضد الكرد بأن: “الضباط العرب مع جنودهم كانوا مرتعبين من الكرد، وعندما شاهد الجنود، وبشكل مفاجئ، مقاتلي الكرد، قالوا: لا لا لا، الكرد أيضاً من صنف البشر“. هذا هو السبب الرئيسي في أنّ العديد من النقّاد يقيّمون المعرفة الشرقية ما بعد الاستعمارية على أنها شريكة مع القوى الاستعمارية الكلاسيكية.

التفاوت الزمني

أشار يوهانس فابيان، العالم الانثربولوجي الهولندي، بأن المستعمرين وضعوا السكان المستعبدين في زمن الماضي السحيق، وتالياً خلعوا عنهم صفة الحاضر وحرمانهم من “التعايش”. بعبارة أخرى، يميل المستشرقون إلى إنكار التعايش بأساليب مختلفة، والأسلوب الأكثر شيوعاً هو ما يشير إليه فابيان بـ “الزمن التطوري“. فبهذا الشكل يضع الكتّاب المجتمعات الشرقية خارج التاريخ، ويصفونها بمصطلحات مثل البدائية والوحشية والقبلية والتقليدية وما إلى ذلك. وبناءً على ذلك، فإن ثمة علامات واضحة على “إنكار التعايش” كعنصر مكون لتأطير صورة الكرد.

باسيلي نيكيتين هو من بين المؤلفين الأوائل الذين عكسوا هذا الموضوع عندما صنف الكرد في خانة المجتمع القبلي واعتبرهم “آخر من بقوا من البدو الرحل الهند- الأوروبيين على قيد الحياة“. ويرجع باسيلي بأن طبائع الكرد: ” لم تكن سوى صورة متطورة لمزاج المقاتل البدوي الذي يميل إلى الغزو على غرار رعاة المواشي”. وبالمثل، وهو يستشهد بالمستشرق الانكليزي الميجر سون ” إذا أردنا أن نكون منصفين في أحكامنا على الكرد، وجب علينا أن نقارن بين كردستان اليوم وأوروبا قبل 600 عام“.

ويشير باسيلي إلى مستشرقين آخرين لدعم فكرته عن “التخلف الكردي“. على سبيل المثال، يذكر جيمس فريزر، وهو سائح اسكتلندي من القرن التاسع عشر الذي أشار إلى تشابه وثيق للغاية: “بين الكرد المعاصرين والقبائل الاسكتلندية منذ عدة قرون“. كما يقتبس من المبشر يكرام بأن: “الخصائص الأساسية لهذه الأمة لم تتغير منذ آلاف السنين على الإطلاق”.

في حين، تقتبس شيري لايزر على لسان ميللينكين الذي وصف العيش في قرية كردية في كردستان تركيا أنه: “يعود بالمرء إلى عالم من آلاف السنين أو حتى قبل ذلك“. من جانبه، يعقد ديرك كينان المقارنة بين كردستان إيران (جمهوريا مهاباد) وأوروبا في العصور الوسطى: “الصراعات القبلية لجمهورية مهاباد تشبه الفروسية في العصور الوسطى في أوروبا“. بينما يعيد مكدول سردية آن لامبتون حول كردستان إيران بأن: “السمة الأكثر لفتاً للانتباه في المجال الزراعي أكثر من غيرها هي تخلفها الواضح“. مضيفاً: “وجدت آن لامبتون التي سافرت إلى كردستان بأن الزراعة في حالة بدائية ومتخلفة، والمحاريث الخشبية والحصاد بالمنجل منتشرة في نطاق واسع”.

تكشف جملة هذه الأحكام عموماً، الأوصاف التالية: متخلف، وبدائي، وبدوي، ورعوي، والقرون الوسطى، وما قبل الصناعي.

نسج الأسطورة

في الخطاب الاستشراقي، يشكل نفي الآخر من خلال “نسج الأساطير” عنصراً رئيسياً وثابتًا في تمثيل المجتمعات التابعة. فأسطورة “قوم الجن” تشكل المكون التأسيسي عن أصل الكرد، وترجع إحدى أقدم نسخ هذه الأسطورة إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وظهرت في كتابات زينوفون، الذي سرد حادثة عودة الجيش اليوناني إلى وطنهم من بلاد فارس وعبورهم جبال كردستان، حيث واجهوا مجموعة من “مقاتلين مروعين”. ويروي جندي أنهم واجهوا “جماعة الجن” الذين خرجوا من فتحات الجبال، وأسرعوا في إسقاط الحجارة عليهم.

تأخذ هذه الأسطورة شكلاً مختلفاً في الفترة الإسلامية عن حكاية تُروى عن دعوة النبي محمد على الكرد: “ففي بداية الرسالة الإسلامية أرسل «أغورخان» ملك تركستان وفدًا إلى الرسول محمد برئاسة شخص يدعى «بغدور»، أحد أمراء الكرد، وكان كريه المنظر فظّاً غليظًا شديد المراس، فلما وقع نظر الرسول عليه فزع ونفر منه نفورًا شديدًا. وعندما سأل عن أصله وجنسه قيل إنه من الطائفة الكردية، وعندئذ دعا النبي قائلًا: «لا وفق الله تعالى هذه الطائفة إلى الوفاق والاتحاد”. واللافت، إن شرفان خان البدليسي يروي هذه الأسطورة في مقدمة مؤلفه الشهير “شرفنامه“.

أعاد معظم المؤلفين الغربيين إنتاج هذه الأسطورة في معظم أعمالهم كلما تعلق الأمر بأصل الكرد وتاريخ كردستان. ويورد باسيلي هذه السردية في معرض نقاشه عن أصل الكرد، قائلاً:” الكرد من أبناء الجواري اللوائي أسرهنّ النبي سليمان والشيطان جاساد“، وتستند هذه الاسطورة على التشابه اللغوي بين جذر الفعل العربي” كرد” بمعنى ” اصطاد” بكلمة الكرد”.

يعيد إدموندز ذات القصة في شكل مغاير قليلاً: ” قبل قرون عدة، قام النبي سليمان بطرد 500 من الجن من مملكته إلى جبال زاغروس. طار هؤلاء الجن في البداية إلى أوروبا لاختيار 500 عذراء جميلة كزوجات لهم، ثم توجّهوا للاستقرار فيما أصبحت لاحقاً بلاد كردستان“. وبدورها دفعت الكاتبة الأمريكية، مارغريت كان، من حيز هذه الأسطورة إلى أقصى حدودها، عندما اختارت كعنوان لعملها “أبناء الجن”.

الجوهرية والصفات السرمدية

 ينسب خطاب الاستشراق الخاصية أو الخصائص إلى المقموع، ثم يعتبر هذه الخصائص جوهر الشعوب المستعبدة، لتسخيرها وإضفاء الشرعية على السياسات القمعية بغرض الهيمنة عليهم. وتقوم هذه الطريقة على إقصاء الآخر والطعن في هويته التاريخية. فالمستعبد لا يُنظر إليه من منظور إيجابي، بل يعتبر صفاته مورثة أبدية، وهي صفات فطرية سلبية.

من بين أكثر الأشياء سلبيةً وشيوعاً للسمات السلبية التي يتم تلاوتها ونسبها إلى الكرد في النصوص الاستشراقية، هي العنف وسفك الدماء والنهب واللصوصية والتخلف العقلي. ومثل هذه الأحكام كان متسيّدة حتى على شخصية الجغرافي والمفكر الفرنسي الشهير، اليزيه ريكلس، الذي وصف في مجلده المعروف “الأرض وقاطنيه “طباع الكرد بأنهم “على الرغم من عاداتهم الحربية وميولهم السيئة، فإن الأكراد بشكل عام أكثر صدقاً وجدارة بالثقة – من الأجناس المحيطة بهم”.

 ويذهب مارك سايكس أبعد من ذلك، في كتابه عن القبائل الكردية بقوله: “هؤلاء الأكراد في شمال بلاد ما بين النهرين جلادون وخارجون عن كل كردستان، محتالون، وقطاعو الطرق، ومشردون، يبدو أنهم لا يملكون فضيلة واحدة، كونهم خاملين وجبناء وقاسيين. ولا يملكون القليل من الكبرياء بعرقهم، وعلى ما يبدو تزاوجوا واختلطوا مع الغجر والأعراق الأكثر دونية “.

ورغم الفرق الشاسع بين موقف مارك سايكس السلبي من موقف باسيلي نيكتين الإيجابي من جهة إنصاف صورة الكرد نسبياً، فإن الأخير لم يفلت من هذه المصيدة، وخاصة عندما استغل مذبحة الأرمن المسيحيين في فترة 1894-1896 (المعروفة باسم مذابح الحميدية) في الحرب بين العثمانيين والأرمن، كذريعة لنسب العنف المتأصل إلى الكرد. فعلى سبيل المثال، كتب نيكيتين “إن مذبحة المسيحيين تثبت أن التعطش للدماء بين الأكراد أكثر من غيرهم من البدو“. هذه الأحكام السلبية المتعلقة بالعنف المتأصل وسفك الدماء التي ينسبها نيكيتين إلى الكرد غير واقعية: لم يكن الكرد مسؤولين عن المذابح الحميدية. كان السلطان عبد الحميد الثاني، الحاكم العثماني، مسؤولاً عن المجزرة. ثانياً، ما يعيب باسيلي هو إشارته إلى حدث تاريخي معين، ويستخدمه كمقدمة لإثبات وتعميم السمات السلبية للأمة بأكملها في جميع الأوقات، على الرغم أنه في بعض أجزاء كتابه (الكرد وكردستان) يذكر بعض الفترات الودية والسلمية في كردستان. ولكن يعود مجدداً من أجل إظهار التناسق بين النتائج التي توصل إليها، ويؤكد “يبدو أن الكرد قد نسوا ميلهم المتأصل نحو النهب واللصوصية والسرقة في تلك الفترات“.

هذه السمات والتصريحات السلبية التي ينسبها نيكيتين للكرد، مثل أن “طبيعتهم لا تتوافق مع اللوائح والانضباط“. كررها كتّاب آخرون بعبارات مختلفة. يصف إدموندز الكرد بأنهم “غير قابلين للإصلاح“. ويصورهم كيرميت روزفلت (1947) بهذه الطريقة بمقولة وردت في كتاب ديرك كينان: “مستعدون دائمًا للحرب والنهب”. وينسب راندال الشقاق التاريخي الدائم إلى جينات الكرد، ويكتب في مقدمة كتابه، أمة في شقاق:” ثمة وجود صبغية ” كرموزوم” شاذة في جينات الكرد تسبب فيما يسميه الهنود المعولون باستعمال العبارات المنمقة بـ “النزعات الانقسامية“. وينقل مكدول على لسان الرائد هاي، بأن ضباط الجيش البريطاني اعتقدوا أن “عقل الأكراد هو تماماً مثل عقل تلميذ المدرسة، ولكن ليس بدون القسوة الفطرية التي يمارسها تلميذ المدرسة، سيكذب دائماً لينقذ نفسه”.

في مطلع القرن العشرين، واصلت الدول الغربية التعامل مع الكرد لتنفيذ مهامها ومصالحها في المنطقة، وربطوا فكرة التنمية والحضارة والثقافة والوجود السياسي بالخصائص القومية الضيقة واللغة المتميزة والقيادة الموحدة. ونتيجة لذلك، توقع ضباط الاستعمار الأوروبي والمسافرون فهمًا أوروبيًا للأمة وفق تلك المعايير، وفهموا الجماعات المنشقة أو المتمردة والجماعات ذات الثقافات والعادات المتميزة من خلال هذه العدسات. من هذا المنظور، لم يُنظر إلى الكرد على أنهم يتمتعون بخصائص الأمة، ولم يُنظر إليهم على أنهم قوة شرعية تستحق التحرر الوطني، وذلك بسبب طبيعة خطاب الاستشراق الذي وصف المجتمع الكردي بـ “المتخلف” و”القبلي” و”الانقسامي“. فالنقاشات التي دارت خلال فترة الحرب العالمية الأولى كما تقول الباحثة زينب كايا، هي مؤشرات واضحة على تلك التصورات.

ختاماً، ستقوم الحكومات المركزية الحاكمة في كردستان مع أجهزة المعرفة والثقافة المرافقة، مثل المستشرقين، بتكرار هذه القوالب الجامدة، ونسب الصفات السلبية إلى الكرد بوصفها سمات موروثة، بغرض إضفاء الشرعية على السياسات الإقصائية والعنفية ضد كردستان، ورسم خط فاصل بينهم وبين الكرد، وإخراجهم من المعادلة السياسية والحقوقية، وخاصة في كل من إيران وتركيا وسوريا، مع استثناء كردستان العراق مؤخراً. 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد