لينا خطيب ولينا سنجاب | تشاثام هاوس
تطور النزاع في سوريا على مدار السنوات القليلة الماضية ليتحول لصالح نظام “الأسد”. حقق النظام انتصارات عسكرية بينما المجموعات المعارضة، سواء المسلحة أو السياسية، تتراجع وتضعف يوما تلو الآخر. وفي الوقت نفسه، هناك مجموعة من الأطراف المتحالفة مع النظام، بما في ذلك الجماعات شبه العسكرية والمتربحين، حصدوا نفوذا هم أيضا. وقد تسبب هذا الوضع في ظهور عدد من التفسيرات، ليس من بينها جميعا ما يمكنه أن يفسر تعقد ديناميات الوضع على الأرض والعلاقات بين الأطراف المحلية والخارجية المختلفة.
على أحد الطرفين، يُعرف بعض المحللين السوريين هشاشة الدولة على أنها سمة مميزة للنزاع. وهناك باحثين آخرين مثل رايموند هانيبوش الذي يصف سوريا اليوم على أنها “دولة فاشلة”، ويشير إلى صعود تنظيم “داعش” في سوريا والعراق والتدخلات الخارجية، على أنها سبب ونتيجة لفراغ السلطة الذي حدث على الرغم من بقاء “الأسد” رئيسا(1). وعلى الرغم من أن هذه القراءات ترى أن سلوك النظام هو السبب في الثورة السورية، فإنهم يتجنبون إلى حد كبير عزو فشل الدولة تحديدا إلى النظام. وبينما ألصق بعض المحللين بعض المسؤولية على نظام “الأسد”، فإنهم يصفون سوريا بأنها دولة “منكسرة وهشة ومنقسمة”(2). وقد نتج هذا الحكم عن مراقبة كيف أن الأجزاء المختلفة من سوريا باتت تخضع للحكم من قبل الكيانات المتنافسة، بما في ذلك النظام نفسه والقوات الكردية والمجموعات المسلحة المعادية للنظام(3). وفي كل هذه القراءات، النظام ليس سوى مكون واحد لضعف الدولة، وليس المحرك الأساسي لهذا الضعف.
وعلى الطرف الآخر، أدت انتصارات “الأسد” العسكرية إلى حالة من الإدراك لدى بعض الأوساط، بأن النظام السوري “ربح الحرب”(4). وقد رأى البعض في قدرة “الأسد” على المقاومة، دليلا على أن نموذج الدولة الذي وضعه والده حافظ الأسد، هو في الحقيقة “انقلاب كامل”(5). هذا التصور يخلط بشكل غير مباشر النظام بالدولة. وهو يعني أن الطريق الذي تمارس فيه الدولة السلطة في سوريا، بما في ذلك المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، بقي إلى حد كبير كما كان قبل بدء النزاع في عام 2011(6). وهذا يتجاهل الجوانب الهامة لديناميات النزاع. إذا كان يبدو أن “الأسد” يربح الحرب العسكرية، فإن هذا فقط بسبب المساعدة التي قدمتها روسيا وإيران للنظام. وفي الوقت نفسه، فإن الأسس الرئيسية لسيطرة الدولة تراجعت إلى حد كبير.
وفي سياق هذه العوامل المتضاربة لسيطرة الدولة، فإن هذا البحث يسعى إلى استهداف الفجوة في تحليلات الوضع في سوريا: يسعى البحث إلى استكشاف كيف أثر النزاع السوري على وظيفة وقدرة ومهام المؤسسات التي تسيطر عليها الدولة السورية، وكيف أن العداءات غيرت من طبيعة ممارسة الدولة للسلطة. وسواء كانت الدولة تُدار سابقا بما يمكن أن نصفه بمصطلح “الدولة العميقة”، التي تكون فيها المؤسسات المرتبطة بالحكم تسيطر عليها أجهزة الأمن وشبكة من وسطاء السلطة وجماعات المصالح، فإنه من الأفضل وصفها الآن بـ”دولة انتقالية”. هذا التوصيف يستند على التحليلات التي تقول إن سوريا دولة يسيطر عليها النظام قبل 2011، ولكن الآن بات الوضع يتخطى سيطرة هذه الدولة.
تجدر الإشارة إلى أنه من البداية إلى أن هيمنة النظام في الحرب لا تعني أن الدولة ستكون قادرة على الحفاظ على الأمن والاستقرار فور أن تتوقف النزاعات الكبرى (على افتراض أن النظام الحالي سيبقى في السلطة). حتى إذا نجت المؤسسات الرئيسية في الدولة بشكل ما من النزاع، فإن هيمنتها وقدرتها ووظيفتها تغيرت إلى حد كبير. في بعض الحالات، تغيرت بنيتها الهيكلية للتأقلم مع ظروف النزاع. وقد انضمت هذه المؤسسات أيضا، وفي بعض الأحيان تم تقويضها، من قبل أطراف جديدة دخلت المشهد السياسي والأمني كمتربحين من النزاع.
إن المقارنة مع الخبرات التاريخية توضح هذه النقطة. منذ السبعينيات، حين وصل حافظ الأسد إلى السلطة، كانت الأدوات المرتبطة بسيطرة الدولة اسميا تابعة لأجهزة الأمن التي –على الأقل حتى فترة قريبة- وفرت الآلية الرئيسية للسيطرة الحقيقية. وبالمقارنة، كان لدى القضاء والجيش والشرطة والمؤسسات العامة الأخرى سيطرة محدودة نسبيا. ومع ذلك، منذ 2011، تعرضت مركزية الدولة العميقة في السياسات السورية إلى تحديات عديدة.
أدى صعود الأطراف الانتهازية الذين تربطهم علاقات انتقالية مع السلطة إلى جعل الأجهزة الأمنية أقل هيمنة على الوضع، وقللت من سيطرة الدولة المباشرة عفي سوريا. وفي الوقت نفسه، تسبب تصاعد السيطرة الروسية على الدولة والجهود الإيرانية للحصول على المزيد من النفوذ، في تآكل السيادة السورية بشكل أكبر.
يهدف هذا البحث إلى الكشف عن المحركات والديناميات الأساسية لهذا التحول إلى “الدولة التفاعلية”. ويناقش البحث النزاع الذي أضعف الدولة الوحدوية السورية، ويبحث في كيفية عمل وقدرة مختلف عناصر الدولة التي تمزقت بسبب الصراع، مع التركيز بشكل خاص على التغيرات التي أثرت على سلطة ونفوذ الأجهزة الأمنية. إن فهم هذه الديناميات، وكيف تشكلت بسبب الصراع، مهم لأي خطط مقبلة لما بعد انتهاء الصراع بهدف إعادة الإعمار والاستقرار.
في الوقت الذي يبدو فيه أن نظام “الأسد” يقترب من الانتصار العسكري، بدأ صناع السياسة في الغرب السعي إلى الوصول إلى طرق يمكن من خلالها تحقيق الاستقرار لمرحلة ما بعد النزاع في سوريا. تتعقد احتمالات التسوية الدائمة بعدة عوامل. تشير الأدبيات إلى أن التسويات السلمية التفاوضية أكثر نجاحاً في حل الحروب الأهلية، حيث إن السياسة والاقتصاد هما العاملان الرئيسيان. وفي الحالات التي يكون فيها الصراع مدفوعًا بالدرجة الأولى بالعوامل القائمة على الهوية، كانت التسويات التي تم التفاوض عليها أقل فعالية. وعلاوة على ذلك، فإن الانتصارات العسكرية في الحروب الأهلية القائمة على الهوية غالباً ما تتبعها الإبادة الجماعية(7). إن معضلة التسوية المستقرة التي قدمها الصراع السوري، هي أنها لا تقع في أي من الفئتين. لا يقتصر الأمر على كونها أكثر من مجرد حرب أهلية – وبالتالي يمكن أن تكون أوسع للغاية بحيث لا تتناسب مع السرد التحليلي المشترك- بل تتعلق أيضاً بكل من السياسة والهوية. من التعقيدات الإضافية أنه من غير المحتمل أن يكون الانتصار العسكري للنظام مطلقًا. كل هذا يمثل تحديات من حيث الطريقة التي قد يقترب بها الغرب من الصراع في ظل الظروف الحالية. وفي الوقت نفسه، قد توفر السمات المميزة للنزاع فرصًا لحلول السياسة، والتي يسعى هذا البحث لاستكشافها.
هناك اليوم اهتمام سياسي كبير بدور “مساومة النخبة” -كيف يتنافس مختلف أهل النخبة على النفوذ والتفاوض بشأن النفوذ- في تسوية النزاع وتحقيق الاستقرار. وهذا واضح، على سبيل المثال، في تقرير نشرته وحدة تثبيت الاستقرار في وزارة الخارجية والكومنولث في المملكة المتحدة مؤخرا. يقول هذا التقرير إنه من المهم وضع أنماط تطور النخب، والتأثيرات الإقليمية على هذه الأنماطق، والطريقة التي تحول بها الصراعات بنيتهم وعمليات تشكلهم. في حالة سوريا، أدت كل هذه العوامل إلى أثر كبير على الدولة، وتتطلب أن يتم أخذها بالاعتبار بشكل جيد من قبل صناع السياسة الغربيين الذين يهتمون بتحقيق الاستقرار في هذا البلد(8). ومع ذلك، فإن التسوية البراجماتية للأطراف التفاعليين تحمل مخاطر بحد ذاتها: يجب أن يحترس صناع السياسة الغربيين من تعزيز نفوذ المتربحين من الحرب، سواء كانوا أطراف خارجية أو أطراف مرتبطة بالنظام أو أطراف غير شبيهة بالدول.
يستند هذا البحث إلى العمل الميداني في سوريا ومقابلات مع مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة -بما في ذلك الشخصيات المنتسبة للنظام، والجماعات المسلحة والمدنيين- بين بداية الصراع السوري وسبتمبر 2018. وقد تم استكمال العمل الميداني والمقابلات من قبل مصادر ثانوية. من أجل أمان المصادر، أصبحت جميع المقابلات مجهولة المصدر.
—-
لتحميل البحث كاملا بصيغة PDF اضغط هنا
ترجمة: المركز الكردي للدراسات