تركيا على مشارف الأزمة

كانيوار مزهر

مقدمة

ورثت حكومة العدالة والتنميّة عن الحكومات التركيّة السابقة جملة من المشاكل والقضايا الداخليّة والخارجيّة العالقة، لتتحمل الحكومة الحاليّة أعباءها وتداعياتها؛ فقد عاشت تركيا مرحلة من الاضطرابات الكبيرة، امتازت بالصعود والهبوط السياسيّ، عبر سلسلة من الانقلابات العسكريّة، التي اختلفت في وسائلها وتوحدت في أهدافها، المتمثلة بضبط المشهد التركيّ على إيقاع العلمانيّة الأتاتوركيّة؛ إذ ساهمت تلك الانقلابات في عدم الاستقرار وخلقت العنف، ولم تفلح في إحداث تغييرات جوهريّة في المشهد، كما كلفت تلك الاضطرابات تركيا الكثير؛ ففي ظلّ سياسات الحكومة التركيّة الحاليّة، وعدم معالجتها مسائل تعتبر الركيزة الأساسيّة في استقرار وثبات أي دولة، فإن تركيا قد تواجه صعوبات جمة تعيدها للوراء لعقود من الزمن.

القضيّة الكُرديّة العصيّة على الحلّ

كانت القضية الكُرديّة، ولا تزال، إحدى المشاكل التي استعصت على الحلّ لدى الحكومات التركيّة المتعاقبة، فقد أصبحت مشكلة داخليّة اساسيّة، ذات أبعاد اقليميّة دوليّة، وباتت تؤرق حكام الأتراك، وسط اعتمادهم على الخيار العسكريّ، دون السياسيّ، وعدم قبولهم بالقضيّة، بل حتى انكارهم وجودها (1)، خيار كلّ به كاهل تركيا اقتصادياً. مع ذلك، كانت هناك محاولات لحلها سياسيّاً؛ بدءاً من توركت أوزال، مروراً بنجم الدين أربكان، إلا أنهما لم يملكا السلطة الكافيّة على المؤسسة العسكريّة وقتذاك، وليس انتهاءً بمسعود يلماز في سعيه للانضمام إلى الاتحاد الأوروبيّ، وليس إيماناً منه بالحقوق الكُرديّة. تلك المحاولات باءت بالفشل لأسباب عدة، منها تواتر الهيمنة بين المؤسستين السياسية والعسكرية، وسواد التطرف القومي في الشارع التركي.

 مع تسلم العدالة والتنمية الحكم في تركيا، لم يتغير التعاطي الأمنيّ والعسكريّ مع المسألة الكُرديّة خلال الفترة الأولى من حكمه، ليليها انفتاح على القضية الكُرديّة في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين (كالذيّ جرى في فترات متباعدة من تارخ تركيا الحديث) على هيئة مباحثات بين حزبي العدالة والتنميّة والشعوب الديمقراطيّ، عُرفت بمباحثات السلام الداخليّ؛ تلك المباحثات توقفت بعد سنتين من بدئها، ويعزَى ذلك إلى تنامي تجربة الحكم الذاتيّ في شمال وشمال شرق سوريا، وتخوف تركيا من انتقال العدوى إلى داخلها، مما يضع تركيا على مفترق طرق، ويتنامى الخوف من احتمالية خروج الوضع عن سيطرتها، وما يعزز مخاوف تركيا تلك هو وجود الإقليم الكُردي في العراق. تلك الهواجس دفعت بتركيا إلى إنهاء محادثات السلام، لتقوم بسلسلة اجراءات أرجعت القضية الكُرديّة إلى مربعها الأول، لتُسقط لاحقاً العضوية عن برلمانيين من حزب الشعوب الديمقراطيّ، وتعيّن وصاة على العشرات من البلديات التي كان الشعوب الديمقراطي قد فاز بها انتخابياً، بالإضافة إلى إعادة تطبيق سياسة إلغاء المظاهر الكُرديّة والعودة للخيار العسكريّ كما حدث في المدن الكردية بالبلاد.

