ستيفن كوك | مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي
تمهيد بقلم ريتشارد ن. هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي
لقد حان الوقت لكي تعيد الولايات المتحدة التفكير في نهجها تجاه تركيا. ما نشهده حاليا هو وفاة تدريجية لكن مستمرة للعلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا. قد تكون “أنقرة” حليفاً بالمعنى الرسمي، لكنها ليست شريكة، كما أنها ليست ديمقراطية حقيقية. وكما يقول ستيفن كوك الباحث الكبير في شؤون الشرق الأوسط وإفريقيا بمشروع إيني إنريكوا ماتي، في هذا التقرير الخاص الجديد لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، فإن الولايات المتحدة وتركيا لا تشتركان في المصالح أو القيم، وتتسم روابطهما بالتناقض وعدم الثقة. على الرغم من أن العلاقة الثنائية كانت دائما لها نصيبها من المحفزات المضادة، إلا أن التهديد الشامل الذي فرضه الاتحاد السوفييتي سمح للدولتين بتجاوز هذه الخلافات. الآن، وبعد ما يقرب من ثلاثين عاما بعد الحرب الباردة، غالبا ما تجد الولايات المتحدة وتركيا أنفسهما على جوانب مختلفة من مجموعة متنوعة من القضايا الهامة.
تركيا ليست بحليف حقيقي، وليست منافسا استراتيجيًا أو عدواً. بدلاً من ذلك، كما يصفها “كوك”، فإن تركيا هي “خصم يعارض زعماؤه الهيمنة الأمريكية.. ويريدون تغيير النظام السياسي الإقليمي الذي يساعد على جعل هيمنة الولايات المتحدة ممكنة”. ويؤكد “كوك” الخلافات العديدة بين الولايات المتحدة وتركيا، على النحو التالي: الولايات المتحدة تعترض على نية تركيا شراء نظام دفاع جوي متقدم من روسيا، واستهداف “أنقرة” لحلفائها الأكراد في سوريا، والجهود التركية لمساعدة إيران على تجنب العقوبات، وسياسات تركيا القمعية المتزايدة في الداخل، وبعض الأمور الأخرى. من جانبهم، يعترض المسؤولون الأتراك على التنسيق الأمريكي مع القوات الكردية السورية التي تخشى تركيا أن تحصل على دولة كردية مستقلة يمكن أن تشمل أجزاء من تركيا الحالية. كما تحتج “أنقرة” أيضاً على وجود رجل دين في الولايات المتحدة تعتقد أنه كان وراء محاولة الانقلاب الأخيرة في 2016، وعقوبات فرضتها الولايات المتحدة ضدها، والتعريفة الأمريكية على الصلب والألومنيوم التركي.
في غياب تهديد مشترك أو هدف استراتيجي مشترك أكبر، من المرجح أن تهيمن قائمة الخلافات هذه على العلاقة. يقول “كوك” إنه يجب اتباع نهج جديد تجاه تركيا، حيث تعارض الولايات المتحدة تركيا مباشرة عندما تعمل “أنقرة” ضد سياسة الولايات المتحدة أو مصالحها. ومن الناحية العملية، فإن هذا يعني تقليل الاعتماد على الوصول إلى المنشآت العسكرية التركية، ما يحرم تركيا من الوصول إلى الأجهزة العسكرية المتقدمة مثل طائرات F-35، والوقوف إلى جانب الأكراد في سوريا في الحرب ضد ما يسمى بـ”داعش”، وانتقاد تركيا علنا عندما يكون هناك ما يبرر ذلك.
في الوقت الذي كتب فيه الرئيس دونالد ترامب أن الإفراج الأخير عن القس الأمريكي الذي اعتقلته تركيا “سيؤدي إلى علاقات جيدة وربما كبيرة بين الولايات المتحدة وتركيا”، فإن هذه الآمال في غير محلها. بدلاً من ذلك، كما يوضح “كوك”، سيكون التعاون بين الدولتين محدودًا ومتوقفًا على ظروف محددة. الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وتركيا باتت شيئا من الماضي، على الأقل طالما أن رجب طيب أردوغان يحكم البلاد. إدراك هذه الحقيقة في “واشنطن” هو أمر ضروري من أجل متابعة علاقة تفاعلية أكثر محدودية من شأنها أن تخدم مصالح الولايات المتحدة بشكل أفضل.
مقدمة
منذ خمسينيات القرن العشرين، اعترف رؤساء الولايات المتحدة بتركيا كحليف مهم. طوال فترة الحرب الباردة، لعب التعاون الأمني بين الولايات المتحدة وتركيا دوراً هاماً في احتواء الاتحاد السوفييتي. على الرغم من الصعوبات التي مرت بها عقود من الشراكة، فإن التهديد الشامل الذي فرضه السوفييت على كلا البلدين كفل أن هذه الأزمات والمشاكل والمحفزات المضادة لم تكسر العلاقة الثنائية أو عضوية منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في تركيا.
يستمر إرث هذه الشراكة في الحرب الباردة في صياغة مناقشات السياسة الأمريكية حول تركيا التي يُشار إليها عادةً على أنها حليف استراتيجي. ومع ذلك، فإن التحالف السابق بين الولايات المتحدة وتركيا لا يعني أنها ستكون شريكة في المستقبل. لقد تغير العالم بشكل كبير منذ انتهاء الحرب الباردة. تتطلب التحولات في السياسة العالمية والأمريكية والتركية على مدى العقود الثلاثة الماضية، إعادة تقييم للعلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا. وبقدر الصعوبة التي أصبحت عليها العلاقات الثنائية تحت حكم الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه “العدالة والتنمية” (AKP)، فإن العديد من المشاكل في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا هي مشاكل هيكلية. لو لم يصل “أردوغان” إلى السلطة، فستظل هناك ضغوط بين “واشنطن” و”أنقرة”. دعم سياسيو المعارضة التركية نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وهم معادون للتعبير عن القومية الكردية، وانضموا إلى حزب العدالة والتنمية في المطالبة بتسليم فتح الله غولن من الولايات المتحدة ، وأذكوا العداء للولايات المتحدة.
على الرغم من أن بعض صناع السياسة الحاليين والسابقين في الولايات المتحدة يواصلون التأكيد على أن تركيا هي شريك استراتيجي ومرساة للاستقرار، فإن الأدلة على هذه الحجج ضعيفة. لا يشترك البلدان في المصالح أو القيم. وقد أوضح المسؤولون في “أنقرة” من خلال خطاباتهم وأفعالهم أن أهداف السياسة الخارجية الأمريكية تتعارض مع مصالح تركيا. كما أن الزعماء الأتراك يرتابون أيضا من الولايات المتحدة، ويلقون بجزء من اللوم بشأن احتجاجات “جيزي بارك” في عام 2013 والانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016، على الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، سعت “أنقرة” إلى تنويع سياستها الخارجية، وإقامة علاقات أقوى مع “موسكو” و”طهران”، فضلاً عن محاولة إصلاح علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي.
من غير المحتمل أن يجد المحللون والمسؤولون الذين يبحثون عن إطار عمل جديد وإيجابي للعلاقات الثنائية ما يبحثون عنه. وبدلاً من ذلك، فإن الافتراض الأساسي الذي يجب أن يرشد “واشنطن” في نهجها تجاه “أنقرة”، هو أنه في حين تبقى تركيا شريكا رسميا لحلف “الناتو”، فإنها ليست شريكة للولايات المتحدة. ترتبط الدولتان ببعضهما البعض من قبل الحرب الباردة، ولكن مع القليل من المصالح المشتركة بعد ثلاثة عقود من انتهاء هذا الصراع، فإن العلاقات الثنائية تتميز بالتناقض وعدم الثقة.
انتهت العلاقة الاستراتيجية بين البلدين، وفي المستقبل، سيكون التعاون بين الدولتين في ظروف محددة. يجب أن ينظر صانعو السياسة إلى تركيا على أنها ليست صديقة للولايات المتحدة ولا عدوًا. في العديد من المناطق، تركيا هي منافس ومناهض للولايات المتحدة. نتيجة لذلك، يجب على المسؤولين الأمريكيين التخلي عن الجهود الدبلوماسية المكثفة التي لا فائدة منها في كثير من الأحيان لإقناع صانعي السياسة الأتراك بدعم الولايات المتحدة. بدلاً من ذلك، لا ينبغي للولايات المتحدة أن تكون مترددة -كما كانت في الماضي- في معارضة تركيا مباشرة عندما تقوض “أنقرة” السياسة الأمريكية. ويعني هذا من الناحية العملية، أنه يجب على الولايات المتحدة تطوير بدائل لقاعدة “إنجيرليك” الجوية، وتعليق مشاركة تركيا في برنامج الطائرات النفاثة F-35، والاستمرار في العمل مع وحدات حماية الشعب (YPG) لتحقيق أهدافها في سوريا.
