البعد الأخلاقي لفوز الاشتراكيين الديمقراطيين في ألمانيا

حقق الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) تقدماً كبيراً في انتخابات البرلمان الاتحادي الألماني المعروف بالبوندستاغ، بنسبة 25.7 متجاوزاً لأول مرة التحالف المحافظ برئاسة ميركل، المؤلف من ( CDU معCSU ) والذي تراجع الى نسبة 24.1 من أصوات الناخبين، كما حل حزب الخضر (Grune) في المرتبة الثالثة مسجلا نسبة 14.8. وهذا يعني أن تحالف الاشتراكيين والخضر سيتجاوز نسبة 40% من مقاعد البوندستاغ.

 هذه الأرقام المتواضعة على مقياس الدول والحكومات غير الديمقراطية لها دلالة ومؤشرات كبيرة في دولة تعد قلب ومحرك الاتحاد الأوربي ومجتمعاتها الواعية والمسيسة. فقد حقق اليسار الاشتراكي بمعناه العريض تقدماً سياسياً ملموساً في السنوات الأخيرة، وبدأت هذه الثقة تترجم عن طريق صناديق الاقتراع، وهو في الجوهر عودة رصينة وواثقة الى الاشتراكية الديمقراطية لقيادة قلب أوربا واقتصادها لدرجة من الممكن لهذا التيار العريض أن يغير مسار المجتمعات الأوربية إذا أتيحت للاشتراكية الديمقراطية الفرصة للتلاقح مع أفكار وفلسفة ما بعد الحداثة وما بعد النيوليبرالية، خاصة إذا تم شحنها بمحفزات برنامجيه في ظل تهامد وكسل فكري عالمي وأوربي بشكل خاص.

لقد باتت سياسات الاشتراكيين الديمقراطيين واضحة وصريحة ضد تغول رأس المال، فقد قدم زعيم الحزب أولافشولتز (المرشح الأول لمنصب المستشار) ووزير المالية في الحكومية الحالية، وعداً صريحاً خلال مناظرة انتخابية: “نريد أن نريح أولئك الذين يكسبون القليل جدًا من المال، ذلك يعني أن الشخص الذي يكسب ما أكسبه أنا مثلاً كوزير فيدرالي، يتعين عليه دفع ضرائب أكثر”. والعمل في الوقوف في وجه طغيان الاحتكارات الرأسمالية وتحقيق عدالة ضريبية. وعلى الرغم من أن ألمانيا دولة رفاه اقتصادي لكنها تعاني من تباين طبقي واجتماعي، وهنالك ألمان فقراء بمقاييس أوربية. وقد صوتت الشرائح المتضررة  لبرنامج الاشتراكيين الاجتماعي.

 موضوعياً يمكن الافتراض أن الحركة الاشتراكية العالمية بعد كل إخفاقاتها ونجاحاتها النسبية قد تمظهرت بشكل سلمي في التيار الاشتراكي الديمقراطي الذي أسس لنهضة أوروبا المعاصرة ورسخ ثقافة السلم الاجتماعي. كما اشتق عنه بصيغة أو أخرى في العقود الأخيرة التيارات المحبة للبيئة وخاصة الخضر، فالخضر اشتراكيون من نوع خاص، وهذا ما نلمسه في شعارات الخضر الألمان، المتلخص في حماية البيئة وكذلك التركيز على العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، فقد بينت مرشحة حزب الخضر أنالينا بربوك في حملتها الانتخابية ضرورة استخدام تغييرات الفوائد للحد من فقر الأطفال، ودعت إلى مزيد من الإجراءات بشأن تغير المناخ: “أنا أؤيد تغييرًا حقيقيًا في السياسة المتعلقة بحماية المناخ، كما أن الإجراءات المتخذة حاليا تضع الأطفال والعائلات في المركز الأخير، وأرنو إلى سياسة خارجية تسترشد بحقوق الإنسان في قلب أوروبا”.

هذا وفي هذا السياق، أكدت للعديد من الأصدقاء المقربين من الخضر في ألمانيا، والمترددين في التعاون معهم أيضاً، قبل الانتخابات بفترة طويلة، أن لتيار الخضر الألماني مستقبل وسيكون له فعالية سياسية متشابكة مع الاهتمام الأوربي والعالمي بمعضلات البيئة والكوارث الناتجة عن التغيير المناخي، وأن الخضر يؤسسون لفكر ومقاربة عالمية ممنهجة للحفاظ على الكرة الأرضية وإنقاذها من عبث التصنيع الجائر والتلوث المخيف.

إن فوز الاشتراكيين الديمقراطيين، وكذلك الخضر، شكل منعطفاً في مسار السياسات المجتمعية الأوربية، فالتصويت ومؤشرات الأرقام، وإن كانت غير انقلابية، فهي تعبر عن وعي متنام ومطابق لمسار مواءمة الفكر الاشتراكي للعصر، وتأكيد على الفشل المستمر للرأسمالية عموما والاتجاه النيوليبرالي المتوحش بشكل خاص.

المجتمعات الغربية باتت تدرك تماماً لا إنسانية ولا ديمقراطية النظام الرأسمالي، وتدرك أن الرأسمالية متوحشة في الجوهر، والمؤسسات المالية هي التي باتت تتحكم بمسار ومستقبل السياسات العامة، وهي التي تصنع الفاعلين السياسيين.

فالتصويت للاشتراكيين والخضر هو مؤشر على يقظة ضمير وإن كان على نطاق ضيق، إذ أن نتائج انتخابات ألمانيا عبرت عن ترسيخ أخلاقيات الاعتدال السياسي، مع ميل صريح الى العدالة الاجتماعية، وكبح جماح الاتجاهات المتطرفة التي دفعت ضريبتها ألمانيا وكذلك كل أوربا دماراً شاملاً في القرن العشرين. حتى بات الجانب الأخلاقي يرجح كفة المعادلات الداخلية بشكل حاسم، وبالتالي تتجه البرلمانات الأوربية نحو سياسات أكثر إنسانية واعتدالاً، وأكثر مصداقية في دعم حقوق الانسان والجماعات المضطهدة، كما تضغط باتجاه وقف تخريب البيئة والمناخ لصالح الشركات والاحتكارات الكبرى. في نفس المناخ فإنْ توجهنا شرقاً، وبقراءة أولية للمشهد الانتخابي، فان انتصار الاشتراكيين والخضر في المانيا يتزامن مع تقدم الحزب الشيوعي في روسيا، هو تأكيد آخر على حقيقةالانتصار لأخلاقيات التعاون والتكافل في المقام الأول، وتعبير عن رفض الرأسمالية الغبية، والسير على درب القطيعة مع النيوليبرالية والسياسات الأمريكية المضطربة.

المشهد الانتخابي في الدولتين المهمتين اثبت من جديد على أن النظام الرأسمالي لا يستجيب لمعطيات العصر وعاجز عن حل مشكلاته الجوهرية. فالمنظومة الأخلاقية للبشرية تحتاج لانعطافة حادة نحو الاشتراكية بمستوياتها النظرية والتطبيقية والأخلاقية الجديدة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد