فردا جتين
تشهد منطقة الشرق الأوسط حاليا حربا كبيرة، ساحتها ليست فقط سوريا والعراق، كبلدين هنا، بل كردستان التي تجري فيها كل فصول وحيثيات هذه الحرب. في بداية ظهور تنظيم “داعش” تم الإعلان بأن هدف هذا التنظيم في الأساس سيكون محاربة النظامين السوري والعراقي، وإن مقاتليه سوف يركزون هجماتهم وحربهم على مصالح هذين النظامين، ولكن مع مرور الوقت توجهت كل الهجمات وكل الطاقات التي حشدها التنظيم الإرهابي
الآن لا يركز “داعش” هجماته على النظام السوري، ولا على المجموعات المسلحة المعارضة، بل على أراضي مقاطعة (الجزيرة) في روج آفا. هدفه هو محاصرة هذه المقاطعة، وشن الهجمات عليها بهدف النيل من منجزات الشعب الكردي والمكونات الأخرى، والتأثير في التلاحم الاجتماعي، وتخريب الواقع الديمقراطي الناهض هناك.يقدم نموذج الإدارة الديمقراطية بديلا عن الدولة والمؤسسة القومية، ويطرح نظاما جديدا يختلف عن النظام التقليدي المعمول به لسير المجتمع وممارسة وتشكيل السياسة.
نظام يرفض الديكتاتورية والوصاية والمركزية، ويقوم على الديمقراطية من القاعدة والمشاركة الجماهيرية، بينما يمثل “داعش” الهيمنة التقليدية والاحتكارية والفوضى في الحكم. الآن هدف “داعش” هو استغلال حالة الفوضى والاضطراب والفراغ السلطوي في كل من العراق وسوريا من أجل بناء نظامه الفاشي/الديكتاتوري الإسلاموي. هذا النظام يتشابه كثيرا مع نظام الأسد ونظام الملالي في إيران، وكذلك مع النظام الصدامي في العراق. بتشابه ويتقاطع مع هذه الأنظمة، ولا يختلف عنهما إلا في بعض التفاصيل الصغيرة. حركة التحرر الكردستانية وحزب الاتحاد الديمقراطي يقدمان الآن في روج آفا نموذجا لإدارة المجتمع وتسيير شؤون الناس لا يقوم على الفهم القومي الضيق للأمور أو الهيمنة السلطوية الحزبية، أو الخصوصية الدينية والمذهبية. هذا النموذج يسمى بنموذج الأمة الديمقراطية.
بالعكس من الفاشية الدينية التي يتبناها تنظيم “داعش” فإن نموذج الأمة الديمقراطية يقوم على التعايش الأخوي السلمي بين المسلمين والمسيحيين والإيزيديين، بين السنّة والعلويين. بالعكس من تصور “داعش” الفاشي إزاء المرأة باعتبارها سلعة تٌسترق وتباع في الأسواق، فإن تصور الأمة الديمقراطية قائم على الحرية والمساواة بين الجنسين، وضمان حصة للمرأة في كل مؤسسات ومناحي الحياة والسياسة والمجتمع. إنه نموذج الإدارة الذي تقدمه حركة التحرر الكردستانية، وهو النموذج المضاد تماما لنموذج “داعش” الفاشي. لهذا السبب يرى “داعش” أن الخطر الأكبر يأتي من جهة نظام الإدارة الديمقراطية الذاتية، وليس من جهة الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة.
إنه نموذج ديمقراطي تحرري ثوري حقيقي يشكل خطرا وجوديا على “داعش” وفكره الفاشي، لذلك نحن نرى بأن التنظيم الإرهابي يحشد كل طاقاته ويجند كل أتباعه ليخوض حربا شرسة ضد هذه الإدارة، ويحاول باستماتة النيل منها وإلحاق اكبر الأذى بها. وضمن هذا المخطط جاء الهجوم الواسع والكبير على مقاطعة كوباني والذي يستمر منذ ثلاثة أشهر وحتى الآن.الرعب الذي يحاول “داعش” إشاعته في كل مكان: قطع الرؤوس والاغتصاب والقتل، إنما يهدف لترويع الناس وترهيبهم والتأثير في معنوياتهم ودفعهم للهرب والنزوح الجماعي. الفاشية التي يعتكز عليها “داعش” هي مشابهة للفاشيات المعروفة، ولكن بفكر وأيديولوجية جديدة وضمن أطر واضحة تستند إلى الدين والتفسيرات المحددة له. إنها فاشية جديدة تتقاطع مع فاشية إيطاليا بين أعوام 1922 ـ 1943 وفاشية إسبانيا بين أعوام 1936ـ1939 والفاشية النازية الألمانية بين أعوام 1933ـ1945.
تنظيم “داعش” يقدم نموذجا يقترب من نماذج العصور الوسطى، عصور الظلام، للفاشية المعاصرة. إنها فاشية غابرة لكن في طبعة جديدة. وقبل الهجوم على مقاطعات روج آفا وعلى الثورة فيها، نشر “داعش” جوا من الرعب رسخّ لدى الكثيرين بأنه “تنظيم لا يٌقهر” وهو قادر على الهجوم على أي منطقة واحتلاها بسرعة وبسهولة. وساعده في خلق هذه الصورة، سهولة احتلال المدن والمناطق الكبيرة في العراق وسوريا دون ملاقاة أي مقاومة. لكن المقاومة التي تصدت لهجومه على مدينة كوباني، أثرّت كبيرا في هذه الصورة التي استطاع ترسيخها لدى الناس. تركيا وقطر والسعودية دعموا عصابات “داعش” في السابق وهم ما زالوا يمدونها بالدعم، ولو على نطاق أضيق واكثر محدودية. الإرهابيون الذين يقررون الانضمام إلى صفوف “داعش” يأتون من أفريقيا وأوروبا وأماكن بعيدة من العالم لساحات القتال، وطريق العبور هي هنا تركيا. يسافرون إلى تركيا ويقيمون على أراضيها، ويتدربون في معسكراتها، يتجهزون فيها ومن ثم يتوجهون للقتال في جبهات التنظيم في سوريا والعراق.
هناك كميات كبيرة من الوثائق والصور والمشاهد التي تثبت دعم هذه الدول الثلاثة لتنظيم “داعش” الإرهابي. وقد طلبت الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية صراحة وبشكل رسمي من هذه الدول أن تكف عن دعم “داعش”. عندما هجم “داعش” على كوباني بمساعدة واضحة من تركيا، أعلن إنه سيتمكن من احتلال المدينة في 3 أيام، وسوف يحتفل بعيد الأضحى هناك، وسيقيم صلاة العيد في مركز المدينة، وقد استعد “داعش” جيدا للحرب وجلب معه كل الأسلحة الحديثة والمتقدمة التي استحوذ عليها من مخازن الجيشين السوري والعراقي.
وبدأ كل العالم يظن بأن سقوط كوباني ما هو إلا مسألة وقت، وظهر رجب طيب أردوغان، رئيس الجمهورية التركية، في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2014 على العالم ليقول بأن “كوباني في حكم الواقعة تحت سيطرة داعش”. وفي نفس اليوم الذي جاء فيه هذا التصريح، خرج أبناء الشعب الكردي في شمال كردستان وفي أوروبا في مظاهرات كبيرة دعما لكوباني. أجهزة الدولة التركية القمعية قتلت 40 مواطنا كرديا أثناء قمعها الوحشي للمظاهرات السلمية تلك.أسطورة أن “داعش تنظيم لا يقهر” تحطمت على أسوار كوباني. لقد تصدى أهالي كوباني وما زالوا منذ 3 أشهر لمقاتلي هذا التنظيم المدججين بالأسلحة الثقيلة والمتطورة، وأرغموهم على الاندحار والتراجع رغم عدم التكافؤ في التسليح وترجيح كفة ميزان التسليح لصالح مقاتلي هذا التنظيم. وقد نالت هذه المقاومة إعجاب العالم، وخرجت المظاهرات لتحية المقاومين في كوباني، الذين يدافعون عن بيوتهم ومدينتهم في وجه ثلة من المجرمين والقتلة. وقد وصل التضامن الدولي مع كوباني ذروته في الأول من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2014 حينما أعلن العالم ذلك اليوم يوما دوليا مفتوحا للتضامن مع كوباني ومقاومتها.
وقد شكل هذا التضامن ضغطا إضافيا على الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. وكانت واشنطن قد صرحت في وقت سابق بأنها لن تتدخل عسكريا وإن كوباني “لا تعني كثيرا في الميزان الاستراتيجي”، لكن التضامن الدولي والشعبي حول العالم مع مقاومة أهل كوباني لقوى “داعش” الظلامية، دفع أميركا لتغيير رأيها والبدء في تفعيل التحالف الدولي ضد “داعش” ومن ثم قصف مواقع هذا التنظيم. لكن من المهم القول بأن القصف الجوي المستمر على مواقع “داعش” لم يؤدي إلى القضاء على هذا التنظيم أو وقف زحفه وإعاقة حركة نقله للإمدادات إلى كوباني. القصف الجوي الأميركي خاصة لم يستهدف المواقع العسكرية المهمة ولا التجمعات الكبيرة ولا الآليات الثقيلة للتنظيم الإرهابي. فما يزال “داعش” ينقل قواته في قوافل طويلة ومكونة من الدبابات والمدرعات. يبدو بأن استراتيجية الإدارة الأميركية بقيادة باراك أوباما هي إضعاف “داعش” وليس القضاء عليه نهائيا وإزالته من الوجود. الاستراتيجية التي يتبناها التحالف الدولي ضد “داعش” تبدو هشة ومضطربة.
لقد ظهر في اجتماع حلف (الناتو) الأخير في بروكسل بأن بعض الأطراف تتخوف من ظهور “فراغ” بعد القضاء على “داعش” وسلطته في المنطقة،!. وهذا يعني بأن مصالح بعض الأعضاء في الحلف مرتبطة ببقاء “داعش” أو وجوده في المنطقة، وإن الآخرين يأخذون هذه المصالح بعين الاعتبار. الواضح في الأمر أن هناك توجها لإحلال صيغ جديدة محل تلك القديمة في المنطقة وإعادة ترتيب التحالفات. لذلك لا نرى غريبا إذما قامت تحالفات جديدة بين قوى تصارعت في الماضي، والآن تحاول أن تستفيد من التطورات والواقع الجديد. من الصعب الحديث مجددا عن سياسة غربية موحدة وذات مصالح متقاربة إذما تعلق الأمر بمنطقة الشرق الأوسط. المصالح الأميركية والأوروبية بدأت في الفترة الأخيرة تتباعد.
الولايات المتحدة الأميركية تمر الآن بثورة يمكن تسميتها بثورة “النفط الصخري”، حيث أن الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط لديها يقل مع مرور الوقت، ويزداد الصدع بين اميركا وأوروبا في العديد من القضايا ذات الأولوية في منطقة الشرق الأوسط. فأميركا ستصبح مستقلة في اعتمادها على الطاقة من خلال توسعة مشاريع “النفط الصخري”، ومن المتوقع أن تنجح أميركا عام 2025 في تحقيق الاكتفاء الذاتي من النفط، أما بشأن مادة الغاز، فإن واشنطن تجاوزت روسيا عام 2009 في احتياطي الغاز وكذلك الغاز المستخرج. كل هذه العوامل ستنعكس على سياسة واستراتيجية أميركا فيما يخص العالم ومنطقة الشرق الأوسط. رغم الضربات الكبيرة التي ألحقت بتنظيم “داعش” في كل من سوريا والعراق، إلا أن “داعش” ما يزال يسيطر على مساحات كبيرة من الأرض. ويسيطر مقاتلو التنظيم على المناطق المحيطة بجبل شنكال، حيث ما يزال هناك 12 ألف إنسان محاصرين، ويعانون من النقص الشديد في المواد الغذائية والأدوية ومستلزمات الحياة الأخرى. في هجوم مشترك لقوات البيشمركة وقوات الدفاع الشعبي الكردستاني (التابعة لمنظومة المجتمع الكردستاني) على قواعد “داعش” تم تحرير منطقتي جلولاء والسعدية في جنوب كردستان(كردستان العراق).
وقد تمتعت قوات الدفاع الشعبي الكردستاني بالمرونة والقدرة الكبيرة على الحركة والمناورة في وجه مقاتلي “داعش” وذلك على خلاف الجيش العراقي وقوات البيشمركة ذات التسليح الثقيل. وعملية تحرير جلولاء والسعدية كانت في مصلحة إيران، حيث إن جلولاء تقع على الحدود مع إيران، ويعيش في المنطقة التي تحاذيها العرب السنّة. وكان “داعش” يخطط عبر احتلال جلولاء فتح ممر إلى إيران. لقد اعتبرت إيران بان الهجوم على النظام السوري هو هجوم عليها. إيران الآن لديها أجهزة استخبارات قوية وتعمل بشكل فعال ومستمر في كل المنطقة، وهي ترى من مصلحتها النيل من تنظيم “داعش” المتطرف، وهي تفعل ما تفعله الولايات المتحدة الأميركية، ترسل طائراتها الحربية إلى الأجواء العراقية من أجل قصف مواقع تنظيم “داعش” وتدميرها. وهناك تعاون وتنسيق بين إيران والولايات المتحدة الأميركية في قضية محاربة “داعش” والتصدي لإرهابها.
وقد عبر حزب الحياة الحرة الكردستاني بأن النظام الإيراني الذي لم يعترف في فترات سابقة بعمليات وقف إطلاق النار التي كان الحزب يعلنها، وكان يستمر في إعدام النشطاء الكرد، اصبح الآن اكثر حذرا في سياسته مع الشعب الكردي داخل البلاد، لذلك فإن طهران لم تشن عملية عسكرية منذ زمن ضد القوات الكردية، ولم تعمد إلى إعدام أي ناشط كردي منذ فترة لا بأس بها. بعد اتفاقية دهوك بين كل من حركة المجتمع الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2014 من المتوقع أن تظهر المرجعية الكردية في روج آفا، وهي تعتبر الهيئة العليا التي تؤطر كل القوى السياسية هناك. على كل طرف أن يسمي 12 شخصا يمثله داخل هذه المرجعية. أما المجلس الوطني الكردي فلم يسمي ممثليه إلا في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي. والمقرر أن توحد هذه المرجعية قوى روج آفا، وأن تكون الأساس القوي لانطلاقة المؤتمر القومي الكردستاني المأمول.
المقاومة الكردية في كوباني ضد هجوم تنظيم “داعش” الفاشي استحوذت على اهتمام عالمي غير مسبوق. هناك مجموعة كبيرة من الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات المعروفة أعلنوا عن تضامنهم ودعمهم للمقاومة في كوباني ضد الفاشية الداعشية. كذلك أدى الدور التركي المساعد ل”داعش” إلى تثوير كل العالم وقواه السياسية ضد هذه الدولة. كما وتصاعدت الدعوات في ألمانيا من اجل رفع صفة “الإرهاب” عن حزب العمال الكردستاني وإزالة اسمه من لائحة “المنظمات الإرهابية” على الصعيد الدولي. كما ورأى العالم كيف إن البرلمان الألماني عمد إلى رفع الحصانة عن البرلمانية عن حزب اليسار نيكول غولكه فقط لأنها رفعت علم حزب العمال الكردستاني في إحدى المناسبات. وكان لتضامن رفاقها في كتلة حزب اليسار عندما رفعوا علم الكردستاني معا، وقعا خاصا لدى الرأي العام. ويبقى السؤال مفتوحا: هل ستتخذ الدولة الألمانية موقفا جديدا من حركة التحرر الكردستانية وتعيد النظر في موقفها السابق؟
قرار منع حزب العمال الكردستاني في ألمانيا جاء كهدية للدولة التركية وعربونا للعلاقات المتينة بين البلدين. إن قرار الإبقاد على منع حزب العمال الكردستاني في البلاد، والاستمرار في اعتباره “منظمة غير قانونية او إرهابية” سيصب في مصلحة الدولة التركية التي تدعم بالضد من كل العالم ودوله ومؤسساته تنظيم “داعش” الإرهابي. تركيا تحاول الآن الخروج من حالة العزلة التي تعيشها بعد اكتشاف أمر دعمها ل”داعش”، وهي تحاول الاعتماد على الحلفاء في كسر طوق العزلة، وكذلك تقترب من روسيا للممارسة الضغط والابتزاز على الأطراف التي تضيّق عليها لمساندتها الفاضحة ل”داعش” والتستر على جرائمه.
* مجلة (Kurdistan Report) الصادرة باللغة الألمانية.
ترجمة: المركز الكردي للدراسات