شراكة مضطربة
لم تكن الشراكة بين الولايات المتحدة وتركيا دافئة أبداً كما يُقال. سحبت إدارة جون ف. كينيدي صواريخ جوبيتر من تركيا بداية من أبريل 1963، وفي رسالة عام 1964 حذر الرئيس ليندون جونسون رئيس الوزراء عصمت إينون، من أي “تدخل أو احتلال” لتركيا في قبرص، وبعد احتلال تركيا لهذا البلد في عام 1974، حظرت الولايات المتحدة السلاح الأمريكي على تركيا، وقد ساهمت المساعدات العسكرية الأمريكية إلى اليونان في كبح جماح طموحات أنقرة في بحر إيجه، وتسببت المناوشات الدبلوماسية العادية بشأن الاعتراف بالإبادة الجماعية عام 1915 في توتر العلاقة. ومع ذلك، فإن التهديد الشامل للاتحاد السوفييتي كفل أن هذه الأزمات والمشاكل والمحفزات المضادة، لم تمزق العلاقات الثنائية. في السنوات الأخيرة، ازدادت التوترات حيث اتبعت كلتا الدولتين سياسات يُنظر إليها على أنها ضارة للآخر. إن المظالم التي يشير إليها الأمريكيون والأتراك ليست أسبابًا لاضطراب العلاقات الأمريكية التركية، وإنما هي أعراض هذه المشكلة.
الشكاوى الأمريكية
قائمة الاختلافات بين الولايات المتحدة وتركيا طويلة وتسلط الضوء على مصالحها المتباينة وسياساتها ووجهات نظرها. أولا وقبل كل شيء، هناك الخلاف بشأن نية “أنقرة” شراء نظام دفاع جوي متقدم S-400 من روسيا. ولأن تركيا سوف تقوم بتشغيل F-35، أحدث طائرة عالية التقنية في المخزون العسكري الأمريكي، وتعتمد على روسيا للصيانة وقطع الغيار لـS-400، فإن “موسكو” ستكون في وضع يمكنها من جمع معلومات قيمة حول كيفية كشف الطائرة. في يوليو 2018، منع “الكونجرس” تسليم الطائرة F-35 حتى تقدم وزارة الدفاع “تقييما لتأثيرات التغير الكبير في مشاركة جمهورية تركيا في برنامج F-35 والخطوات التي ستكون مطلوبة للتخفيف من التأثيرات السلبية لمثل هذا التغيير على الولايات المتحدة وشركاء البرنامج الدوليين الآخرين”. في بيان صحفي ، أوضحت السيناتور الديمقراطية جين شاهين والسيناتور الجمهوري توم تيليس، أن “التغيير الكبير” يعني إلغاء المشاركة التركية من المشروع.
ثانيا، ومن حيث الأهمية، هناك الخلاف حول الجهد التركي لتعقيد القتال ضد “داعش”، ولا سيما من خلال توغل “أنقرة” في شمال سوريا، حيث استهدفت حلفاء “واشنطن” الأكراد في سوريا، ويشمل ذلك غزو تركيا واحتلالها لـ”عفرين” والمنطقة المحيطة بها في محافظة حلب السورية، ما جذب المقاتلين الأكراد المتحالفين مع الولايات المتحدة بعيداً عن القتال ضد “داعش”. في الوقت نفسه، كثفت الحكومة التركية والصحافة الحكومية رسائلها المعادية لأمريكا، بما في ذلك من خلال توجيه التهديدات للجنود والضباط الأمريكيين في سوريا. ثالثًا، أظهر “أردوغان” طوال فترة حكمه، رغبته في تقويض سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران، من خلال المحاولة (مع البرازيل) للتفاوض حول اتفاقية نووية منفصلة مع طهران، ومعارضة عقوبات الأمم المتحدة على ذلك البلد، ثم مساعدة إيران على تجنب تلك العقوبات.
هناك نقطة أخرى في الصراع، هي اعتقال ومحاكمة آندرو برونسون -القس الذي قاد كنيسة إنجيلية صغيرة في إزمير لمدة 24 عامًا- بتهم الإرهاب. رداً على احتجاز “برونسون”، وبعد جهود فاشلة للإفراج عنه، وافقت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في يوليو 2018 بالإجماع، على مشروع قانون “لتقييد القروض من المؤسسات المالية الدولية إلى تركيا حتى تتوقف الحكومة التركية عن الاحتجاز التعسفي لمواطني الولايات المتحدة وموظفي السفارة”. وكان التشريع الذي أصدره مجلس الشيوخ يهدف أيضًا إلى الضغط على “أنقرة” للإفراج عن ما بين 15 إلى 20 مواطنًا تركيًا -بما في ذلك عالم ناسا- بالإضافة إلى ثلاثة موظفين أتراك في السفارة الأمريكية تم القبض عليهم بتهم الإرهاب. بعد بضعة أيام من تصويت اللجنة، فرضت إدارة “ترامب” عقوبات على وزراء العدل التركية والداخلية بسبب دورهم في قضية برونسون. وردت الحكومة التركية بالمثل، مع فرض عقوبات على المدعي العام الأمريكي ووزير الأمن الداخلي.
وباعتراف الرئيس “أردوغان” نفسه ، كان “برونسون” -على الأقل في البداية- محتجزاً كورقة مساومة لتأمين تسليم رجل الدين الذي يعيش في ولاية “بنسلفانيا” فتح الله غولن، الذي تلقي الحكومة التركية باللوم عليه في انقلاب يوليو/تموز الفاشل. هناك سلسلة من المضايقات الأقل علانية والتي لا تزال خطيرة تعقد مصالح الولايات المتحدة، حيث تقوم تركيا بتأسيس وجود عسكري في البحر الأحمر، مما يزيد من التوترات بين مصر وتركيا بالإضافة إلى مصر والسودان. “أنقرة” ساهمت أيضا في المواجهات بين الفلسطينيون والشرطة الإسرائيلية في القدس. وانتهكت تركيا بشكل روتيني المجال الجوي اليوناني، ما يهدد استقرار بحر إيجه. ولا يزال الهجوم على مواطني الولايات المتحدة من قبل فريق “أردوغان” الأمني خارج مقر إقامة السفير التركي في “واشنطن” في 17 مايو 2017، يثير غضب أعضاء “الكونجرس”. وأخيرًا، حتى لو تجاهلت إدارتا دونالد ج. ترامب وباراك أوباما توطيد “أردوغان” سلطاته والقمع المقابل للصحفيين والأكاديميين ومنظمات المجتمع المدني والأقليات، فإن هذه الحملة تتناقض مع قيم ومبادئ وأعراف المجتمع الأمريكي وتتناقض مع المبادئ الأساسية لعضوية تركيا في الناتو.
الشكاوى التركية
لدى المسؤولين الأتراك قائمة خاصة بهم من المظالم ضد الولايات المتحدة. غضب الأتراك عبر التيارات السياسية المختلفة من أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على اثنين من وزراء الحكومة بشأن احتجاز القس برونسون. فرضت إدارة “ترامب” كذلك تعريفة إضافية على الصلب والألومنيوم التركي في أغسطس/آب 2018، بعد أن نكثت الحكومة التركية بصفقة لإطلاق سراح برونسون، وتسببت هذه التعريفة بتسريع عملية هبوط قيمة الليرة التركية، مما دفع الرئيس “أردوغان” إلى إعلان أن الولايات المتحدة انخرطت في “حرب اقتصادية” ضد تركيا. لكن الغضب التركي من سياسة الولايات المتحدة يعود إلى أبعد من صيف عام 2018، حيث يقول الأتراك إن الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 قوض أمن تركيا لأن الاحتلال الذي تلاه تزامن مع انتهاء وقف إطلاق النار الذي أعلنه حزب العمال الكردستاني، الذي يشن حربًا ضد تركيا منذ منتصف الثمانينيات. والأهم من ذلك، هو أن تركيا تخالف رفض إدارة “أوباما” إجراء تغيير في النظام في سوريا، حيث لم يؤد النزاع المدني منذ عام 2011 إلى تدفق اللاجئين إلى تركيا فحسب، بل أثار مخاوف تركيا من ظهور دولة إرهابية على الحدود الجنوبية للبلاد.
منذ أواخر عام 2014، كانت الولايات المتحدة تنسق عسكريا مع وحدات حماية الشعب الكردية وهي قوة كردية سورية مقاتلة، وبدأت بعد ذلك في تزويدها بالأسلحة. وتقول الحكومة التركية بثقة إن وحدات حماية الشعب تعد جزءًا من حزب العمال الكردستاني الذي طالما صنفته الولايات المتحدة جماعة إرهابية. تتحكم وحدات حماية الشعب في الأراضي الرئيسية وحولها المراكز السكانية الكردية في شمال سوريا، وحزب الاتحاد الديمقراطي له هدف معلن هو إقامة دولة كردية. تخشى تركيا من أن يستخدم الإرهابيون مثل هذا الكيان المستقل لشن هجمات على تركيا، ويترتب على تقسيم الأراضي التركية سيناريو كارثي، ستكون الولايات المتحدة مسؤولة عنه من وجهة نظر الحكومة التركية وملايين الأتراك.
أيضا تعول “أنقرة” أهمية كبيرة على مصير فتح الله غولن. تلقي أنقرة باللوم عليه وأتباعه على الانقلاب الفاشل في يوليو/تموز 2016 الذي أودى بحياة 249 شخصاً. هزت محاولة الانقلاب وما بعدها المجتمع التركي. ويعتقد العديد من الأتراك أن أتباع “غولن” هم من الطائفة المتعصبة التي تسللت إلى الدولة التركية من أجل الإطاحة بها. ردا على الانقلاب الفاشل، طلبت السلطات التركية تسليم “غولن” من الولايات المتحدة. حتى الآن، قرر المسؤولون الأمريكيون أن الأدلة المقدمة بشأن تورط “غولن” غير حاسمة، وهكذا لم يتم إجباره على العودة إلى تركيا. بالنسبة للعديد من الأتراك، فإن وجود “غولن” في الولايات المتحدة يعد إهانة، بنفس القدر من الإهانة التي كان سيشعر بها الأمريكيون لو عاش أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة السابق في الريف التركي، ولم يسلمه المسؤولون الأتراك إلى السلطات الأمريكية. ولهذه الأسباب، يعتقد 72% من الأتراك الذين تم استطلاع آرائهم في عام 2017، أن ممارسة الولايات المتحدة نفوذها وتأثيرها في الجوار التركي تضع أمن بلدهم في خطر.
هناك مصدر آخر مهم للتوتر، هو الحكم على محمد هاكان أتيلا بالسجن لمدة شهرين ونصف في السجن الفيدرالي بعد محاكمة عام 2017 في نيويورك. كان “أتيلا” نائبا لمدير عام بنك خلق، وهو بنك تركي تمتلك الحكومة غالبية الأسهم فيه. وكشفت المحاكمة عن جهود “أنقرة” المكثفة لمساعدة طهران على تجنب العقوبات، وبالتالي كشف الفساد على أعلى المستويات في الحكومة التركية، وبالنسبة لزعماء تركيا، كان اعتقال وإدانة “أتيلا” ناتج عن دوافع سياسية.
وأخيراً، تواجه الحكومة التركية انتقادات ببسبب خطتها لشراء الـS-400، حيث إن الولايات المتحدة بدأت تسير قدماً نحو الاستجابة لطلب “أنقرة” شراء نظام مصنّع في الولايات المتحدة.
تعكس الشكاوي الأمريكية والتركية بعضها بعضًا في مجالات مهمة، وتقوض فكرة أن الولايات المتحدة وتركيا تشتركان في المصالح والأهداف. يعتقد المسؤولون الأمريكيون والأتراك أن نظرائهم يدعمون الإرهابيين، ويحرضون على ممارسة السلطة الروسية، ويتبعون سياسات تزعزع استقرار الشرق الأوسط. لم يعد من الممكن التملّص من هذه المشاكل أو شرحها بسهولة لأنه، على عكس العصور السابقة، لم تعد واشنطن وأنقرة تتشاركان في التهديدات أو المصالح الشاملة التي تجمعهما.