الأزمة الاقتصاديّة

لم يشهد الاقتصاد التركيّ، منذ تأسيس الجمهوريّة التركيّة، نمواً ملفتاً للنظر، بل بقيّ رهيناً، لتطورات المشهد السياسيّ المضطرب، لذا بقي هشاّ ضعيفاً. منذ تسلم حكومة العدالة والتنميّة مقاليد الحكم، شهد الاقتصاد التركيّ، تعافياّ من الركود الذي لحق به جراء السياسات الخاطئة للحكومات السابقة، إلا أن ذاك التعافي سرعان ما تبدد، بفعل انفراد الرئيس التركيّ بالسلطة، وتطبيقه سياسة المحسوبية في إدارته؛ إذ عيّن صهره بيرات البيرق وزيراً للماليّة، وأبعد الكفاءات من المناصب الحساسة، وأهمل استقلاليّة المؤسسات الاقتصادية كالبنك المركزيّ على سبيل المثال. وقفز الدين الخارجيّ في عهد حكومة العدالة والتنمية من 112 مليار دولار إلى 421,434    مليار دولار، مع إخفاء الحكومة الرقم الحقيقيّ للديون والادعاء بسدادها، وتشجيعها الاقراض الخارجيّ، كما ارتفع سعر صرف الدولار الأمريكيّ أمام الليرة التركيّة إلى أعلى مستوى له، ليصل إلى 6.74 ليرة للدولار الواحد (2)، على خلفية احتجاز تركيا للقس الأمريكيّ آندرو برانسون، ورفع الولايات المتحدة رسوم الصلب والألمونيوم، وفرضها عقوبات على وزيرين تركيين. نتيجة للسياسات تلك، شهدت تركيا هجرة لرؤوس الأموال والعقول إلى الخارج؛ إذ قُدّرت نسبة هجرة رؤوس الاموال التركيّة بـ 12% فضلاً عن مغادرة رؤوس أموال أجنبيّة، كما فقدت تركيا أكثر من 5000 مليونير خلال عام واحد فقط (3)، لقلقهم تجاه المستقبل الضبابيّ، بالإضافة لذلك شهدت تركيا نزيف عقول حاد، قُدر عددهم بأكثر من 250 ألف، أغلبهم من الاكاديميين والكُتاب وذوي المؤهلات العليا بحسب موقع إكسبرس بزنس عن مركز الاحصاء التركيّ(4)، في حين تتخذ معظم الدول إجراءات لمنع مثل هذه الهجرات، لم تتخذ تركيا أي اجراءات لمنع ذلك، بل زادت من تفاقم الحالة وذلك إن دل على شيء، يدل على تدهور الهيكل المؤسساتيّ فيها.

الحريات وحقوق الإنسان

لم تكن تركيا يوماً من الأيام واحة للحريات وحقوق الإنسان؛ فالدولة القائمة على مبدأ لغة واحدة، عَلمٌ واحد، شعبٌ واحد، لا يمكنها بأي شكلٌ من الأشكال قبول الآخر المختلف. تجاوز العداء والقمع في ظل حكومة العدالة والتنمية، إطاره التقليديّ ضد الكُرد وبقية الأقليات، ليصل إلى قمع واعتقال أي شخص لمجرد اختلافه عنها بالفكر والتوجه، ومهما كانت قوميته، إذ قامت باعتقال أعداد كبيرة من الصحفيين في إطار تحقيقات ما سمي بالانقلاب الفاشل، لتدخلهم السجون بتُهم مختلفة؛ منها الانتماء لمنظمة إرهابيّة، والتحريض على الكراهيّة، والإساءة لرئيس الجمهوريّة، حيث بلغ عدد الصحفيين المعتقلين في السجون التركيّة قرابة 191 صحفيّ وصُحفيّة بينهم أجانب، فضلاً عن إغلاق 29 قناة تلفزيونيّة، 62 جريدة، 5 وكالات إخبارية، 14 إذاعة، 29 دار للنشر، 19 مجلة دوريّة، وآلاف المواقع والمدونات الالكترونيّة(5)، لتتحول تركيا بذلك إلى أكبر سجن للصحفيين حول العالم وتحتل المرتبة الــ 157 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة(6)، كل ذلك وتركيا تتجاهل  التقارير الصادرة عن المنظمات الدوليّة  المعارضة لسياسات تركيا تجاه الصحفيين.

الخاتمة

تركيا الساعيّة لتكون القوة الوحيدة في المنطقة، معتمدة بذلك على سياسة خارجيّة متعددة الأبعاد والوجوه، يبدو أنها تتغافل أن قوة السياسة الخارجيّة تتأتى من الداخليّة، والتي لا تمتلكها تركيا في الوقت الحاليّ، فإنكارها للقضية الكُرديّة واستمرارها في التعاطي الأمنيّ- العسكريّ معها، فضلاً عن رفعها من وتيرة العمليات والحروب العسكريّة في خارج حدودها، تؤجج الوضع الداخلي، وستبقى القضية الكُرديّة، ما لم تُعالج بسبل وطرق عقلانيّة، محوراً من محاور الاضطراب واللااستقرار، ليس في تركيا فقط، بل في عموم شرق الاوسط.

كما أن التعامل الخاطئ مع الاقتصاد، والاستمرار في التكابر وصرف الأنظار عن الغليان الشعبي، وعدم معالجته بالسبل الموضوعيّة، بعيداً عن الشعارات والهتافات، تجعل من الاقتصاد التركيّ، قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت، خاصة إذا ما استمرت تركيا في علاقاتها مع روسيا، وإيران المغضوبة عليها من أمريكا، والتي قد تدفع الأخيرة لإخراج بعض الأورق من الظل، وتضرب وتر تركيا الحساس، الاقتصاد بالدرجة الأولى، وبذلك يمكن أن يشكل الاقتصاد، البوابة التي دخل منها حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، بوابة الخروج.

———

المراجع:

1- https://www.youtube.com/watch?v=hacGSALe2kE

2- https://sa.investing.com/currencies/usd-try-historical-data

3- https://www.bloomberg.com/news/articles/2018-06-19/turkey-s-capital-flight-problem-is-getting-worse-in-5-charts

4- https://fr.express.live/2018/10/12/la-fuite-des-cerveaux-turque-le-quart-dun-million-dindividus-eduques-se-sont-enfuis

5- https://www.nytimes.com/2017/06/10/world/europe/turkey-wikipedia-ban-recep-tayyip-erdogan.html

6- https://rsf.org/en/ranking

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد