حملت الأحداث والتطورات المتسارعة على الساحة التركية في الأسابيع الماضية، بوادر وعلامات بدء انهيار هيمنة حزب العدالة والتنمية على تركيا، وبروز شرخ كبير في مشروع الحزب في السيطرة على كل مفاصل الدولة. هذا المشروع وضعه قادة ورئيس الحزب ورئيس الدولة رجب طيب أردوغان، واستفاد من تناقضات داخلية وإقليمية في توطيده وترسيخ دعائمه، ليصبح عنوانا وإيديولوجية رسمية للدولة التركية الجديدة، حيث يتم الإعلان عنه في احتقالات المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية عام 2023 م. كذلك حملت التطورات الإقليمية أخبارًا غير سارة لـ”أردوغان” وفريقه، فالحلفاء ينهارون، ومشروع الإسلام السياسي يتداعى، دون قدرة “أردوغان” وحزبه على إمداده بالمساعدة ووسائل الإنقاذ.
لعل أهم حدث، داخليا، هو خسارة حزب العدالة والتنمية الحاكم للانتخابات البلدية الأخيرة، وفقدانه لرئاسة بلديتي إسطنبول وأنقرة، أي أن الحزب الذي يحكم تركيا منذ 2002 م بقيادة رجب طيب أردوغان قد خسر العاصمتين التجارية/الحضارية والسياسية للبلاد. كانت إسطنبول وأنقرة من معاقل العدالة والتنمية، والآن أصبحتا تحت سيطرة المعارضة بقيادة حزب الشعب الجمهوري. التحالف المتضرر من سياسة “أردوغان” الرامية لتغيير وجه البلاد، وإقحام تركيا للعب دور إقليمي ودولي أكبر بكثير من قدرتها ووزنها، بات الآن ينافس على السلطة والحكم بجدارة.
ما حدث في الانتخابات البلدية نهاية آذار/مارس 2019، ألحق بـ”أردوغان” ضربة قوية، وهو الأمر الذي حتما سيدفعه إلى التفكير وإعادة النظر في خياراته، مثلما فعل بعيد الانتخابات البرلمانية منتصف 2015، عندما قرر التحالف مع حزب الحركة القومية العنصري، وشن حرب مفتوحة ضد الكرد في داخل وخارج تركيا، خاضها فعلا واستعمل فيها إرهاب الدولة المنظم، إلى جانب الاستعانة بالمجموعات الإرهابية الجهادية المنخرطة في الحرب الأهلية السورية، وعلى رأسها تنظيم “داعش” الإجرامي، لإلحاق أكبر قدر ممكن من القتل والتدمير بالإنسان والحجر الكرديين.
سنحاول في هذه الورقة قراءة تداعيات هزيمة حزب “أردوغان” في الانتخابات البلدية، وبشكل خاص خسارته الكبيرة في إسطنبول وأنقرة، وما يترتب على ذلك انعكاسا على حالة الحزب وطموح زعيمه في داخل وخارج تركيا، والخيارات المتاحة أمام “أردوغان” للتعامل مع الوضع الجديد.
رغم تجييش حزب العدالة والتنمية لكل إمكانات ومؤسسات الدولة وجعلها في خدمة حملته الانتخابية، واستخدامه وسائل الإعلام لمصلحة مرشحي حزبه، وحملات الإقصاء والتشويه والترهيب التي طالت مرشحي المعارضة، إلا أن النتيجة جاءت مخيبة لآماله، وفازت المعارضة، منتزعة مفاتيح المدينتين المهمتين من يد “أردوغان” وحزبه، وهو ما يحدث لأول مرة منذ عشرين عاما.
ثمة عدة دروس ودلالات يمكن استخلاصها من وراء هزيمة “أردوغان” وحزبه، وفوز تحالف المعارضة: أولا، إن حملات التجييش واستخدام وسائل إعلام الدولة، ومؤسسات الرأي وشبكات التغطية والدعاية العامة والخاصة، واللجوء للمال العام والخاص، وحملات التشويه والتخوين والتخويف التي استهدفت المعارضة، لم تنجح في دفع مرشحي حزب العدالة والتنمية للفوز، وبشكل خاص لرئاسة إسطنبول وأنقرة. وهذا يعني أن احتكار الحزب الحاكم للإعلام ومؤسساته، وتجييره إياها للدعاية لخطابه، وحرمان القوى الأخرى، لم يعد يعطي أي مفعول ملموس وحاسم، فالمواطنون باتوا مطلعين على خفايا الأمور، ولم يعودوا يصدقون وسائل الإعلام القريبة من الحكومة، وهم يعرفون بأن “أردوغان” بات ينحو منحى ديكتاتوريا شموليا، يستحوذ فيه على مؤسسات الدولة لصالح حزبه وأجندته الشخصية والعائلية. المواطنون باتوا يرفضون أن تكون تركيا هي حزب العدالة والتنمية و”أردوغان”، وأن تكون مؤسسات الدولة هي مؤسسة الحزب والعائلة والشخص.
ثانيا، كانت أصوات حزب الشعوب الديمقراطي، والتي ذهبت لصالح مرشحي المعارضة في إسطنبول وأنقرة، حاسمة، بل هي التي رجحت كفة المعارضة على كفة حزب “أردوغان”، فالكتلة الصلبة التي تصوّت للحزب في المدينتين تربو على نصف مليون صوت. هذه الأصوات ذهبت لصالح مرشحي المعارضة، وكانت الفصل في انتصارهما على مرشحي حزب الحكومة. لقد حدثت تفاهمات بين حزب الشعب الجمهوري المعارض، وحزب الشعوب الديمقراطي فيما يخص التصويت في مناطق تركيا الداخلية، ومناطق كردستان، حيث دعا حزب الشعوب الديمقراطي كتلته إلى التصويت لصالح مرشحي المعارضة في المدن الكبرى داخل تركيا، في مقابل دعوة الشعب الجمهوري أنصاره إلى التصويت لحزب الشعوب الديمقراطي في مدن وولايات كردستان. “أردوغان” وحزبه يعلمان هذا الأمر، وعملا على تشويهه والطعن في المعارضة واتهامها بـ”العمل والتعاون مع الإرهابيين”، لتحقيق مكاسب سياسية.
لقد رد حزب الشعوب الديمقراطي على سياسة “أردوغان” وحزبه المتمثلة في الحرب الشاملة ضد الشعب الكردي في داخل وخارج تركيا، وانتقم من “أردوغان” على ما لحقه من قتل ودمار بالكرد طيلة السنوات الماضية، فالرئيس التركي -منذ هزيمة انتخابات 2015- يقود حملة حرب كبيرة ضد الكرد، عسكريا وسياسيا، متحالفا مع حزب الحركة القومية، الذي نجح في استمالة جزء كبير من قاعدته الانتخابية لصالحه. الضربة الكردية جاءت سياسية هذه المرة، ونجحت في تحجيم قوة حزب “أردوغان”، وبالتالي في دق مسمار في نعش الحكومة التي أذاقت الكرد، القتل والتخريب والتهجير في داخل وخارج البلاد.
كان حزب العمال الكردستاني قد أشار إلى حملات الترهيب والمصادرة والتزوير التي لجأ إليها الحزب الحاكم، واعتماده على مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الجيش والاستخبارات، في الحصول على الأصوات في ولايات كردستان الشمالية، واللجوء إلى التزوير للحيولة دون فوز حزب الشعوب الديمقراطي (الذي فاز رغم ذلك في 8 ولايات كردية). وذكر مراد قره يلان، المسؤول الكبير في الحزب، بأن الانتخابات وإن كانت ضربة لـ”أردوغان”، فإن الأنظمة الشمولية الديكتاتورية لا تنهار بالانتخابات ولا تعبء لها، لكنها تنهار تحت الضغط الشعبي والثورة الجماهيرية والمقاطعة الشاملة، داعيا الشعب التركي إلى الثورة على حكومة العدالة والتنمية/الحركة القومية، ودعم الديمقراطية وأخوة الشعوب، في سبيل حل القضية الكردية ودمقرطة تركيا، وإنهاء الحرب الدائرة في البلاد منذ حوالي أربعين عاما.
ثالثا، إن التهاوي السياسي للعدالة والتنمية في الداخل بدأ بالفعل. “أردوغان” وحزبه يخسران في معاقلهما، والخطاب القومي العنصري وخداع المواطنين بشعارات مثل “تركيا في خطر” و”حرب عالمية ضد الاقتصاد التركي”، لم تنفع في شيء. بات المواطن العادي يتلمس التردي الواضح في أوضاعه الاقتصادية والمعاشية، وكتم الحكومة للتعبير والصحافة والصوت المعارض المنتقد، إلى جانب تذمره من الحروب الخارجية والتحالف مع الجهاديين، والتورط في ملفات إقليمية استعدت فيها تركيا دولا مهمة. هذا التذمر تُرجم إلى أصوات ضد مرشحي الحزب الحاكم في إسطنبول وأنقرة، ومدن أخرى مهمة. ورغم القبضة الأمنية والتلويح بالملاحقة، واحتكار الحكومة لأغلبية وسائل الإعلام، فإن الشارع بات يستمد مصادر معلوماته من قنوات أخرى، غير الإعلام الحكومي المسيّر والمؤدلج، وذلك الخاص المرتبط به.
رابعا، خرجت الأصوات المعارضة في داخل الحزب الحاكم، تلك التي أقصاها “أردوغان”، إلى العلن، فالبيانات المنتقدة للرئيس التركي ونهجه الديكتاتوري، صدرت من الرئيس السابق عبدالله غول، ومن رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو. هؤلاء لهم جمهور عريض، داخل قيادة وقاعدة العدالة والتنمية. وثمة معلومات تقول إن استعدادت تجري لتشكيل حزب بديل عن العدالة والتنمية، يقوده “غول” و”داود أوغلو”، بالاضافة إلى العشرات من الشخصيات القيادية الأخرى التي أقصاها “أردوغان” وركنها في الظل. وإن حصل هذا “الانشقاق”، فإنه سيكون الضربة القاضية التي ستأتي على “أردوغان” وتضع حدا لوجوده السياسي.
خامسا، باتت المعارضة تسيطر على خمسة مناطق حضرية، بينما لا يسيطر الحزب الحاكم سوى على اثنتين فقط. وهذه المناطق التي ستديرها المعارضة تمثل أكثرية الفعاليات البشرية والاقتصادية في البلاد، أي أن الحكومة ستقع تحت رحمة المعارضة فيما يخص الخطط التنموية والكثير من الإجراءات البيروقراطية المهمة.
هذا على الصعيد الداخلي، أما على الصعيد الخارجي، فالأحداث والتطورات في المنطقة لا تسير لصالح “أردوغان” وخطاب حزبه في دعم حركات الإسلام السياسي والمجموعات الجهادية التي تمارس الإرهاب والتخريب. في السودان، سقط الديكتاتور عمر حسن البشير وتهاوت أركان حكم الإسلام السياسي هناك، أثر انقلاب عسكري جاء نتيجة ثورة شعبية هادئة. وكان “البشير” من حلفاء “أردوغان”، وعقد تحالفا مع الدولة التركية، مبرما معها اتفاقيات اقتصادية وعسكرية، وصفت بـ”الاستراتيجية”. الآن، باتت هذه الاتفاقات في مهب الريح مع قدوم حكومة أخرى ستعيد النظر في كل الخطوات التي قام بها “البشير” ونظامه. ولعل أهم الملفات التي ستؤثر على تركيا، هي إعادة النظر في اتفاقية تأجير جزيرة “سواكن” السودانية للجيش التركي، الذي أسس هناك قاعدة عسكرية في إطار التنافس الإقليمي مع كل من السعودية ومصر.
كذلك يتعرض حلفاء “أردوغان” في ليبيا، ممثلين في فريق رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فايز السراج في “طرابلس”، للهجوم من قبل الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر. وتزحف قوات الجيش الليبي إلى “طرابلس” من أجل تحريرها من الحكومة الموالية لـ”أردوغان” وقطر. وكان المشير “حفتر” قد تلقى دعما عربيا من السعودية والإمارات ومصر، وهاتفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مبديا دعم الولايات المتحدة الأمريكية للمساعي الرامية لإعادة الأمن للبلاد والقضاء على الميليشيات الجهادية التي تسيطر على مناطق مختلفة في البلاد، وتنتهك حقوق الإنسان وتهدد وحدة البلاد. وقد اتهم “حفتر”، وكل من السعودية والإمارات ومصر، الحكومة التركية بالدعم العسكري المباشر لحكومة فايز السراج، وتمويل مجموعات جهادية مسلحة من أجل إبقاء الأوضاع متوترة وغير مستقرة في هذا البلد العربي النفطي.
طبعا هذا غير فقدان ذراع الحكومة التركية المتمثل بتنظيم “داعش” في سوريا، وهزيمته على يد قوات سوريا الديمقراطية، والتحالف الأمريكي مع هذه القوات، ورفض “واشنطن” التدخل العسكري التركي في مناطق شرق الفرات (ريف حلب، الحسكة، الرقة، دير الزور)، والتوتر الحالي الحاصل بسبب إصرار نظام “أردوغان” على شراء منظومة صواريخ “إس 400” من روسيا، وما يعنيه ذلك من تجميد لعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتعريضها لعقوبات اقتصادية أمريكية وغربية.
المتتبع لتصريحات ومواقف “أردوغان” وحزبه عقب كل هذه التطورات، سيلاحظ مدى التخبط وكذلك التصعيد الحاصل في خطاب شحن الشارع بالشعارات، ونشر الكراهية ضد الغرب، والعزف على الوتر الديني، وإيهام الناس بأن تركيا “تتعرض لحملة صليبية” تهدف لتقسميها ونشر الخراب فيها! هذا بالإضافة إلى توسيع العمليات العسكرية ضد مواقع حزب العمال الكردستاني، وتسريب الإعلام الموالي للحكومة لصور جنود أتراك وهم يمثلون بجثث مقاتلين كرد، وإقامة مراسيم كبيرة لجنازات قتلى الجيش التركي، وكل ذلك لصرف الأنظار عن هزيمة الحزب الحاكم في الانتخابات، والتغطية على الحالة المعيشية المتردية للمواطنين، والركود الاقتصادي، وقمع الحريات والصحافة وسجن المعارضين. الرهان يبدو حتى الآن على المزيد من القمع وكم الأفواه في الداخل، واتهام كل من لا يؤيد سياسة “أردوغان” بـ”الإرهاب” وملاحقته والاعتداء عليه (كما حصل لرئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، الذي تعرض للضرب من قبل أنصار الحزب الحاكم في الشارع).
الخطاب الجديد/القديم في الشحن القومي وتثوير الشارع لن يزيد من شعبية الحزب الحاكم، ولن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. كما أن اللجوء الخطير إلى تشكيل الميليشيات الحزبية، وجمع صفوف الإسلاميين والجهاديين (المحليين والأجانب المرتزقة) لاستخدامهم في الشارع ضد المناوئين لسياسة الحزب الحاكم وبشكل خاص الكرد وأنصار حزب الشعب الجمهوري، سوف يفقد “أردوغان” المزيد من الأنصار، بل وسيساهم في إدخال البلاد لمستويات أكبر من العنف. لقد اعتمد “أردوغان” على مخيال “الجماعة” في تسيير الدولة، فاختصر الدولة ومؤسساتها الاقتصادية والعسكرية والإعلامية في حزب العدالة والتنمية، واختصر الحزب في أفراد عائلته والمقربين منه، وهؤلاء كلهم في شخصه. وهو ما يزال يعتمد على أفراد من الحلقة الضيقة من الذين شكل منهم “الجماعة”، ونصب نفسه سلطانا عليها، يستخدمها كهراوة لضرب معارضيه وترهيبهم. لكن الجماعات تنهار في كل مكان.. دولة الجماعة وميليشاتها انهارت في مصر والسودان، وها هي تنهار في ليبيا أيضا. تركيا ستشهد أحداثا كبيرة، ستسفر حتما عن انهيار جماعة “أردوغان”، سواء كان ذلك عبر الوسائل الديمقراطية، أو في ثورة شعبية دموية، قد تتحول لفوضى وحرب أهلية بين “الجماعة” التي جاءت عبر صنادق الاقتراع، ولكن لا تريد المغادرة عبرها، وبين بقية أبناء الشعب، ممن سئموا الشعارات والحروب والديكتاتورية ومصادرة الحريات، وباتوا يريدون حياة أفضل ووضعا حياتيا مستقرا، دون الحديث المكرر والممجوج عن “التهديد الوجودي على الدولة ووحدتها” و”الحرب الكونية الصليبية على الليرة التركية” أو وجوب الحفاظ على “سطوة الدولة في جزر السودان أو مدن الساحل الليبي”!
—-