قبل أيام، حذر المفكر والمؤرخ الأمريكي- الايراني، حميد دباشي، من الاستهتار لدى الانظمة في الشرق الأوسط حيال موجة الجفاف التي تضرب كل من إيران والعراق وسوريا جراء الاحتباس الحراري، مبيناً أن نموذج الدولة القومية التقليدية وقادتها، أصبحوا وبالاً على الأمم والشعوب والأفراد. فبينما العالم يحترق على حد تعبيره، فإن حسابات السلطات القائمة ومعارضيها في المنطقة تستخف بأزمة الجفاف وانهيار الأمن الغذائي. وفي المحصلة، غدا الجيل الجديد على حافة الانقراض.
بكل التأكيد هذه الصورة السوداوية كما يقدم لنا دباشي في ظل انعقاد قمة” كوب 26 غلاسكو”، لم تكن من وحي اجتهادات شخصية بقدر ما كانت موثقة بالأرقام والتقارير الدولية. فالمؤتمر الذي يشكل الأمل الأخير من أجل إنقاذ الكوكب من قضية الاحتباس الحراري، سدّ جميع الشكوك أمام المعارك العلمية والسياسية التقليدية حيال أزمة المناخ، وتحديداً من جهة: هل قضية المناخ حقيقةً أم تهويلاً؟. وتالياً، تتوقف اليوم صدقية مؤتمر غلاسكو على لسان قادة العالم أنفسهم، بوجوب أخذ شعار نشطاء البيئة حرفياً” عليكم أن تفعلوا الآن”، بمعنى، اغلقت مساحة المماطلة والتسويف.
لكن دعنا نأخذ الشأن السوري وعلاقته مع أزمة المناخ، ونراقب تأثير تداخل ثنائية الجفاف والحرب في الوقت الحالي على كاهل السكان، سيما أن الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيروش في مستهل كلمته افتتاحية في مؤتمر غلاسكو هذا الاسبوع، توقع بأن ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمي إلى نحو 2.7 مئوية، ستكون كارثية على سوريا، خصوصاً إنها تعتبر من البلدان الأكثر عرضة لتغير المناخ. كما دعت بدورها منظمة” انقذوا الأطفال” قبل انعقاد قمة غلاسكو إلى زيادة عاجلة في التمويل الانساني لـ سوريا بسبب الجفاف، محذرة بأن هذا العام لم يتمكن الملايين من الحصول على المياه الصالحة للشرب. وبدروه أشار برنامج الأغذية العالمي في مطلع هذا العام بأن حوالي 12.4 مليون سوري، أي حوالي من 60 ٪ من السكان أضحوا يعانون من المجاعة.
والمفارقة، إن شمال شرق سوريا التي تعتبر سلة غذاء سوريا، من بين أكثر مناطق العالم تضرراً من أزمة الجفاف وشح المياه. الأمر الذي دفعت قبل أسبوع بالصحفية في جريدة اندبندنت البريطانية، بل ترو، بإجراء تحقيقاً شاملاً قبل انعقاد قمة غلاسكو. إذ سلطت ترو الضوء على مخاوف المزارعين والسكان المحليين من العام المقبل، خاصة بعد أن شهدت البلاد أسوأ موسم حصاد على الإطلاق في العام الفائت، في وقت تعرض حوالي 75 ٪ من المحاصيل الزراعية هذا العام إلى التلف.
ناهيك عن النزوح التاريخي للسكان في شمال شرق سوريا صوب المدن الداخلية في دمشق حلب، نتيجة انهيار القطاع الزراعي وتراجع المياه الجوفية والسطحية، جراء سياسة بناء السدود من قبل تركيا والسياسات العنصرية من قبل النظام السوري، فقد أضحت سوريا اليوم تعاني من أسوأ فترة جفاف منذ ٧٠ عاماً. فعلى سبيل المثال قد نضب نهر الخابور حاله كحال بقية الأنهار والبحيرات والسدود الأخرى في جميع أنحاء البلاد التي مزقتها الحرب، الأمر الذي أدى إلى تدهور المحاصيل الزراعية ونفوق الماشية وندرة مياه الصالحة للشرب، مما دفع بالعائلات النزوح مرتين، وتحديداً في شريط الرقة والحسكة وتل تمر، أولاً، بسبب الحرب عموماً، ثانياً، نتيجة استيلاء تنظيم داعش على هذه المنطقة. ومن المرجح وفق المؤشرات الحالية بخصوص الجفاف والتهديدات التركية المستمرة في شن الحرب وقطع المياه، حدوث موجة هجرة جماعية ثالثة.
ونقلت الصحيفة البريطانية جملة مؤثرة على لسان امرأة مسيحية آشورية تعيش في إحدى القرى المحيطة من بلدة تل تمر، حيث قالت: “أقسم بالله لقد كانت هذه المنطقة اشبه بالجنة، بيد أنها الآن أصبحت كالجحيم” في إشارة منها إلى الجفاف الذي ضرب نهر الخابور منذ سنوات، وكيف تحولت قناة الري إلى مكب للقمامة بعدما كانت تحوّل جزءا من مياه النهر لسقاية حقول القمح والشعير والقطن وبساتين الأشجار المثمرة إضافة الى مراعي الماشية.
واستطلعت الصحيفة مخاوف المزارعين حالياً، إذ يتناقشون فيما بينهم حول سُبل أخذ الحيطة والحذر في العام المقبل، الذي يبدو أكثر قتامة. ويتعيّن أن يتَّخذ جميع المزارعين قرارًا حالاً بشأن ما إذا كانوا سيأخذون قروضًا من أجل شراء البذور والأسمدة لزراعة حقولهم على ضوء مؤشرات مناخية تفيد باستمرارية موجة الجفاف إلى العام المقبل، وتالياً إتلاف محصولهم مجدداً.
وأشارت الصحيفة على لسان مزارع: ” إن زراعة هذا الموسم أشبه بالمقامرة: فأنا أزرع المحصول وأنتظر هطول الأمطار كل عام. لا يوجد نهر، ولا يوجد سدّ، وفي حال عدم هطول المطر، فستشهد المنطقة كارثة”.
من المؤكد أن استمرارية موجة الجفاف ستكون لها تداعيات على مصير هجرة المزارعين، وهو ما يوضحه مزارع آخر، ويملك حوالي 16 هكتاراً من الاراضي الزراعية :” لقد تلف محصولي القمح هذا العام، وفي حال استمر الجفاف، فسيتعين عليّ المغادرة، و الانضمام إلى ملايين النازحين داخل سوريا . لقد بادر الكثيرون لحفر آبارهم بأنفسهم ولكنّ المياه الجوفية مالحة، لذا يتوجّب علينا شراء المياه من مكان آخر في حال استطعنا ذلك. وإن توفرت المياه لا يوجد وقود لتشغيل المحركات لريّ حقولنا”.
وسبق أن حذر تحالف من مجموعات الإغاثة بما في ذلك” منظمة العمل ضد الجوع” و” المجلس النرويجي للاجئين” هذا العام بأن سوريا على أعتاب مرحلة حرجة نتيجة لشُحّ المياه وبالتالي تأثيرها المباشر على الأمن الغذائي في البلد، الأمر الذي سينعكس سلبا على ملايين السكّان .
يُشكّل نهر الفرات مصدر مياه الشرب الرئيسي لأكثر من ٥ مليون شخص في سوريا، علما أن مستوياته بدأت بالانحسار بشكل تدريجي على سدي تشرين والطبقة الواقعين جنوب غرب الرقة اللذان يخدمان حوالي 3 ملايين شخص في شمال سوريا، من حيث توفير الكهرباء والمياه والري. حيث انخفض منسوب السدود حسب الهيئات المختصة إلى ما يُعرف بـ “المستوى المخيف”. الأمر الذي تسبب في توقف إنتاج الكهرباء وتعطلت محطات المياه عن العمل.
ويحيل السكان المحليين والإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، هذا التراجع المخيف إلى الجفاف والاحتباس الحراري، معطوفاً إلى إجراءات دولة تركيا، التي ينبع نهر الفرات من أراضيها، حيث يعتبرون أن أنقرة تتعمد تجاهل الاتفاقيّات الدوليّة فيما يتعلق بتقاسم المياه بين الدول. وكأن نبوءة ماثيو ريندال -وهو محاضر بجامعة “نوتنغهام” وتركز أبحاثه على تغير المناخ والعلاقات الدولية- لم تتأخر كثيراً، حيث أوضح في وقت سابق بأنه من المرجح أن تصبح الأماكن الأقل استقرارا والأكثر عرضة للكوارث -مثل سوريا والصومال- ساحات معارك للمناخ.
عليه، ينبغي أخذ رؤية دباشي حرفياً وهو يصف عبثية حسابات السلطات في الشرق الأوسط بتقويض سبل الحياة، وعلينا أن نضيف بديهية في غاية الاهمية، لا تستقيم بنية الدولة القومية ونموذجه التنموي المدمر مع معالجة البيئة، فهو بنيوياً ضد البيئة، وتركيا مثل إيران لا تمتثل للقواعد والمعايير الدولية إلى هذه اللحظة، إذ رفض أردوغان وفريقه الحضور قمة غلاسكو بدواعي لم تلبى مطالب أنقرة الأمنية. ولهذا السبب لا يُمكن تناول الأزمة في سوريا ببساطة بمعزل عن العالم الخارجي. خاصة عند ربط تدهور الامن الغذائي وشح المياه والجفاف ونقص حاد في الموارد مع مسألة الهجرة داخلياً وخارجياً، إذ تصبح قضية الهجرة مشكلة إقليمية ودولية معاً.
تعتبر شمال شرق سوريا من بين النقاط التي قد تشهد كوارث بيئية في ظل تداخل التهديدات التركية مع ترسيخ أزمة الجفاف، وهو الأمر الذي وصفه ويم زوينبورغ، الذي يعمل في منظمة السلام الهولندية “باكس” بأنه ” يُجسّد انهياراً بيئياً مُحتمَلاً في شمال شرق سوريا بسبب الجفاف الناجم عن تغيُّر المناخ بالإضافة إلى الأضرار البيئية المرتبطة بالحرب والصراع وتسيّس المياه“.
ورغم الدعوات المتكررة من قبل السلطات المحلية والمنظمات المدنية بضرورة الاستجابة من قبل المجتمع الدولي بتوفير الاحتياجات اللازمة لتتحول المنطقة إلى اللون الأخضر مرة أخرى. إلا أن كثير من المراقبين يعتقدون أنه قد فات الأوان. ويبدو أن بل ترو، كاتبة التحقيق في اندبندنت، تلمست هذا اليأس في نفوس السكان المحليين، حين أشارت في نهاية مادتها على لسان مزارع في إحدى قرى بنواحي تل تمر :” الماء هو مصدر الحياة. وإذا لم يكن هناك ماء، فالحياة إلى زوال. كل ما يُمكننا فعله هو أن نُحسِن ظننا بالله وأن نطلب منه حمايتنا من الجوع“.
بمنأى عن هذه النزعة القدرية، علينا أن نسأل بطريقة مباشرة: هل ثمة نفق خارج أسوار الدولة القومية قادراً لمواجهة التدهور البيئي في شمال شرق سوريا قبل تشعب الكارثة المتوقعة؟