هارييت ألسوب وفلاديمير فان ويلغنبرغ
لسنوات عديدة كان من النادر ظهور الكرد السوريين على وسائل الإعلام، على عكس اخوانهم في تركيا والعراق، وبنسبة قليلة في إيران، ذلك ما أكده البحث الأكاديمي المُخصّص لكُرد سوريا، حيث تعود تلك الثغرة لعوامل عديدة منها الضعف الديموغرافي النسبي، وضعف الوجود المسلح للحركة السياسية في سوريا.
بيد أن الحرب الأهلية في سوريا دفعت حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) إلى تأسيس جناحه العسكري وحدات حماية الشعب (YPG) في عام 2012، وتغيّر وضع كُرد سوريا بشكل كبير أواخر عام 2014، حيث قامت الولايات المتحدة بتقديم الدعم لوحدات حماية الشعب لاستعادة مدينة “كوباني” التي كانت تحت حصار تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، والأهم من ذلك، أنشأت واشنطن بعد بضعة أشهر تحالفاً عسكرياً مع التشكيلات الكردية المُدمجة باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لمحاربة داعش، ووضع حدٍّ لمزاعم هذا التنظيم المتطرف الذي كان ينعت نفسه بأنه يحكم باسم (الخلافة الإسلامية).
إن مشاركة الآلاف من عامّة الكرد من رجال ونساء في النضال ضد داعش، كان ينبع بصورة مباشرة من مقاومة وحدات حماية الشعب ومشروعها السياسي في شمال وشرق سوريا؛ حيث تسترشد “روج آفا” بإدارتها الذاتية الديمقراطية بمبادئ الجمهورية الديمقراطية التي تعزز صلاحيات شاملة للإدارات الذاتية وفق الرؤية التي أعدّها عبد الله أوجالان المسجون في جزيرة إيمرالي في تركيا منذ عشرين عاماً.
عقب هذه التطورات الميدانية، قامت جمعيات حقوق الإنسان ونشطاء العولمة البديلة وحشد كبير من المراقبين والباحثين بتحويل نظرتهم صوب محنة الكرد السوريين، واعتبروا أن الإدارة الذاتية بمثابة مشروع سياسي غير نمطي، بحيث يوافق تطلعات القاعدة الشعبية التي تتضمن النساء وكل المجموعات العرقية والدينية في المنطقة، وقد استطاعت أخيراً إيجاد من يُمثّلها في روج آفا. عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب المفاجئ لقوات الولايات المتحدة من شمال سوريا في تشرين الأول عام 2019، حيث قامت تركيا والميليشيات المعارضة السورية المتشددة التابعة لها، بمهاجمة مقاتلي وحدات حماية الشعب، أدى ذلك إلى موجة من الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي ضد قرار ترامب، حيث تم وضع الكرد السوريين في مركز الاهتمام مرة أخرى ولا سيما من قبل الغرب.
كيف يمكن لواشنطن أن تخون الكرد السوريين بعد أن قاتلوا بكفاءة عالية في الحرب ضد داعش؟ كيف يمكن للرئيس الأمريكي أن يُبرر مثل هذا التحول الدراماتيكي؟ من هم كُرد سوريا؟ وما هي تطلُّعاتهم؟ ما هو المشروع الذي يقوده حزب الاتحاد الديمقراطي الذي ظهر في شمال سوريا أعقاب الثورة السورية في عام 2011؟ ما هي مزاعم تركيا حول حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني؟ ما هي تطلعات الإدارة الذاتية في مواجهة التزايد الإقليمي والضغط الوطني؟ لقد تم نشر كتاب حول الكرد قبل التدخل العسكري التركي الأخير في شرق الفرات (عملية نبع السلام)، إلا أن هذا الكتاب لا يزال يحتفظ بنظرة ثاقبة وموضوعية على الواقع الراهن، حيث يُلقي الكتاب الذي جاء بعنوان “الكرد في شمال سوريا، الحوكمة، والتنوع، والصراع” الضوء على جملة الأسئلة المذكورة اعلاه، وذلك من خلال تقديم تحليل شامل للغة والهوية الكردية السياسية في سوريا، بالإضافة إلى تقييم دقيق لهياكل الحكم شبه المستقلة التي يديرها حزب الاتحاد الديمقراطي. وقد استندت تحليلات مؤلفي الكتاب إلى الأعمال الأكاديمية حول كُرد سوريا، ومراكز الفكر والتقارير الإعلامية، بالإضافة إلى الأبحاث الميدانية التي أُجريت بين عامي 2014 و2018 في أوروبا والشرق الأوسط. يُقدّم ويلغنبرغ مقارنةً منهجيةً بين الكتلتين السياسيتين الكرديتين الرئيسيتين في سوريا، حزب الاتحاد الديمقراطي من جهة والمجلس الوطني الكردي (ENKS) المكوّن من ائتلاف من أربعة عشر حزب سياسي على صلة بالحزب الديمقراطي الكردستاني (PDK)، الذي تأسس عام 1957 من جهة أخرى، حيث يُدقّق ويلغنبرغ في أيديولوجياتهم وأهدافهم والممارسات السياسية وتشكيلات التحالف ويفحص موازين القوة بينهم، هذه المقارنة تسمح للمؤلفين بتفسير تصميماتهم غير المتوافقة ظاهرياً فيما يتعلق بالحكم في روج آفا والهياكل التمثيلية المتوفرة للكرد السوريين، في حين أن الإدارة الذاتية التي تدافع عن الأنظمة التمثيلية ضد مركزية السلطة، بحيث تسعى إلى إنشاء التنظيم الذاتي التشاركي الاجتماعي، بشقيه البرلماني التمثيلي والديمقراطي المباشر، بينما يفضل الحزب الديمقراطي الكردستاني في إقليم كردستان تعزيز قبضة “البرجوازية الديمقراطية”.
يحاول الكتاب بأجزائه التأسيسية، تقديم تحليل شامل للهياكل التنظيمية في روج آفا، استناداً إلى مواقع اجتماعية وسياسية لشرائح مختلفة، وذلك بالاعتماد على المقابلات مع عشرات من مسؤولي حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال شرق سوريا، إضافة إلى التناقضات المرافقة التي تنبثق من مشاريع سياسية بين الحزبين، وأيضاً يتطرّق إلى القيود الإقليمية والدولية التي تواجهها الإدارة الذاتية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي منذ إنشائها عام 2012. ويتطرق ويلغنبرغ إلى فحوى العلاقات الكردية عبر الحدود بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحكومة إقليم كردستان العراق بقيادة عائلة البرزاني، حيث شكلت المنافسة بين المعسكرين لاحتكار القومية الكردية توترات متكررة، زادت من حدّتها إثر تموضعهم مع الحلفاء الإقليميين المعنيين، إذ انقلب حزب الاتحاد الديمقراطي على المحور الإيراني العراقي السوري الروسي، بينما شدد حزب الديمقراطي الكردستاني الذي يدير إقليم كردستان بتقوية علاقاته مع تركيا والولايات المتحدة، لكن هذا الواقع لم يدوم طويلاً، سرعان ما انقلبت المعادلة التقليدية عام 2015 إثر تطوير التعاون بين قوات سوريا الديمقراطية وواشنطن، وأصبحت التحالفات الإقليمية أكثر تعقيداً وغموضاً.
ويفحص الكتاب آفاق مستقبلية للإدارة الذاتية على نطاق واسع فيما يخص مدى تمثيل تطلعات الكرد في سوريا، وقد بدا أن المؤلفين يُحلّلون بالفعل أن توطيد الهوية الكردية والحكم الذاتي للكرد في سوريا لا يمكن إيقافه، إلا أن هذا التحرك نحو كيان سياسي مستقر يمكن أن يتعرض للإعاقة بسبب الخلافات الاجتماعية والسياسية التاريخية التي سبقت إنشاء الإدارة الذاتية، مثل اخفاقات المنظمات والاحزاب الكردية المختلفة العاملة في سوريا. التفكك الإقليمي والسلطة لقد وفّر الفراغ الذي خلقته الحرب السورية فرصة فريدة لصياغة وتنفيذ أشكال الحكم الخارجة عن النماذج التقليدية التي تتحدى المناهج الحديثة تحت إطار الدولة القومية كنموذج عالمي وحتمي في العلاقات الدولية، حيث يشير النظام السياسي للحكم الذاتي الديمقراطي إلى إعادة تأسيس الوضع السياسي للشعب على أساس الحكم الذاتي التشاركي بين المجتمع ومؤسساته “الديمقراطية المباشرة” وليس على أساس علاقات الشعب مع الدولة فقط، في حين تهدف الكونفدرالية الديمقراطية إلى تعزيز القدرات الإدارية المحلية المنظمة على شكل مجالس على المستوى المحلي ابتداءً من الأحياء- القرى والبلدات والمدن والمناطق. بشكلٍ حاسم،
يدعو حزب الاتحاد الديمقراطي أن الكرد وكذلك جميع شعوب الشرق الأوسط يجب أن يتخلوا عن الدولة القومية بصيغتها المركزية المتطرفة، فيكون البديل المقترح هو تشكيل نظام سياسي قادر أن يحتوي التنظيم الذاتي التشاركي وفق التحولات السياسية والادارية على شاكلة الاتحاد الاوروبي ومعايير كوبنهاغن، بينما من الناحية النظرية يجب على الكونفدرالية الديمقراطية إبراز اهتمامات محلية بالأجندة الكردية التقدمية.
يقوم المؤلفون بتحليلٍ وتقديم كل من الجوانب الايجابية والسلبية للحكم في روج آفا، ومعالجة جميع الجوانب المتعلقة بالمشروع الذي يقوده حزب الاتحاد الديمقراطي. حيث أُثيرت انتقادات بين أفراد كرد وأحزاب سياسية معارضة، إن اندماج وحدات حماية الشعب مع قوات سوريا الديمقراطية كانت سبباً للنجاحات العسكرية ومع ذلك حملت في طياته التناقض، حيث كان على قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي أن تخفف من حدّة تطلعات سياسة الهوية القومية الضيقة بغية تجنب معاداة نظرائهم العرب والمسيحيين.
لقد انتقد الكرد وجماعات حقوق الإنسان حزب الاتحاد الديمقراطي وغيرهم، حيث وصفوه بأنه حزب ذو تكتيكات استبدادية، على سبيل المثال عام 2016 حظرت سلطات روج آفا أنشطة المجلس الوطني الكردي في المنطقة وأغلقت مكاتبهم وسجنت المئات من أعضاء المجلس الكردي لفترات قصيرة.
وقد اقترح المؤلفون أنه لا ينبغي لأحد أن ينسى أن الإدارة الذاتية نموذج في التحول وليس مسنود على نموذج جوهري ثابت، أي تتشكل علاقات القوة بين الكرد والتحالفات مع العرب وفق التطورات العملية والميدانية القائمة، وكذلك التطورات الخارجية (تدخُّل تركيا في شمال سوريا) ومعارضة التحالفات الإقليمية مع الولايات المتحدة أو روسيا، فكان لها تأثيراً حاسماً على خيارات حزب الاتحاد الديمقراطي وخياراته النهائية، فقد كان القرار الأخير له هو السماح للمجلس الوطني الكردي بإعادة فتح مكاتبه في شمال سوريا دون طلب إذن من الإدارة الذاتية، حيث أنها فقدت الكثير من المكاسب الإقليمية والسياسية، لذا يضطر حزب الاتحاد الديمقراطي للانخراط والتعاون بشكل جادٍّ مع منافسيها الكرد.
حول النفوذ الأمريكي على قوات سوريا الديمقراطية والتأثير الروسي والإيراني والتركي، مناطق الحدود التركية- السورية إلى خليط من مناطق التأثير، لذا ومع أن الولايات المتحدة ورسيا لا زالتا اللاعبان الرئيسيان في الصراع، إلا أن تركيا تحتفظ بموقع مركزي داخل الأزمة السورية، حيث تشير الخطط التركية في المناطق الحدودية إلى أن تركيا تعتزم الحفاظ على التأثير السياسي والعسكري والثقافي على المنطقة حتى بعد نهاية الحرب، فرُبعُ سكان سوريا تحت سيطرة تركيا بشكل مباشر أو غير مباشر، بما في ذلك 3.6 مليون لاجئ في تركيا، بات واضحاً أن الموقف التركي أصبح بصورة دراماتيكية في شمال سوريا أقوى بين عامي 2017 و2019، إذ فرضت نفسها على أن أي حل في سوريا يشترط بوجوب التنسيق معها.
وقد اعترف المؤلفون بأن تجربة روج آفا وما تنتظرها من التطورات المستقبلية في شمال وشرق سوريا مرهونة بمدى المقاربة التركية، حيث أن روج آفا متعددة الشرائح الاجتماعية والقضايا ذات أبعاد مختلفة، لذا فأن سياسات تركيا تجاه الكرد في سوريا هي سياسات كاملة لا تنفصل عن السياسات التركية الكردية المحلية في الداخل، كما هو الحال بالنسبة للشعب الكردي الذي انقسم ما بين طرفي الحدود بين سوريا وتركيا عقب الحرب العالمية الأولى.
على ضوء ذلك، يلفت الكتاب بأن قلق تركيا بشأن إقليم كردستان العراق منذ التسعينيات يختلف عن قلقها من روج آفا بسبب التقارب الفكري بين وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني، وتبعاً لذلك يقدم الكتاب رؤية تحليلية شاملة لواقع القضية الكردية في تركيا، خاصة بعد عملية السلام الفاشلة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني عام 2015.