المذاهب المتنافسة في الحرب الباردة الجديدة

بيتر إيساكسون

قد أضحى المشهد الجيوسياسي الأسبوع المنصرم أقرب إلى ما يكون “مبدأ الرئيس الأمريكي مونرو”. وذلك بعد قرنين من الزمن على التصريح الشهير للرئيس الأمريكي ” جيمس مونرو” الذي حذر حينها الأوروبيين بالابتعاد عن القارة الأمريكية التي كان المستعمرون البريطانيون السابقون منشغلين لطرح خطتهم في التوسع القاري المستوحى من إيمانهم “بالمصير المشترك”(الناطقين باللغة الانكليزية).

في عام 1823، كان التركيز على المحيط الأطلسي والعلاقات بين أوروبا وأمريكا اللاتينية. بينما في عام 2021، أضحت المنطقة المعنية هي المحيط الهادئ والمحيط الهندي. وبالنظر إلى درجة العولمة التي حققها الاقتصاد العالمي في السنوات الـ 75 الماضية، فإن المواجهة التي تشكلت بين الشرق متعدد الثقافات والغرب أحادي الثقافة والذي ينطق اللغة الإنكليزية كان له عواقب غير متوقعة وربما مزعجة للعالم بأسره أكثر بكثير من جملة مزاعم ” مونرو ” بالهيمنة على نصف الكرة الأرضية الضعيف.

وفي خضم ذلك، قد تجد أوروبا متعددة الثقافات – والتي تعد النواة التقليدية للغرب – نفسها مرة أخرى الضحية الأولى لتحالف جديد تقوده “الولايات المتحدة” يعلن عن إستراتيجية جديدة تستهدف ” الصين”. فكانت “فرنسا” أول من دفع الثمن عندما تلقت خبر مفاجئ عن إنشاء حلف ” أوكوس”، وهو تحالف أمني يجمع بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا. حيث نددت ” فرنسا” بهذا التحالف واستدعت سفيريها لدى ” الولايات المتحدة وأستراليا” عندما علمت بإلغاء عقد بمليارات الدولارات تم توقيعه في العام 2016 لتزويد أستراليا ” بغواصات”. ومن جانبها ردت الصين بجسارة ضد هذا ” التحالف الجديد” عندما أعلنت نسختها من ” مبدأ مونرو” . حيث حث الرئيس الصيني شي جين بينغ ” رؤساء الدول على المقاومة المطلقة للقوى الخارجية التي تسعى للتدخل في بلدان بمنطقتنا تحت أي ذريعة، وجعل مستقبل تنمية بلادنا وازدهارها بأيدينا نحن “.

ملحوظة سياقية

أعربت أوروبا عن تضامنها مع” فرنسا” ، ما يعني أن الأزمة سيكون لها تبعات في المستقبل. ومن ناحية أخرى فعلى جانب المحيط الهادئ، وبعد ردة فعل ” الصين” المتوقعة، سارت ” كوريا الشمالية” على نهج الصين، معلنة أن تحالف أوكوس “غير مرغوب فيه وخطير للغاية” وتوقعت أنه “سيخل بالتوازن الإستراتيجي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ويطلق سلسلة من سباق التسلح النووي”.

وفي ضوء قيام الولايات المتحدة بتزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية يمكن أن يؤدي ذلك إلى دق ناقوس الخطر والقضاء على أي “أمل” موجود في احتواء طموحات كوريا الشمالية النووية. فبالنظر إلى جانب فشل إدارة “بايدن” في الوفاء بوعدها بإلغاء انسحاب” دونالد ترامب” من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018، يعتبر ذلك بداية لسباق التسلح  كما كان منتشرا سابقا في الحرب الباردة في الخمسينيات. ففي ظل إنتشار الفوضى وحمى التسلح لابد من وجود حل سحري لمعالجتها والحد منها.

من الواضح أن الخبراء الإستراتيجيون الذين كان لهم دور بإنشاء حلف ” أوكوس” كان هدفهم من إنشائه على أنه مواجهة بين “الغرب” الناطق باللغة الإنكليزية وأصحاب التفكير الليبرالي وبين القوة الصاعدة في الشرق ألا وهي “الصين”. بيد إن السيناريو لم يجري كما كان مخطط له وأصبح معقدا كون “الغرب” منقسم على نفسه أقرب ما يكون إلى  معسكرين: المتحدثون باللغة الإنجليزية والآخرون. ولطالما قاوم الآخرون بهدوء “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما التي أفترضت الإنتصار العالمي الوشيك للنموذج السياسي والاقتصادي “النيوليبرالي” الذي أنتجه العالم الناطق باللغة الإنجليزية ( الغرب) على مدى القرون الثلاثة الماضية. وقد يتحول هذا إلى مواجهة ثانوية بين ” الشرق والغرب” .

في السير على نهج  “مبدأ مونرو”، بادر المؤمنون “بالإمبريالية النيوليبرالية” من الناطقين بالإنكليزية إلى العمل وفقا لهذا المبدأ. لكن في الوقت عينه، وجدوا أنفسهم في مكانة القوى الإستعمارية الأوروبية المنهكة منذ قرنين من الزمن، والتي كان “مونرو” يستعرض قوته تجاهها. هذه المرة، “الصين” هي القوة الصاعدة التي تطالب بحقها ليس فقط في تأطير القانون في ساحتها الخلفية، بل أيضا في تحديد واستبعاد المتسللين داخل مناطق نفوذها.

إن تزامن دنو هذا الحدث مع الإنسحاب الرسمي الأمريكي من “أفغانستان” يشير إلى تنامي عدم الإهتمام بمسرحيات الشرق الأوسط، كاشفاً بذلك عن اتجاهين متوازيين. فمن الواضح أن “الولايات المتحدة” قررت تحويل التهديد الصيني إلى شيء مشابه للتهديد السوفييتي المضخم بشكل مصطنع والذي صاغ النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.

وهذا يعني أن الهوس “بالإرهاب الإسلامي” الذي دام عقدين من الزمن يمكن جعله الآن “ثانويا” من أجل تحفيز عقلية الحرب الباردة الجديدة نحو قوة منافسة ليس فقط قادرة على تدمير المباني الشاهقة من حين لآخر، ولكنها أيضا قادرة على إسقاط النظام الرأسمالي. وفي الوقت ذاته فأنه يخدم مصلحة قصيرة الأجل. وخاصة في ظل عدم وجود “حروب ساخنة” واضحة تبرر إعتماد الأمة على إقتصاد عسكري، فإنها ستضمن بقاء الاستثمار في التكنولوجيا العسكرية والاستعداد المادي في صميم اقتصاد لا يخشى أي تهديد أكثر من السلام العالمي.

عادة، تتبع الإمبراطوريات المتداعية نفس النهج دائماً. فبدلاً من الاستثمار في مرحلة انتقالية يمكن أن تضمن نفوذها الدائم وازدهارها في عالم بات أكثر تعقيدا، فإنهم يجازفون بشكل كبير على حساب تقويض سلامتهم الثقافية والاقتصادية.

ملحوظة تاريخية

وفقا للسجل الرسمي، فقد حذرت ” عقيدة مونرو”  “الدول الأوروبية من أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع المزيد من الأستعمار أو الملوك الذين لا حول لهم ولا قوة. وقد تم تصميم العقيدة لتلبية المصالح الرئيسية في الوقت الراهن، لكنها سرعان ما أصبحت شعارا لسياسة الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي “.

لقد أستند الرئيس” تيودور روزفلت ” بشكل رسمي إلى” مبدأ مونرو” لتبرير إرسال قوات إلى” سانتو دومينغو” (جمهورية الدومينيكان حاليًا) و” نيكاراغوا” و” هايتي ” في العقود الأولى من القرن العشرين . لقد كانت السياسة الخارجية لأمريكا نشطة في تلك الفترة حيث كشفت الولايات المتحدة لتوها عن قدرتها على بناء إمبراطورية اقتصادية. هذه السلسلة من الحملات العسكرية جنوب الحدود قد أكسبت لقب “حروب الموز”. والتي أنتجت بطلًا عسكريًا مشهورًا في شخص اللواء ” سميدلي بتلر” . كما قاده عمله البطولي إلى أماكن بعيدة مثل “الفلبين” وحتى “الصين” ، حيث شارك في قمع تمرد الملاكمين في عام 1900.

وبدا أن مكانة “بتلر” في التاريخ استثنائية ومفيدة. فهي مفيدة كونها أسهمت بتوسع الأمبراطورية الأمريكية، والتي بذلت قصارى جهدها منذ ذلك الحين لمحو ملحمته البطولية من سجلّات التاريخ الرسمية.

ففي العام 1933، وبفضل سمعة “بتلر” الحسنة كبطل عسكري خارق، حاولت مجموعة من رجال الأعمال الأمريكيين (بما في ذلك جد جورج دبليو بوش، بريسكوت بوش) كسب ودّ ” بتلر”. لقد كانوا قلقين من أن الرئيس المنتخب حديثًا “فرانكلين روزفلت” قد يميل إلى تبني سياسات تتناقض مع الإتجاه السائد في أوروبا نحو أنظمة حكم فاشية مواتية للمصالح المالية. لقد كانت خطتهم، التي يشار إليها عادة باسم “مؤامرة الأعمال”، تتضمن الإطاحة “بروزفلت” وتنصيب “بتلر” بـدور الديكتاتور العسكري الكاريزمي.

وبعد كشفه” المؤامرة” ندد “بتلر” على الفور بها ووافق على الإدلاء بشهادته أمام لجنة في الكونجرس. وفي غضون ذلك لعبت الصحافة دورها المتوقع، حيث سخرت من مزاعم “بتلر” – ويعود الفضل بذلك إلى حقيقة أن التقرير النهائي للجنة لم يتم نشره على الإطلاق. لم يحدث ذلك إلا في القرن الحادي والعشرين، بعد عقود من  إزالة اسم “بتلر” وسمعته من ذاكرة الأمريكيين.

في العام 1940 نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” نعيا طويلًا لـ “بتلر”. وقد ذكرت الصحيفة “مؤامرة الأعمال” فقط في الفقرة الأخيرة، ووصفتها بأنها “حلقة أخرى عندما حققت لجنة من الكونغرس في تقارير تفيد بأن الجنرال بتلر قد اختلط في محاولة تشكيل منظمة فاشية أمريكية”. كما نسب الفضل إلى “بتلر”  في تأليف كتاب تم نشره عام 1933 بعنوان ” نافذ البصيرة”  يروي تجربته التي امتدت 33 عامًا في الجيش.

من المثير للفضول أن صحيفة ” التايمز “أهملت ذكر كتاب آخر لا يُنسى من تأليف” باتلر “والذي تم نشره في عام 1935 والذي حمل عنوان “The War Racket (الحرب هي مضرب). من الواضح أن ” مؤامرة الأعمال” فتحت عيون “بتلر” على المنطق بعد عقود من الخدمة العسكرية. في كتابه يلخص فهمه لهذه الخدمة : ” لقد أمضيت ثلاثة وثلاثين عاما وأربعة أشهر في الخدمة العسكرية الفعلية وخلال تلك الفترة، قضيت معظم وقتي في العمل كرجل قوي من الدرجة الرفيعة لصالح لأعمال التجارية الكبيرة، وكذلك لصالح وول ستريت إضافة إلى المصرفيين “.

صحيفة “نيويورك تايمز” لم تتغير منذ تلك الحقبة، كما هو الحال اليوم، إذ تقوم بنشر الأخبار “المناسبة للطباعة”. حيث أنها ذكرت كتاب عن أنشطة بتلر البطولية في الحرب ومن جهة أخرى تجاهلت ذكر استنكاره لمنطق الحرب. هذا الارث الإعلامي القديم منسجماً ما تفعله وسائل الإعلام اليوم، حيث تتمركز فرضيتهم على أهمية الدفاع عن اقتصاد الحرب ضد أي نقد كان. نظراً أن اقتصاد الحرب يمثل الأمل الأخير في الحفاظ على استقرار الإمبراطورية.

المصدر:فير أوبزرفر

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد