حميد بوزأرسلان
المصدر: مجلة السياسة الخارجية. صادرة بالفرنسية، حزيران 2014.
الأكراد والدول:
بالنسبة للكثيرين الذين كانوا في الماضي يربطون هذه المصطلحات بالمعادلة من أجل الحديث عن علاقات هيمنة وسيطرة وتحد ضمن الفضاء الكردي بالمعنى الواسع، القليل من الباحثين أو المراقبين غامروا باستحضار ومناقشة احتمال بناء الدولة من قبل الأكراد أنفسهم. بالتأكيد، يمكن افتراض هذا الواقع من ناحية نظرية، أو من زاوية رؤية حق الأكراد في تقرير المصير.لكن الخلافات المخفية حول هذا الموضوع كان لديها صعوبات في التمركز والتنظم حول مشاريع ملموسة واقعية.
كيف سيكون هذا التحدي الكردي من أجل التغلب على معارضة أربعة دول شمولية وعسكرية؟أية قوة، كبيرة أو صغيرة، تستطيع المخاطرة في تقويض وزعزعة النظام الدولي المؤسس على تقديس الحدود ومنطق السيادة المطلقة للدول المعترف بها عالميا؟ منذ التدخل الأمريكي في العراق عام 2003، وبشكل خاص الأزمة السورية 2011، فإن مسألة بناء دولة، أو أفضل من ذلك، أكثر من دولة كردية هي مطروحة بشكل مفتوح وعلني باعتبارها مسألة قانون وأيضا مسألة اختيار معقول. السبب الرئيسي الذي يشرح هذا التغير في اللهجة يكمن بالطبع في أزمة الدولة التي أقرت بعد معاهدة “وستفاليا” والتي نراها في الشرق الأوسط منذ الاحتجاجات الثورية في عام 2011. بالتأكيد، هذه ليست المرة الأولى. في الثمانينات، فإن مفهوم” الشرق الأوسط الكبير” الممتد غربا نحو المغرب وشرقا نحو أفغانستان تحت تأثير حروب إقليمية متعددة، وموقف الإسلام المتطرف شبه المتجانس الذي قاد إلى “حالة من العنف” المعمم، أضعف بشكل كبير الدول وموقعها كفاعلة في العلاقات الدولية.من المفترض أن” موقف العنف” قد تم تحويله إلى احتكار للدولة، وأن الحدود أصبحت الأماكن التي تنتج التحريض الشديد عليه، والتفتت الجغرافي أدى إلى ولادة سلطات سياسية جديدة وولاءات ما قبل دولاتية تجذرت مع الوقت، وأن الترحال العسكري على نطاق واسع تحدى المنطق المركزي للعواصم السياسية.
بشكل عميق، إن الأزمة الجديدة للدولة ” الوستفالية” Westphalienفي العشر سنوات الماضية تتعلق بمنطقة ومساحة واسعة، من إفريقيا إلى أفغانستان أو باكستان، مرورا بالعديد من بلدان الشرق الأوسط. السؤال ليس إلى حد اختفاء الدول التي ولدت في القرن العشرين وعدم الاكتفاء بالدولة الإقليمية، أو نموذج الدولة المركزية ـ القائمة، مع فضاءات ما بعد عظمى و/أو ما بعد استعمارية. من سنوات العشرينات من القرن الماضي وحتى عام 2010، لقد استطاع وتمكن نموذج الدولة الوستفالية، ـ في ظل حضور فعال للقوى الأوربية على الأرض، ثم المصادر التي جاءت بها الحرب الباردة إلى مختلف الأنظمة ” المحافظة” أو “الثورية”، وأخيرا الدعم الكامل الذي قدمه “المجتمع الدولي”للسلطات الشمولية الاستبدادية، لكنها قامت بمهمة تحقيق الاستقرار، ـ الحفاظ على حالة الاستقرار والابتعاد عن العنف شبه المتواصل. من استباق وتقييم للمستقبل، علينا الاعتراف أن هذه الأشكال والصيغ السياسية ” حامية الاستقرار” هي من الآن فصاعدا وضعت قيد الاختبار بشكل جدي.
في العديد من الحالات، نشهد انهيارا كليا للدول، أو بشكل أكثر خطورة، تفكك للمجتمعات، كما في سورية، وأيضا في اليمن، العراق وفي ليبيا. في مناطق أخرى، لاسيما في كردستان، نلاحظ ظهور سلطات جديدة ما قبل وطنية، أو من طبيعية عابرة للحدود والتي تتسلم مكان الدول الفاشلة أو ” المنسحبة”. هذه السلطات الجديدة، من غير الاعتراف القانوني أو الدولي، لن تمتلك مصادر تحولها لمركزية أو كيانات سياسية نسميها الدولة، ولن تنخرط في سلسلة سوسيولوجية أو سياسية مع الدول الأخرى. لديها، على وجه الخصوص، خاصتين أو صفتين لأن تكون في نفس الوقت حامية للاستقرار أو منتجة لصراعات، أو يمكن أن يكون لها القدرة على امتلاك كيانات دولاتية وتصل لحد إدارة المجال الاقتصادي من خلال مجموعة من الأجهزة التي تتراوح بين الجهاز الضريبي وتوزيع الموارد. كردستان: من سنوات الثمانينات إلى 2010في سنوات الثمانينات، كان الفضاء الكردي، وهو المسرح منذ عقدين لتعبئة وتجييش سياسي وعسكري، قد أصبح واحد من الميادين الرئيسية لأزمة الدولة الوستفالية، وفي ظروف غاية في الصعوبة. من غير الإلحاح هنا على الخسائر البشرية الناتجة عن ممارسات الدولة في هذه الفترة (حوالي 200000 ضحية، وتدمير الكثير من القرى في العراق وتركيا)، ونتذكر هنا أن الأقاليم الكردية في إيران، العراق وتركيا، كانت مسرحا للنزاعات المسلحة التي ضمت عشرات الآلاف من المقاتلين، منهم العديد من المقاتلين القادمين من أكراد سورية.في حين نظمت تركيا عمليات توغل عسكري في كردستان العراق لملاحقة حزب العمل الكردستاني، كان هذا الأخير، بالإضافة لأكراد إيران، في وسط حرب طويلة ضد بغداد وطهران.
أنتجت هذه العسكرة نتيجتين متناقضتين. الأولى، أنها تسببت في صراعات داخلية بين الأطراف الكردية الرئيسية، الثانية، منحتهم القدرة على الوصول، حتى في ظروف تبعية كاملة، إلى موارد عسكرية وتثبيت نفسها كقوة فاعلة في نظام الصراعات الإقليمية. لم يكن للفاعلين الأكراد قدرة كبيرة للحضور الإقليمي، حيث وجودها العسكري على الأرض لا يزال غير مستقر وغير متواصل، وغالبا ما يقتصر على معسكرات للجيش أو بعض المواقع الاستراتيجية، لم تكن تمتلك نهائيا بنى إدارية أو اقتصادية لسلطة سياسية ولا تمتلك لا الزمان ولا المكان وهما موارد أساسية تمكن أي كيان سياسي من الظهور وضمان البقاء على قيد الحياة.في مواجهة أزمة الدول وتزايد العنف في سنوات 2010، وجد الفاعلون الأكراد أنفسهم في وضع متناقض، معزز من خلال ضعفهم البنيوي. ليسوا أسيادا لنظام إقليمي صراعي، خائفون وغير مستعدين للاندماج فيه.
نفس الشيء، ليس بإمكانهم أخذ أو القيام بفعل فيه تحول كبير يمكن أن يؤثر على الإقليم، في ظروف تبدو فيها سوريا والعراق كدولتين محوريتين في رقعة الشطرنج الشرق أوسطية خلال الثمانينات إلى حد فرض نفسهما كقوى إقليمية، لكن هاتين الدولتين فقدتا اليوم جزءا كبير من القدرة على العمل المستقل. العراق، الذي تم إضعافه بسبب الحرب الأهلية بين 2003 ـ2007، ثم مرحلة جديدة من عسكرة الحركات الدينية الطائفية منذ عام 2011، لقد كان مشلولا ومعرضا للتجزئة، وفي نفس الوقت أصبح دولة تابعة لطهران. نفس الشيء أيضا في سورية، لاعب أساسي في سنوات الثمانينات: وإذا كان نظام بشار الأسد قد أثبت قدرته على عقلنة الموارد التي بحوزته إلى الحد الأقصى، بما في ذلك تدمير المناطق التي اشقت عنه، إلا أن بقاءه يعتمد بدوره على حماية ودعم طهران وحليفها حزب الله. ذهب إضعاف سوريا والعراق جنبا إلى جنب مع تعزيز اثنين من الفاعلين الأخرين، تركيا وإيران، وهما قوتان أساسيتان في النظام الإقليمي ويمتلكان وسائل ضغط كبيرة على الحركات الكردية. في سنوات الثمانينات، ساندت إيران وحليفتها سوريا المعارضة الكردية العراقية. بينما تركيا، المنطوية على موقفها القوي المعادي للأكراد، لم تكتف فقط بمعاداة الأكراد الأتراك بل أيضا الحركة الكردية في كليتها.
في سنوات 2010، طهران كما تركيا، كان لديهما طموح مفتوح تقريبا للهيمنة على الفضاء الكردي في كليته. اعترفت تركيا، وبعيدا عن سياسات الإنكار الكلية في الماضي، بوجود الأكراد وتحاول تدجين الأكراد في العراق الذين يعتمدون اقتصاديا بشكل كبير على تركيا، وأيضا محاولات الهيمنة على الأكراد في سورية وتركيا. مارست إيران، وفق للتطورات السياسية التي يمكن أن تتجه نحو الأفضل أو الأسوأ، ووفق بعض المفاجآت تحت رئيسها حسن روحاني، ضغوطات على أكراد العراق وعلى حزب العمال الكردستاني في عملية من التفاوض من أنقرة، وعلى حلفاء الحزب من “حزب الحياة الحرة” في كردستان إيران وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا. لن يكون من المبالغة القول إن الفضاء الكردي اليوم رهينة في كليته من خلال هاتين القوتين، أما انعدام الأمن فيه هو الشرط نفسه لاندماجه في النظام الإقليمي. إن الآثار المترتبة على هذه الحالة يمكن أن مثيرة. على سبيل المثال، فإن حصارا اقتصاديا من أنقرة ضد كردستان العراق، والذي لا يملك اقتصادا إنتاجيا، سوف يقوده إلى الاختناق خلال فترة قصيرة. أيضا، أية ضغوطات من طهران على العديد من الفاعلين الأكراد العراقيين كالاتحاد الوطني الكردستاني أو ” حركة غوران/التغيير” التي تشكل القوة السياسية الثانية في البلاد، يمكنها أن تحدث تجزئة عسكرية لأكراد العراق، كما حصل خلال الحرب الأهلية 1994 ـ1996.
نفس الشيء، إذا كانت المناطق الكردية السورية قد نجت إلى حد كبير من التدمير الواسع النطاق التي مرت به البلاد خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فإن هذا ينتج عن قرار مشترك بين دمشق والإقليم الإيراني، الذي سبقته هدنة، احترمت بشكل جزئي، تم التفاوض عليها من قبل طهران مع ” حزب الحياة الحرة”. واجهت الحركات الكردية أزمة في سنوات الثمانينات ضمن ظروف من الحرمان الشديد، حتى لوكان لديها مساعدة من هذه أو تلك الدولة الإقليمية. ضمن هذه الفترة، استطاع حزب العمال الكردستاني الحصول على مساعدة سورية وبعض القواعد الخلفية في لبنان، والتي مكنته من إعادة التأهيل قبل شن مقاتليه حرب عصابات في تركيا عام 1984. لكن لابد من التذكر أنه وفي أعقاب الانقلاب العسكري في 12 أيلول 1980، كان كل تعبير يتضمن ” الأكراد هو ممنوع، حيث ” الإرهاب الأبيض” وصل إلى حد تدمير المنظمات الكردية بشكل هائل. نفس الشيء، وعلى الرغم من الدعم العراقي، إلا أن المقاومة الكردية الإيرانية تم كسرها مع نهاية عام 1979. لقد انتهى ذلك العقد بعمليات ” الأنفال” 1988، وهي حملة عسكرية قادت وباستخدامها السلاح الكيميائي، إلى تهجير المنظمات الكردية العراقية لتصبح مجرد حركة في المنفى. إذا كان الفضاء الكردي قد تطور في حالة من التبعية لبعض الدول، إلا أنه وجد نفسه في أزمة عام 2000 في وضعية حقيقية من التمكين. يختلف بشكل كبير عن ذي قبل حيث كان بقايا “لمجتمعات وطنية” عراقية، سورية وتركية، والتي لا تستطيع إنتاج لغة سياسية اندماجية كما كان الحال في احتجاجات اليسار في سنوات 1950 و1960. أبعد من اختفاء هذا الأفق الأكثر شمولا، يجب علينا أن نأخذ علما بالتشعب الحقيقي بين الحقائق والذوات الكردية من جهة وبقية المجتمعات الأخرى من جهة ثانية.
على النقيض من وضعهم السابق، فإن المناخات الجزئية الكردية هي من الآن فصاعدا منفصلة كليا عن السياق العراقي والسوري، ولكن أيضا، إلى حد ما، عن التركي. إن الصراعات التي أدمت البلدين، سوريا والعراق، تم فهمها من قبل الأقاليم الكردية كصراعات خارجية بشكل أساسي، ” بين العرب” وبالتالي لا علاقة لها بالقضية أو المجتمع الكردي. إن تطييف وعسكرة المجتمع السوري والعراقي لا يجد له أية ترجمة في اللغة السياسية الكردية. فإذا كان البرنامج السياسي الكردي توصل لتحليل، مع الكثير من البراعة، التوترات بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي السوري أو صعوبات إعادة تركيب الفضاء السياسي الكردي العراقي الذي يشهد تراجع الاتحاد الوطني الكردستاني، فإن لديه صعوبات في العثور على الكلمات المناسبة فيما يتعلق بالأحداث والظواهر بين الطوائف، السنية ـ الشيعية أو العلوية ـ السنية. في كردستان العراق، لعب الوقت لصالح التمايز عن بقية البلاد: خلال ربع قرن من الحكم الذاتي الذي بدأ في عام 1991، فإن كردستان العراق قطعت الكثير من علاقاتها التبعية تجاه بغداد، بل أكثر من ذلك، حتى مع المجتمع العراقي. المخيال الجمعي والأجيال، الخبرات، المواضيع وخطوط الانقسام السياسي هي جميعها الآن منفصلة بشكل جذري. حتى على مستوى الفضاء الجغرافي نفس الشيء: يتم الترحيب بالعربي الغني لإمضاء وقت في فندق من خمسة نجوم في أربيل أو شقلاوة، ليس نفس الوضع مع عامل يومي، والذي يحتاج لتصريح من أجل عبور الحدود العربية ـ الكردية وهو في الغالب أقل تقديرا من أي عامل يأتي من الفلبين. هذه المعطيات تختلف مع الوضع في ” روج آفا” [في الغرب]، وهو مصطلح يشير إلى كردستان سورية، حيث الانفصال عن بقية المجتمع السوري يعود فقط إلى صيف 2012، لكن عملية التمايز تختلف وهي أسرع، بينما بقية المجتمع السوري هي هدف لتدمير متعمد ومنهجي.
كما هو الحال في كردستان العراق، إن مفهوم الحدود تمت إعادة تعريفه ليشير إلى خط مرسوم بين السوريين وتوقف عن أن يكون مرادفا لخط يعبر عن فصل بين دول تقسم الأكراد أنفسهم. إن إقامة حدود داخلية يعني بالمقابل خطوة باتجاه عملية من الاندماج المتسارع مع الأجزاء الأخرى من كردستان. إن بناء أنقرة لجدار يفصل الحدود الكردية بين تركيا وسوريا لم يكف نهائيا لعرقلة هذه العملية، لإثبات ذلك، كل بيان سياسي مهدد يقوم به مسؤول تركي، يثير ردات فعل واسعة النطاق في جنوب البلاد، كل مواجهة بين “جبهة النصرة”، القريبة من القاعدة والمدعومة من تركيا،و (ب، ي، د) تسبب تعبئة جماهيرية في تركيا نفسها. الوضع مختلف في كردستان تركيا، فالحدود مع كردستان العراق أصبحت أكثر مرونة، حيث لا نعرف ظاهرة الفصل الداخلي مع بقية البلاد. أيضا، نلاحظ فرقا كبيرا بين عمليات التعبئة، التطرف ومحاولات اجتثاث التطرف عند الأكراد والأتراك. على سبيل المثال، لم تشارك الحركة الكردية إلى بشكل ضعيف في الاحتجاجات التي هزت ساحة تقسيم في إسطنبول صيف 2013. إن إرادة عدم تعريض المفاوضات المفتوحة منذ عام 2013 بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني ـ والتي لم تسفر حتى اللحظة عن نتائج ملموسة ولكنها وسعت بشكل كبير حقل الفعل أمام الفاعلين الأكراد ـ ليست العامل الوحيد لهذا الوجل.
خلال سنوات 1990ـ 2000، أصبحت ” الكردنة” المورد الأساسي الذي يسمح باتباع حياة سياسية في كردستان. ليس فقط حزب العمال الكردستاني والحزب من أجل السلام والديمقراطية، يقومان على هذه “الكردنة”، بل البنى الحزبية لحزب العدالة والتنمية، التي قامت في بعض الأماكن على المساواة مع الحركة الكردية، هم أيضا أنفسهم أصابهم التغير نحو الأكراد وأكدوا التزامهم بالأخوة الإسلامية الكردية ـ التركية. نأخذ مثالا واحدا، حزب العدالة والتنمية، الذي يشرعن نفسه من خلال إرادته في الاستعداد لحل القضية الكردية ضمن إطار ما هو معروف بشكل واسع ” بعملية السلام”، يقوم بلصق لافتات انتخابية باللغة الكردية. يمكننا أيضا الإشارة إلى أن أكبر شريحة من حزب اليسار الجديد (حزب الشعب الديمقراطي، يسار ديمقراطي)، والذي يقدم نفسه كحزب تركي، يأتي في الواقع ضمن الطبقة السياسية الكردية.ثلاثة نماذجهذا التمييز بين الذاتيات والأجندات السياسية، والذي يبين حدود القدرة الاندماجية للدول المؤسسة أو المحدثة في القرن العشرين، يذهب مع ثلاثة أنواع من البناء السياسي المستدام. هذه الأنواع تتوافق مع درجات مختلفة من المأسسة وتتقاسم، في النوعين الأولين، كثير من الصفات مع بناء الدولة. ـ إن كردستان العراق، وبعد التمتع بحكم ذاتي واسع منذ عام 1991، تمتلك منذ الاستفتاء العراقي لعام 2005 وضعية اتحادية/فدرالية وتمارس فعليا سيطرة عسكرية على مدينة كركوك وعدة مناطق أخرى متنازع عليها بين بغداد وأربيل وهي خارج حدود الحكومة الكردية الإقليمية. في الواقع، لا تمتلك بغداد سوى سلطة واحدة ذات سيادة: السيطرة على المجال النقدي.بالتأكيد، هذه الرافعة، والتي لها آثار هامة من حيث الميزانية، تسمع لبغداد بممارسة ضغوطات مستمرة على أربيل، ولكن من غير قدرة الحكومة العراقية على التدخل في تعرف الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية للأكراد. نفس الشيء، لا يوجد موطئ قدم عراقي في كردستان على الصعيد المؤسساتي، المدني أو حتى الأمني والعسكري. فالقوات العسكرية الكردية (حوالي 100 ألف شخص ولديها معدات ثقيلة) تسيطر على الحدود الداخلية والخارجية لكردستان، ولكن هم مكلفون أيضا بحماية مدينة كركوك.
وإذا كان الأكراد يشاركون في الانتخابات الوطنية العراقية على المستوى الوطني العراقي، إلا أن الانتخابات الكردية المحلية يتم تنظيمها وفقا لجدول خاص وحكومتهم مشكلة وفق مفاوضات بينهم، أي بين الأكراد. الدبلوماسية هي ميدان آخر حيث يمكننا أن نرى فيه الانفصال الفعلي بين العراق والكيان الكردي. البعثات الكردية في الخارج تعمل كسفارات مستقلة. أخيرا، مما يثير استياء بغداد، أن الأكراد يديرون قطاع الطاقة بأنفسهم، وهذا ما ترجم تدريجيا ببناء خطوط أنابيب مستقلة. وفقا للدستور العراقي لعام 2005، يدعي الأكراد الملكية الحصرية لحقول البترول المكتشفة بعد هذا التاريخ. بالتأكيد هناك ما يشير إلى أن القيادة الكردية سوف تختار في نهاية المطاف إعلان دولة مستقلة، وبالتالي المخاطرة بالإساءة إلى مشاعر أكثر من دولة إقليمية، تظل الحقيقة من جميع وجهات النظر، أن كردستان يمكن تعريفها ضمن حقيقة أنها دولة مستقلة. ـ في حين كانت دمشق تقوم بسياسة قمعية تجاه الأكراد، فإن القليل من السوريين، لا بل القليل من الأكراد، يعرفون مصطلح ” روج آفا” الذي يعني في المخيال التاريخي والجغرافي الكردي ” غرب كردستان”.
هذا المصطلح، من الآن فصاعدا، دخل المفردات الكردية كفضاء سياسي له استقلال كبير. إذا كانت الثورة السورية، في مراحلها الأولى، سورية بالمعنى الواسع للمصطلح، مع ديناميكيات بين طائفية (علوية وسنية) وبين عرقية (عربية كردية)، فإن الحركة الكردية منذ بدايتها خلقت بناها الخاصة قبل الانفصال عن المعارضة العربية إلى حد كبير. كل المؤشرات كانت تقول في البداية أن تنظيم المعارضة الكردية سيلحق النموذج العربي، لاسيما من خلال تشكيل المجلس الوطني الكردي الذي يضم الأحزاب الكردية الرئيسية. من جهة أخرى، كانت نفس الحالة قائمة في البداية، قبل انسحاب القوات السوية من المنطقة الكردية في صيف 2012. هذا الانسحاب جاء قبل كل شيء لاعتبارات استراتيجية: كما يعرف كل مؤرخ للإمبراطورية، دولة محاصرة لا يمكنها السيطرة على جميع أقاليمها وتنتشر استراتيجيا من خلال تعزيز قبضتها على العاصمة والمناطق الآمنة فيها، ضامنة الأمن لكل طرق امدادها. لكن قرار دمشق كان مدفوعا أيضا بواسطة إرادة أو رغبة ردة الصاع إلى تركيا التي تدعم علنا الانشقاق والاحتجاج في الجيش السوري. إن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، الذي يعتبره البعض امتدادا لحزب العمال الكردستاني، والذي لديه ملف سياسي وسيسيولوجي خاص، برز كفاعل رئيسي كردي في هذه العملية.
في وقت قصير، استطاع أن ينشئ قوة عسكرية تقدر بحوالي (30000 شخص) يقاتلون القاعدة بشكل أساسي، وإنشاء مؤسساته الخاصة أيضا. وبعد تشكيل العديد من البلديات التي لديها صلاحيات واسعة وإعداد ” وثيقة تأسيسية” كشكل من أشكال الدستور المؤقت، أيضا تبنى الحزب نظام الكانتونات، حيث الكانتونات الكردية الثلاث في البلاد ممثلة في داخل سلطة تنفيذية مؤقتة. تكمن جاذبية الحزب في بناء سياسي مهيمن، عاطيا، في أحسن الأحوال، اعترافا شكليا للتشكيلات الكردية الأخرى، التي تشكوا أحيانا من الاضطهاد وأنهم ضحية. هذه العملية هي من اعتبارا من الآن تتصف باستقرار حقيقي على المدى الطويل. ـ في تركيا، تم دمج السلطة المركزية كليا باعتبارها فاعلا إداريا، عسكريا وأمنيا يسيطر على الفضاء الكردي، والذي يسيطر على محالات القضاء والتعليم.
تشكل البلديات الكردية (عددها 99 ومنها سبعة مدن “كبرى”) سلطة مضادة حقيقية، وتقوم من الآن بوظائف خارج العمل البلدي وأوسع منه. إذا لم ينجحوا بشكل ملحوظ في بناء ” دولة ـ ضد”، إلا أن [اتحاد المجتمعات الكردية]، وهي بنى أنشأها حزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان، هي أيضا بنى فاعلة. بشكل عام، من الواضح أن حزب العمال الكردستاني أو حزب السلام والديمقراطية قد حلا مكان الدولة كمعيار للثقة، أو الشعور بالحياة السياسية الكردية، وهذا المفارقة، هي كليا بالتشارك مع حكومة أردوغان. على سبيل المثال، بدأت الإضرابات عن الطعام في السجون عام 2012 ولم تتوقف إلا عندما قان البوليس التركي نفسه بنشر رسالة لعبد الله أوجلان يدعو لإنهائها، ومنذ ذلك الوقت، السلام في كردستان ليس مضمونا إلا من خلال عملية تعرف بالسلام، أو بشكل آخر للقول، عملية مفاوضات بين أوجلان والحكومة. اختبار بناء سياسي كرديإن حالة العنف في الثمانينات امتدت لعقد كامل. وبعد ثلاث سنوات من بدء الاضطرابات الكبيرة في الشرق الأوسط، سيكون من الحكمة التحفظ على بعض التنبؤات حول فترة أو مدى هذه الأوضاع الجديدة القائمة على العنف والتي تطبع المنطقة كلها بطابعها. ينتج هذا العنف عن أزمة الدولة الوستفالية كما تم وضعها أو إنشاءها في الشرق الأوسط، والتي وصلت إلى ذروتها. إن رفض الدول الأخذ بالاعتبار للتعددية العرقي والطائفية، وخصوصيات المناخات السياسية والانتماءات والولاءات العابرة للحدود، اعتمادها على أوليغارشيات سياسية، عائلية، طائفية وعسكرية، لم يتوقف نهائيا خلال القرن العشرين عن تغذية موجات من التعسف والعنف.
علينا الاعتراف أن التفتيت الداخلي للدول وتحويل الحدود إلى مسارح لإعادة تركيب الانتماءات ” ما بعد ـ دولاتية” لا يجري في انعدام للوزن السياسي والاجتماعي: كل من الصراعات التي نلاحظها، من ساحل الصحراء الكبرى إلى أفغانستان، لديه تاريخ مكثف لا يمكن إهماله.يبدو هذا من الأمثلة في شمال مالي، ليبيا وسورية بشكل خاص، هذه الأزمة التي تعاني منها الدولة يمكن أن تؤدي لانهيار اجتماعي وسياسي كامل، أو إلى قيام بعض السلطات البديلة عن الدولة. بالمقابل، تستطيع، ـ كما في الحالة الكردية حيث يوجد صراع قومي له خصوصيته التاريخية، وبعض التعاطف الدولي، إقليم عابر للحدود، فاعلون لهم جذور اجتماعية قوية يمكنهم تسلم أو القيام بمهمة الدولة التي أصبحت ضعيفة ومنسحبة ـ، أن تؤدي لولادة بنى سياسية جديدة مثل الدولة.
بالتأكيد، الكيانات الكردية، معزولة وهشة، لا تستطيع المطالبة بالاعتراف الدولي، ولا لعب دور قيادي. هي ليست أقل قابلية للحياة، بفضل الموارد التي تصلهم مع الوقت ـ هذا المصلح أو التعبير استخدم هنا للقول بالحاجة إلى الوقت اللازم لظهور أحيال جديدة ـ، وإنشاء مؤسسات مستدامة، ثم تحويل الفضاء الكردي من قبل سلطات جديدة، مع أو من غير حالة قانونية معترف بها.إن الحالة الكردية في هذا العقد تساهم بشكل متناقض في ظهور العديد من الكيانات الكردية، على حساب كيان واحد كما رغب جيل من الناشطين والمناضلين والمثقفين ما بين عامي 1920 و1930. يضع إرث القضية الكردية في القرن العشرين كل ثقله على التكوينات الحالية في سورية، العراق وتركيا، إرث قام على آمال الوحدة أكثر من التفتت عبر الزمن للفضاء الكردي من قبل دول لاهثة اليوم. إذا كانت القضية الكردية من طبيعة عابرة للحدود خلال القرن العشرين، فإن الفضاء الكردي السياسي لم يتم بناءه من خلال ديناميكيات محلية في علاقة مع سلطة الدولة، ففي تركيا مثلا، هناك أبجدية منفصلة عن أبجديات الأكراد المستخدمة في أماكن أخرى. ضمن هذه المعطيات الرئيسية، علينا إضافة الخبرات التاريخية والموروثات من التاريخ النضالي السابق.
على سبيل المثال، نظام الحزبين، الذي يبدو كشرط لبقاء التجربة الكردية العراقية التي تمثل بهزيمة تمرد مصطفى بارزاني بين عامي 1961 ـ 1975، هذا النظام ليس له ما يعادله في كردستان تركيا وسوريا، حيث التعدد الحزبي واضح وحقيقي، ومع ذلك ليس هذا هو الوقت الذي يعيق حزب العمال الكردستاني أو الاتحاد الديمقراطي الكردستاني عن السيطرة (إن كردستان إيران تميز بخبرة كبير في الثنائية الحزبية بين عامي 1978 ـ 1979، يمكن أن يكون في المستقبل واحدا من هذه التكوينات).يبقى أن نعرف كيف ستنجح الحركة الكردية في التعامل مع هذه التعددية.
إن مخاوف سنوات الثمانينات دفعت المنظمات الكردية للقيام بتحالفات ” ضد ـ الطبيعة”، مع هذه أو تلك الدولة، محدثة قلقا واسع النطاق. إن إلغاء، ثم تأجيل ” المؤتمر الوطني الكردي” الذي يجمع كل المنظمات الكردية الرئيسية، والذي كان مقررا في 2012، يبين أن التوتر الداخلي مازال موجودا. مقارنة بسنوات الثمانينات فإن الحالة الكردية اختلفت كثيرا وأصبح أسهل، بفضل تكوين فضاء سياسي كردي واحد عابر لحدود. بالتأكيد، تضم الحركة الكردية دائما تعددية في الجهات الفاعلة، لكن هناك غياب للمبادرات غير الحزبية منذ ثلاثة عقود، وتتركز الجهات الفاعلة حول بنيتين تنظيميتين: الحكومة الإقليمية في كردستان العراق وحزب العمال الكردستاني. هذان الكيانان العابران للحدود لديهما اعتراف كامل، أو شرعية في المنطقة الكردية برمتها. مطلوب من كل واحد أن يتفهم ويحترم القيود المفروضة على الآخر، بشرط عدم المساومة على مصالح ” الأمة الكردية”. على سبيل المثال، زيارة مسعود البارزاني، رئيس الحكومة الكردية في العراق إلى ديار بكر، حيث التقى مع أردوغان في شهر أيلول 2013، لم تحدث هذه الزيارة ردود فعل كبيرة من قبل حزب العمال الكردستاني، وسيطرة حزب العمال على ” روج آفا” التي تم الاعتراض عليها في البداية، تم الاعتراف بها أخيرا من قبل بارزاني. من تعلم السياسة إلى التمكين العام للمجتمعات الكردية، إلى ضغط الرأي العام الكردي على المستوى الدولي، كثيرة هي العوامل التي توضح هذا النظام التفاوضي، تحكيم الصراعات الداخلية أو اختراع الحلول المتخصصة. إن وجود الفضاء الكردي، لا بل وزنه المتنامي منذ بدايات عام 2000، لا يجعلنا ننسى أن، كما في لبنان والعراق، هناك ثغرة. إنها قدرة الفاعلين الأكراد الأساسيين على الحكم انطلاقا من هذه الثغرة ومن غير الوقوع في الهاوية التي ستشكل امتحان الخبرات الكردية فيما يتعلق بالدولة في هذا العقد.
*ترجمة: د. صلاح نيوف