أهمية تركيا تتضاءل
بعد الحرب الباردة، تضاءل التهديد المشترك لـ”واشنطن” و”أنقرة”، ولكن الأهمية التي ينسبها صناع القرار الأمريكيين إلى تركيا لم تتضاءل. في تسعينات القرن العشرين، اعتقد المسؤولون والمحللون الأمريكيون أن تركيا في وضع فريد لتوجيه التنمية الاقتصادية وإرساء الديمقراطية في الدول المستقلة حديثًا في آسيا الوسطى. وخلال ذلك الوقت أيضا، أدى تطور العلاقات الأمنية بسرعة مع إسرائيل إلى ظهور فكرة أن الأمريكيين والإسرائيليين والأتراك سيكونون شركاء في أمن واستقرار شرق البحر الأبيض المتوسط والشام. خلال الفترة المبكرة من عهد حزب العدالة والتنمية، دفعت المساعي الحميدة لتركيا مع العرب والإسرائيليين المسؤولين الأمريكيين إلى الاعتقاد بأنها يمكن أن تكون ميسرة للسلام الإقليمي.
لم يمض وقت طويل بعد أن أصبحت كوندوليزا رايس وزيرة للخارجية في أوائل عام 2005، حتى زارت تركيا وأعلنت أن “واشنطن وأنقرة” تتمتعان “بعلاقة استراتيجية مهمة جدا” مبنية على المصالح المشتركة و”النظرة المشتركة للمستقبل” و”القيم المشتركة”. وخلال هذا الوقت، كانت ذروة برنامج الرئيس جورج دبليو بوش للحرية، هي فكرة أن تركيا يمكن أن تكون “نموذجًا” لمجتمع إسلامي متحرر ومتطور، وقد بدأت هذه الفكرة تظهر في كثير من الأحيان في المناقشات والتحليلات السياسية. اختار البيت الأبيض في عهد “أوباما” هذه الفكرة، خاصة بعد الانتفاضات في العالم العربي. على الرغم من حماس مجتمع السياسة الأمريكي، أثبتت تركيا أنها غير قادرة على التأثير في بلدان آسيا الوسطى، ولم تستطع توفير القيادة في الشرق الأوسط، ولا تعمل على تسهيل السلام، ولم تكن نموذجًا للشرق الأوسط. بالغ صانعي السياسات في “واشنطن” وخارجها في تقدير قدرات تركيا؛ وكذلك كان هناك تقليل من أهمية التركات التاريخية للسيطرة العثمانية على المجتمعات العربية، حيث انخفضت تصنيفات أفضلية “أنقرة” بين العامة في المجتمعات العربية بعد عام 2012؛ وكذلك أسيئ فهم السياسة الداخلية التركية والنظرة العالمية لقيادة البلاد. وفي آسيا الوسطى، أثبت موروث الاستعمار السوفييتي والنفوذ السياسي الدائم لموسكو، أنهما عقبة أمام إعادة إحياء الهوية التركية المشتركة المزعومة.
من وجهة نظر واحدة، حقيقة أن تركيا تحتل مركزا جغرافيا بين منطقة هي الأكثر إلحاحا بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية، يجعل تركيا شريكا قيما. يعترف المدافعون عن هذا الرأي بأن أنقرة حليف عنيد، لكنهم مع ذلك يؤكدون أن “أنقرة” مهمة لأهداف “واشنطن” الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
هذه التحليلات لا تضع في اعتبارها العلاقات التجارية المتنامية بين تركيا وإيران، والزيارات الدورية رفيعة المستوى لمسؤولين إيرانيين وأتراك إلى عواصم بعضهم البعض، معتبرين أن العوامل التاريخية والثقافية والجيوستراتيجية ستجعل تركيا على الدوام ثقلاً موازناً هاماً لـ”طهران”. أثبتت تركيا ذلك جزئياً من خلال الاستمرار في استضافة منشأة رادار أمريكية في جنوب شرق تركيا، وهي جزء من جهد غربي واسع لمواجهة تهديدات إيران النووية والصاروخية. تطلب الحصول على الموافقة التركية تدخلاً استثنائياً من قبل الرئيس “أوباما”، ويجب ألا يحجب تركيب الرادار رغبة “أنقرة” الثابتة في إضعاف الضغط الدولي على إيران. في حين خفضت تركيا كمية النفط الإيراني الذي تستورده، أشارت “أنقرة” إلى أنها ستواصل شراء الغاز من إيران بعد 4 نوفمبر 2018، متحدية الجهود الأمريكية لعزل “طهران” بعد انسحاب إدارة “ترامب” من خطة العمل الشاملة المشتركة.
ﯾﻌﺗﻘد ﺑﻌض أﻋﺿﺎء ﻣﺟﺗﻣﻊ اﻟﺳﯾﺎﺳﺎت ﺄن ھﯾﺎﮐل اﻟﺗرﮐﯾز اﻟﻌﺳﮐرﯾﺔ اﻟﮐﺑﯾرة وﻋﺿوﯾﺔ ﺣﻟف ﻧﺎﺗو ھﻲ أﺻول قيمة ﻓﻲ ﻣﻧﺎﻓﺳﺔ اﻟﻘوى اﻟﻌظﻣﯽ، ﮐﻣﺎ ﮐﺎﻧت أﯾﺿﺎ ﺧﻼل اﻟﺣرب اﻟﺑﺎردة. وﻟم ﺗﮐن ھذه اﻟﺣﺟﺔ ﻗﯾد اﻟﺗدﻗﯾق. لقد كانت تركيا شريكًا قديمًا لحلف الناتو في مهمة أفغانستان، ولكن في أماكن أخرى، فإن التزام “أنقرة” بحلف الناتو هو أمر غامض. تقوم تركيا بشراء نظام دفاع جوي من طراز S-400 روسي الصنع، وهو ما يمكن أن يكشف -كما هو واضح- معلومات استخباراتية مهمة حول مقاتلات F-35 للحكومة الروسية. يبدو أن الحكومة التركية لا تعتقد أنها بحاجة إلى الاهتمام بمخاوف الناتو بشأن شرائها معدات عسكرية روسية الصنع أو علاقاتها مع موسكو. بالنسبة للقادة الأتراك، فإن إقامة علاقات أوثق مع “موسكو” معقولة تماما بالنظر إلى الطريقة التي ينظرون بها إلى علاقاتهم مع الغرب: طالما تساءلت تركيا عما إذا كان حلف الناتو سيهب للدفاع عنها، ويُنظر إلى تنسيق الولايات المتحدة مع وحدات حماية الشعب على أنه تهديد وجودي، كما أن الاعتقاد الشائع بأن حلفاء أنقرة كانوا بطيئين في إدانة محاولة الانقلاب في يوليو/تموز 2016، عزز الفكرة في تركيا بأن الولايات المتحدة تسعى إلى تغيير النظام هناك. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أن الولايات المتحدة وتركيا لديهما مخاوف كبيرة من هجوم محتمل للنظام السوري وروسيا على محافظة إدلب السورية، فإن اتفاق نزع السلاح الذي أبرمته أنقرة وموسكو في سبتمبر 2018 يعكس اعتماد تركيا على روسيا للمساعدة في تأمين مصالح أنقرة، وهذا أيضا جزء من استراتيجية روسية أوسع نطاقا لإبعاد الأتراك عن الغرب، وبالتالي إضعاف التحالف عبر الأطلسي. هكذا، من منظور الولايات المتحدة، تجنب الاتفاق هجومًا وكارثة إنسانية محتملة للمدنيين الثلاثة في إدلب -على الأقل مؤقتًا. وفي الوقت نفسه، يوضح التعاون التركي الروسي أيضاً أن أنقرة بعيدة عن إجماع الناتو بشأن التهديد الذي تشكله موسكو على الحلف ومصالحه. من الواضح أن هذه مشكلة بالنسبة للمسؤولين الأمريكيين. في ظل هذه الظروف، ليس من المنطقي بالنسبة لصانعي السياسة في الولايات المتحدة أن يعلنوا أن تركيا شريكًا استراتيجيًا في المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا.
وبدلاً من التحالف الاستراتيجي، يسعى القادة الأتراك إلى وضع إقليمي يسمح لأنقرة بتشكيل البيئة الجيوسياسية المباشرة وتحقيق أقصى قدر من التأثير الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي والعسكري التركي. ولتحقيق هذه الغاية، قاومت بمرور الوقت نظامًا دوليًا يسَّر ممارسة القوة الأمريكية. هذا حق تركيا، لكنه يضع البلاد على الطرف الآخر من الولايات المتحدة في مجموعة متنوعة من القضايا المهمة.
قبل أن تبدأ الحرب الكلامية بين البلدين في صيف عام 2018، لم يفكر واضعو السياسات والمحللون في “واشنطن” أبداً في احتمال عدم رغبة الحكومة التركية والشعب التركي في أن يكونا شريكين استراتيجيين مع الولايات المتحدة. الأتراك مستاؤون من ما يعتقدون أنه معاملة “واشنطن” غير العادلة لبلدهم وتراجعها إلى أساس في خدمة أهداف الولايات المتحدة بدلاً من نظير له مصالحه ووجهات نظره الخاصة. يريد المراقبون الغربيون وضع تركيا في الغرب أو الشرق، لكن الأتراك لا يرون العالم بهذه الطريقة. إنهم يعتبرون تركيا قوة قوية ومستقلة في حد ذاتها، حيث تملي مصالحها الخاصة وليس رغبات الولايات المتحدة وسياستها الخارجية.
النهج التركي الحالي
لقد عمل صناع السياسة الأمريكيون عمومًا على محاولة الحفاظ على العلاقة الإستراتيجية، لكن من المعقول أن نستنتج من تصرفات وخطابات القيادة التركية أن “أنقرة” قد قررت أن الشراكة مع الولايات المتحدة لم تعد في مصلحة تركيا. تثير هذه الظروف تساؤلات حول أفضل نهج أمريكي تجاه تركيا في المستقبل. ليست أنقرة منافسًا استراتيجيًا لواشنطن، نظرًا لأنه ليس لها تأثير إيجابي يذكر في الشرق الأوسط أو أوروبا أو القوقاز أو آسيا الوسطى. وكذلك تركيا ليست عدوا، رغم أنه من الصعب في بعض الأحيان التمييز بين أفعالها وتحركاتها. إنها بالأحرى دولة معارضة يكره زعماؤها الهيمنة الأمريكية، وخاصة في الشرق الأوسط، ويريدون تغيير النظام السياسي الإقليمي الذي يساعد على جعل الهيمنة الأمريكية ممكنة.
لا تزال تركيا مرتبطة رسمياً بالولايات المتحدة والغرب من خلال حلف الناتو، ولا يمكن طردها منه. استمرار ترشيح “أنقرة” للاتحاد الأوروبي، رغم تجميد مفاوضات الانضمام؛ والروابط الاقتصادية للبلد مع أوروبا؛ وتكثيف التعاون الأمني والاستخباراتي مع الولايات المتحدة، كل هذا يشجع المحللين والمسؤولين على التفكير في أن أي تغيير في العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا سيكون كارثيا بالنسبة لـ”واشنطن”.
رداً على تدهور العلاقات، يقترح المدافعون الذين يريدون إنقاذ الشراكة الاستراتيجية، استخدام الدبلوماسية المكثفة مع أنقرة، وينصحون صناع السياسة في الولايات المتحدة بأن ينظروا إلى الاتجاه الآخر عندما يتعلق الأمر بسلوك تركيا السيء بسبب أهمية البلاد. من الناحية الإيجابية، يعتقد هؤلاء المسؤولون والمراقبون أن العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا يمكن “إنقاذها” والعودة إلى العلاقة “العادية” إذا وجد صانعو السياسة التركيبة الصحيحة من الحوافز. لكن الوضع الطبيعي هو صيغة مثالية لما كانت عليه في بعض الأحيان علاقة صعبة ومحبطة حتى أثناء الحرب الباردة. إنقاذ العلاقة يفترض أيضا أن تركيا والولايات المتحدة تشتركان في مجموعة واسعة من المصالح المشتركة. ليس من الواضح أنه حتى مع وجود ما يكفي من التشدد الدبلوماسي، يمكن لـ”واشنطن” إعادة بناء الثقة والعلاقات الاستراتيجية مع أنقرة.
*ستيفن كوك: زميل كبير بمبادرة “إيني إنريكوا ماتي” بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي. متخصص في شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
*هذا المقال هو الجزء الأول من بحث أعده الباحث الأمريكي ستيفن كوك ونُشر للمرة الأولى بموقع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي. للاطلاع على الجزء الثاني: اضغط هنا
ترجمة: المركز الكردي للدراسات