تراجع “ترامب” عن الانسحاب من سوريا.. “صفعة” في وجه تركيا

جنكيز تشاندار*

خلال الأيام الماضية، تعاملت جميع وسائل الإعلام التركية تقريبا مع تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، حول صفقة صواريخ S-400 مع روسيا، على أنها نبأ عاجل. وقد كانت كذلك بالفعل، ففي أعقاب محادثاته مع نظيره الأمريكي مايك بومبيو، رد “جاويش أوغلو” على أسئلة الصحفيين حول حول شراء تركيا لنظام الدفاع الصاروخي الروسيS-400 ، قائلا: “ليست هناك حاجة لشرح أي شيء عن الـS-400، حيث إنها صفقة منتهية بالفعل”، مضيفًا أن تركيا لن تتراجع عن اتفاقها، وأن “تعليقات الآخرين لا تهمنا”.

من قد يكون هؤلاء “الآخرين”؟

من المحتمل أن يكون “جاويش أوغلو” يقصد الأمريكيين. كتبت صحيفة “صباح” التركية الناطقة باسم الحكومة: “هدد المسؤولون الأمريكيون حليفهم في حلف (ناتو)، بأن شراء نظام S-400 قد يعرض عملية شراء الطائرات المقاتلة من طراز F-35 التي تنتجها شركة لوكهيد مارتن للخطر، وربما يؤدي إلى فرض عقوبات أمريكية عليها. في محادثات متعددة للتفاوض مع وفد أمريكي، أكدت تركيا أنها بحاجة إلى كل من أنظمة S-400 وباتريوت الأمريكية.

منذ أن وقعت الحكومة التركية اتفاقية مع “موسكو” في ديسمبر/كانون الأول 2017 لشراء المنظومة الدفاعية الصاروخية، أصبحت القضية محل جدل مستمر بين “أنقرة” و”واشنطن”. ومن المتوقع أن يتم تسليم الصواريخ الروسية بحلول نهاية عام 2019. ومع ذلك، تعد تركيا أيضًا جزءًا من مشروع مقاتلات F-35، ومن المتوقع أن يتم تسليم أول مقاتلة منها بحلول عام 2020.

حتى وقت قريب، بدت العلاقات بين “أنقرة” و”واشنطن” أكثر دفئا، ما أثار تكهنات بأن تركيا قد تلغي صفقتها مع روسيا وتتفق مع حليفها، الولايات المتحدة.

إذا كان هذا هو الحال، فما الذي دفع “جاويش أوغلو” إلى أن يكون صاخبا للغاية في وصف صفقة الصواريخ الروسية بأنها “صفقة مكتملة ومنتهية”، في الوقت الذي يلمح فيه إلى أن المخاوف الأمريكية لا تزعج تركيا؟

إن المخطط وصانع السياسات الرئيسي -إن لم يكن الوحيد- في هذه القضايا، هو الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يعبر بشكل متزايد عن استيائه من الموقف الأمريكي تجاه شمال شرق سوريا. مع اقتراب موعد الانتخابات المحلية، يقود “أردوغان” بلا كلل حملة حزبه الانتخابية، حيث يلقي الخطابات اليومية في جميع أنحاء البلاد. وفي كل خطاب، يؤكد نية تركيا إنشاء منطقة آمنة في شمال سوريا، مجاورة للحدود المشتركة، يتراوح عمقها بين 30 و 40 كيلومتراً. وهو يريد التنسيق مع “الحلفاء”، أي الأمريكيين، ولكن إذا كان ذلك غير ممكن (وهو ما يبدو أنه الحال)، فإن لدى تركيا القدرة على فرضه بمفردها، بحسب ما يقول هو.

على الرغم من مهاراته الخطابية البلاغية المعروفة وخطابه الترهيبي فيما يتعلق بشمال شرق سوريا، فإن الرئيس “أردوغان” يقوم بنقل نسخة من الأحداث لا تتوافق مع الحقائق. لا يزال المجال مفتوحا لمناقشة ما إذا كانت تركيا وحدها تستطيع السيطرة على منطقة آمنة في سوريا بدون غطاء جوي. طالما أن الجيش الأمريكي موجود في سوريا، فمن غير المحتمل أن تقوم تركيا بحملة عسكرية لتدمير الوجود الكردي مع حلفائها العرب في قوات سوريا الديمقراطية.

ولذلك، فإن القرار الأمريكي بترك 400 جندي في سوريا سرعان ما أغرق طموحات تركيا في شرق الفرات. الخطابات اليومية التي يلقيها الرئيس “أردوغان” تعبر عن خيبة أمل “أنقرة” حيال قرار “واشنطن”، وملاحظات “جاويش أوغلو” حول “الصفقة المنجزة” مع روسيا، ينبغي أن تُفهم على هذا الأساس.

إن القرار الأمريكي بترك 400 جندي في سوريا، نصفهم فقط يتمركزون في الأراضي الشاسعة بشمال سوريا، لا علاقة له بحفظ السلام. إن حفظ السلام باستخدام 200 جندي في أكثر المناطق اضطراباً في العالم أجمع هو “نكتة حزينة”. ما هو خطير الآن، هو أن هؤلاء الجنود الـ200 يرتدون الزي العسكري للولايات المتحدة. وبالتالي، فإن القرار سياسي، يحمل رسالة واضحة: طالما أن الأحذية الأمريكية موجودة على الأرض في سوريا (الجنود الأمريكيون على الأرض في سوريا)، لا يمكن أن تكون المنطقة مملوكة بشكل حصري لأي طرف تعتبره الولايات المتحدة غير لائق، سواء كان ذلك إيران أو النظام في دمشق. وهي أيضاً رسالة ضمنية بأن الأمريكيين لا يرغبون في رؤية -على الأقل في هذه المرحلة- شمال شرق سوريا داخل دائرة نفوذ روسيا.

من بين جميع الأطراف المشاركة في المزيج السوري، كانت تركيا هي الدولة ذات المصلحة المعلنة للتدخل، كما فعلت في “عفرين” في يناير/كانون الثاني 2018. تعهد “أردوغان” بالقضاء على وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) من المنطقة، في حين كان يستعد لتوغل تركيا في سوريا. وبالتالي، فإن حرمان “أردوغان” من خططه مع اقتراب الانتخابات، هو بلا شك مصدر إزعاج كبير لـ”أردوغان”.

بهذا المعنى، يشعر الأكراد في سوريا بالارتياح من القرار الأمريكي بالبقاء. على الجانب الأمريكي، فإن التوصل إلى صفقة مع تركيا بشأن منطقة عازلة غير واقعي، طالما أن موقف تركيا من الأكراد هو لعبة محصلتها صفر. إذا أعلن الأمريكيون عن وجودهم في منطقة عازلة بين تركيا والأكراد السوريين، فإن المستفيدين سيكونون الأكراد. إن الأكراد هم الذين كانوا يخشون من احتمال حدوث غزو تركي، الأمر الذي سيؤدي إلى تشتيتهم، كما حدث قبل عام في “عفرين”.

يمكن للأمريكيين أن يحاولوا تهدئة تركيا –وهو ما يفعلونه- من خلال تقديم المنطقة العازلة كضمانة لتركيا، التي ترى الوجود الكردي في شمال سوريا تهديدًا وجوديًا. لكن من الصعب تصديق أن الأكراد المحاصرين، الذين يكافحون من أجل البقاء، يشكلون تهديدًا حقيقيًا عبر الحدود لتركيا، بالمعنى المادي.

هذا هو السبب في أن المنطقة العازلة الأمريكية ستكون في صالح الأكراد وليس لتركيا. ولهذا السبب، تشعر تركيا بعدم الارتياح لقرار الولايات المتحدة بالبقاء، كما يتضح من تصريح “جاويش أوغلو”. في غضون ذلك، لا يخفي الأكراد رضاهم. لا يزال الأكراد يعتقدون أنه من الممكن أن تبيعهم الولايات المتحدة، لكن هذا لا يبدو وشيكًا كما كان الوضع بعد إعلان “ترامب” عن انسحاب الولايات المتحدة في ديسمبر 2018.

هل تراجع “ترامب” عن قراره؟ هو يرفض أن يقول ذلك، لكنه فعل. كان العنوان الافتتاحي لصحيفة “واشنطن بوست” في 22 فبراير/شباط، دقيقا: “إدارة ترامب تنقلب على خطأ استراتيجي كبير في سوريا”.

سيكون الانقلاب الأمريكي على الانسحاب أقل ضررًا لـ”أردوغان”، إذا ما تطلع إلى مستقبل سوريا مع فلاديمير بوتين وحسن روحاني، شريكي “أستانا” و”سوتشي”. اقترح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في 24 فبراير، أن يتم نشر الشرطة العسكرية الروسية في “منطقة آمنة” مقترحة على طول الحدود السورية مع تركيا، على الرغم من أنه من غير المحتمل أن يتم تنفيذ اقتراحه. وفسرت “رويترز” تصريح “لافروف”، بأنه “من غير المحتمل أن تقبل أنقرة التي تحرص على إقامة المنطقة، لكنها أكدت أنها يجب أن تكون تحت السيطرة التركية، فقط من خلال قواتها المنتشرة هناك… روسيا قالت إن تركيا ليس لديها الحق في إقامة المنطقة دون طلب، والحصول على موافقة من الرئيس السوري بشار الأسد “.

وفي حين اعترف “لافروف” بأن مخاوف تركيا الأمنية مشروعة، لم يخف أن روسيا وتركيا يختلفان حول السياسة تجاه الأكراد السوريين. بالنسبة لـ”أردوغان”، هم إرهابيون مرتبطون بحزب العمال الكردستاني المحظور (PKK)، لكن روسيا وإيران لا يرونهم بهذه الطريقة. يحاول الروس إقناع تركيا بالتسوية مع “الأسد” والاعتراف بحقه في إعادة حكمه على الأراضي السورية التي تحتلها تركيا.

الآن باتت تركيا تحت ضغط بين المطرقة الأمريكية والسندان الروسي في سوريا. وطالما أنها لا تغير هاجسها الكردي -وهو خيار مستحيل تقريباً نظراً للطابع القومي السلطوي لنظام “أردوغان”- فإن مستقبل تركيا في سوريا سيظل غير مؤكد، إن لم يكن قاتماً.

—- 

*جنكيز تشاندار: كاتب عمود في النسخة التركية من موقع “المونيتور”. صحافي منذ عام 1976، وهو مؤلف سبعة كتب باللغة التركية، تتناول بشكل رئيسي قضايا الشرق الأوسط، بما في ذلك الكتاب الذي دخل قائمة الأكثر مبيعا: “قطار الرافدين السريع: رحلة في التاريخ”. وهو حاليا باحث زائر متميز في معهد جامعة “ستوكهولم” للدراسات التركية (SUITS) وزميل مشارك كبير في المعهد السويدي للشؤون الدولية (UI). يمكنكم زيارة حسابه على “تويتر” على الرابط: cengizcandar@

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد