جنى جبّور
المواجهة الفرنسية التركية شرقي البحر الأبيض المتوسط، هي تنافس جيوسياسي من أجل كسب القوة التي تتواجد على عدة جبهات منها، ليبيا وسوريا ولبنان، حيث أن رغبة أنقرة بتوسيع هيمنتها وتحقيق طموحاتها في الشرق الأوسط، تختلف عن رغبة فرنسا بالتوسع في البحر المتوسط، والإفصاح عن مصالحها في المنطقة، إذ إنّ اكتشافات فرنسا للغاز في المنطقة، دفعت أنقرة إلى سياسة المواجهة التي بدأت من عَداءِ شخصيٍّ بين ماكرون وأردوغان، إلى تنافس جيوسياسيٍّ كبير، حيث تعمل فرنسا كمُدافعٍ عن النظام الإقليمي القديم، بينما تخلق تركيا بسلوكها الفوضى والعقبات.
المقدمة
في الأشهر الأخيرة، سُلّطَ الضوء على العلاقات التركية الفرنسية بسبب الحرب الكلامية بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، حيث دافع ماكرون عن حملة للدفاع عن القيم العلمانية في فرنسا ضد الإسلام الراديكالي، بعد أن قُطِع رأس مُدرِّسٍ من قبل إرهابي مسلم، وجه أردوغان انتقادات إلى الرئيس الفرنسي لعدم تقبُّله حرية الدين، وقال، إنه بحاجة لفحص صحته العقلية، لذا تمّ اعتبار هذا التلاسن (الشجار) بين الرئيسين هو تنافس جيوسياسيٌّ مستمرٌّ بين باريس وأنقرة التي تلعب دوراً شرقيَّ البحر الأبيض المتوسط، من سوريا ولبنان إلى ليبيا مروراً بقبرص واليونان، هناك مجموعة من القضايا التي أدت إلى الخلاف بين فرنسا وتركيا منها الحقوق البحرية.
يجب تقديم تشخيصٍ دقيق للأزمة الفرنسية التركية كي تكون الجهود المبذولة لوقف التوترات ناجحة، إن المواجهة بينهما هي أولاً وأخيرا تنافسٌ جيوسياسيٌّ على النفوذ في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث تسعى تركيا إلى الصعود كقوّة ناشئة لتحقيق الاستقلال الجيوستراتيجي, وفرنسا غير مرتاحة لإصرار أنقرة المتزايد على التوسع في المنطقة التي تعتبرها جزءً من نفوذها، لقد تفاقمت الأزمة لسببين، الأول، أن الانسحاب النسبيّ للولايات المتحدة من المنطقة أدى إلى فراغٍ في السلطة، وبالتالي ظهور التنافس من أجل كسب النفوذ، حيث تواجه القوى التقليدية القوى الناشئة. الثاني، تلاشي طموح تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعلها أقلّ تعاوناً، وتوجّهت نحو سياسة التعطيل.
مشروع “الوطن الأزرق” في مواجهة تحالف الأمم المتوسطية
إن المشاريع التركية والفرنسية المتنافسة في الشرق تكمُنُ في الخلاف البحري بين جمهورية قبرص والقبارصة الاتراك بشأن رسم الحدود البحرية والمنطقة الاقتصادية, حيث دعمت فرنسا موقف اليونان، ممّا زادَ استياء أنقرة، فعندما بدأت أنقرة عمليات التنقيب شمال شرقي قبرص داخل المياه الإقليمية، اعترض الرئيس الفرنسي على هذا السلوك الغير مقبول من تركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط، ودعا أوروبا لتشكيل جبهة موحدة في مواجهة سلوك تركيا العدواني.
إن الأساس الإيديولوجي لسياسة المواجهة التركية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وجدت في عقيدة الوطن الأزرق التي حدّدها الأدميرال جيم غوردينيز عام 2006، ثم تطورت إلى مستوى عقيدة الدولة من قبل رئيس الأركان السابق في البحرية التركية الأدميرال جهاد ياجي، أي أنّ عقيدة الوطن الأزرق تعني توسُّع تركيا في الحدود البحرية لتشمل مساحة تُقدّر بحوالي 462 ألف متر مربع، وتم تصميم الدفاع عن هذه الحدود المتوقعة من خلال الدبلوماسية القسرية والوسائل العسكرية، وإعادة اعتبار البلاد كقوّةٍ بحرية، هذه العقيدة هي انعكاس للانحراف القومي التركي، حيث بحثت البلاد عن الاستقلالية الجيوستراتيجية وأمن الطاقة من خلال الوصول إلى الموارد الهيدروكربونية.
إن نظرة أنقرة الواسعة للسيادة الوطنية وهيمنتها شرقي البحر الأبيض المتوسط، تتعارض مع رؤية فرنسا للبحر الأبيض المتوسط وتحديد مصالحها في المنطقة، إذ إن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يطمح باستعادة قوة فرنسا وقيادتها للبحر الأبيض المتوسط، فباريس تعتبر هذه المنطقة جزءً من مجال نفوذها التقليدي، ووفقاً للمشاريع التي قام بها أسلافه في منطقة جنوب أوروبا (عملية شيراك برشلونة واتحاد ساركوزي في البحر الأبيض المتوسط)، يرغب ماكرون في إنشاء منطقة نحالف الأمم المتوسطية، وهي منطقة إقليمية.
إن نظام البحر الأبيض المتوسط مبنيٌّ على التعاون السياسي الذي ينجذب حول فلك باريس، حيث يؤكد أحد مساعدي الرئيس ماكرون، أن الأخير يرغب في استعادة فرنسا للقيادة على البحر الأبيض المتوسط لتكون جزءً من إرثه، وكون فرنسا من المدافعين عن أوروبا على أساس التضامن الداخلي بين الدول الأعضاء، قام ماكرون بدعم اليونان وقبرص في نزاعهما مع تركيا بشأن رسم الحدود البحرية، وقامت بإبرام صفقة بيع طائرات “رافال” الفرنسية إلى اليونان، وأيضاً إرسال حاملة طائرات “شارل ديغول” التي تعمل بالطاقة النووية إلى شرقي البحر الأبيض المتوسط، ومشاركتها في التدريبات العسكرية المشتركة مع نيقوسيا وأثينا، وكان هذا أكبر تحدٍّ ظاهريٍّ لموقف تركيا ومصالحها في المنطقة.
اعتبرت باريس أن هذه المبادرات ضرورية لإحباط مشاريع تركيا التوسعية بوصفها أوهام امبرياليّة، لذا فأن المواجهة التركية الفرنسية وصلت إلى نهايتها، أي أن التنافس على السلطة بين قوة تقليدية راسخة في البحر الأبيض المتوسط (فرنسا) وقوّةٍ وسطيّة ناشئة (تركيا)، سيؤدي إلى إطار تحوّل القوة العالمية، وصعود القوة الوسطى التي تُعدّل موقفها اتجاه الوضع السابق من خلال التشكيك في النظام الأوروبي المركزي.
مُسبّب الأزمة
إن رغبة تركيا بالحصول على موارد الهيدروكربونات من خلال العزلة الإقليمية، واعتبار تركيا نفسها قوّة مستقلّة ذاتية وتؤيد العقيدة البحرية التوسعية، وأيضاً اكتشافات الغاز الأخيرة شرقيّ البحر الأبيض المتوسط، دفعت أنقرة إلى سياسة المواجهة، حيث أن الموارد المكتشفة حديثاً أصبحت ذات أولوية جيوسياسية لتركيا للاستفادة من استراتيجية الطاقة، لأن تركيا ذات اقتصاد محدود وتعتمد للوصول إلى ذلك على موارد الطاقة من عدة جهات دولية، مثل روسيا وإيران وأذربيجان، مما أدى إلى تفاقم عجز ميزانية الدولة، فمن خلال التنقيب عن الموارد الهيدروكربونية، تأمل تركيا ببناء قُدرتِها على تأمين الطاقة، فقد كان الهدف الاستراتيجي لتركيا منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هو وضع نفسها كمركز للطاقة في شرق البحر المتوسط، وممراً لتصدير الطاقة إلى الأسواق الأوروبية، لذا فإن تركيا مستاءةٌ من صعوبة تلبية هذه الطموحات، ولفرنسا الدور في ذلك، حيث أن مشروع خط أنابيب البحر المتوسط يمرُّ عبر إسرائيل واليونان وقبرص، واجتمعت كلٌّ من تركيا وإسرائيل ومصر والأردن واليونان وإيطاليا والسلطة الفلسطينية وقبرص في منتدى غاز شرقي المتوسط في شهر كانون الثاني من عام 2020، لكن عُزلت تركيا والقبارصة الأتراك، وكان لفرنسا يدٌ في هذا المنتدى، لأنّ أنقرة تعتقد أن فرنسا تحاول الاصطفاف مع خصوم تركيا الإقليميّين (مصر – اليونان – قبرص) وذلك يؤدّي إلى الدفاع عن المصالح التركية ومواجهة التحالف الناشئ من الخصوم القدامى.
ردّت تركيا على هذا الاستبعاد عن موارد الطاقة والأمن في شرق البحر الأبيض المتوسط، من خلال انتشار متزايد لقوتها ومتابعة سياسة التعطيل من خلال إرسال القوة العسكرية ( سفن الاستكشاف) إلى المناطق المتنازع عليها، وأيضاً اتّباعَ استراتيجيةٍ موازنةٍ الخصوم من خلال بناء تحالفات مضادة ( التقارب من مصر وإسرائيل ولبنان)، حيث أن محاولة أنقرة إصلاح العلاقات مع القاهرة هو للتفاوض على اتفاق لرسم الحدود البحرية، وتوصّلت إلى اتفاق مع اليونان عام 2020، وأيضاً ترى تركيا أنّ لبنان لاعبٌ مهمٌّ في عملية شرق البحر الأبيض المتوسط، وسعت نحو سحب بيروت إلى جانبها للتنافس على الطاقة، من خلال تقديم المساعدة الفنية والخبرات في مفاوضات الحدود البحرية، وحاولت أنقرة دفع السلطات اللبنانية بالتحديد لإعادة التفاوض مع قبرص بشأن بحرهم في عام 2010، للوصول إلى اتفاق من خلال التلميح إلى أن الصفقة غير عادلة، كما أن لبنان قد تصبح أكبر منطقة بحرية حيوية إذا قبلت مساعدة تركيا، وهذا أظهر نوايا أنقرة المزدوجة في إلحاق الضّرر بالخُصوم، من خلال الهجوم على الشركاء المحتملين شرقي البحر الأبيض المتوسط، من خلال تقديم المساعدة باسم التضامن ( الجنوب-الجنوب).
يعتبر التنافس الإقليميّ على السلطة بين تركيا وفرنسا شرقي البحر الأبيض المتوسط، بوابة لمواجهة جيوسياسية بينهما على ثلاث جبهات (ليبيا – سوريا – لبنان).
المأزق الليبي
إن التشابك البحري والخلافات والمواجهة الجيوسياسية والعداء الفرنسي التركي في ليبيا، يُمكن أن يُشكّل خطراً إذا ما انتقلت من حربٍ باردة إلى مواجهة مباشرة، مثل ما حدث في حادثة الفرقاطة الفرنسية والأسطول التركي قَبالة السواحل الليبية في حزيران عام 2020، وكان ذلك أكبر تباعُد للمصالح بين باريس وأنقرة، فهذا الاختلاف تحوّل إلى تنافس طويل الأمد مع تأثيرات غير مباشرة على منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وديناميكيّات الاتحاد الأوروبي، وكذلك النظام الإقليمي في الجوار الجنوبي لأوروبا.
تدخّلت فرنسا في الحرب الأهلية الليبية لتدعم خليفة حفتر، حيث كانت مصالحها تتعارض مع المصالح التركية، فمنذ اندلاع الثورة الليبية، كانت الحكومة الموالية لباريس في ليبيا محوراً للفرنسيين، نظراً لأهمية ليبيا في شمال أفريقيا، وقد حاول الرئيس ماكرون متابعة سياسة النشاط المفرط في ليبيا، منها الحفاظ على نفوذ فرنسا والقيادة في شمال أفريقيا، لأنها تَعتبرها جزءً من مجالها المباشر، وتأمين حصّةٍ من صناعة النفط والغاز الليبي، وتقبُّل انتشار الإسلام بجوار أوروبا الجنوبي، وإحباطَ طموحات تركيا الإقليمية بالانحياز لخصوم أنقرة الإقليميين، وبالتحديد مصر والإمارات العربية المتحدة.
في حين تدخلت تركيا في ليبيا عبر حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج، عندما وجدت تركيا نفسها تُعاني من العزلة الإقليمية، وفشل سياساتها تجاه الثورات العربية، اندفعت إلى التدخل في ليبيا التي اعتبرتها ملعباً لها لتأكيد قيادتها الإقليمية واستعادة نفوذها، واستغلّت الحرب الأهلية الليبية لدفع أجندتها الإسلامية للأمام، من خلال إرسالها جماعات الاخوان المسلمين، واقتصادياً تسعى أنقرة للحصول على عقودٍ مُربحة في البلد الذي مزّقته الحرب، لأنه عندما كانت ليبيا تحت حكم القذافي سيطرت تركيا على قطاع البناء هناك من قبل شركات تابعة لصهر أردوغان (سلجوق بيرقدار)، وهذا الأمر يعتبر من أهم الأسباب التي دفعت تركيا للتدخل في الصراع الليبي (أي للحفاظ على هذه المكتسبات)، والأهم من ذلك، هي تدعيم سياسة أنقرة لأجل مصالح الطاقة في البلاد، من خلال تأمين الوصول إلى النفط والغاز الليبي، واستخدام ليبيا لموازنة خصوم تركيا في نزاعات شرقيّ المتوسط، وعند توقيع مذكرة تفاهمٍ مع حكومة الوفاق الوطني لترسيم الحدود البحرية في المتوسط، طبّقت أنقرة عقيدة الوطن الأزرق، وأظهرت نيّتها في الدفاع عن الحدود البحرية، الاتفاق يرسم حدود تركيا مع ليبيا، ويخلق منطقةً اقتصاديةً ثنائية تمتدُّ من الساحل الجنوبي لتركيا على البحر المتوسط إلى الساحل الشمالي الشرقي لليبيا.
اعتدت تركيا على الجزر اليونانية الرئيسية (رودس وكريت)، لترسيم حدودها البحرية، وأثبتت قُدرتها على الإزعاج وردع الخصوم عن تحدّيها، ووفقاً لمساعد الرئيس الفرنسي ماكرون، فإن تركيا أثبتت أنها مُسبّبٌ رئيسيٌّ للمشاكل وخاصة في المجال المباشر لنفوذ فرنسا، فمن منظور باريس أن تحركات أنقرة الجريئة تلك هي جزء من الاتجاه الجيوسياسي، حيث أن القوة الناشئة مثل تركيا وروسيا تتصرفان بطريقة مُنسّقة للتحدي والالتفاف حول المصالح الغربية والأوروبية، وهنا تكمُن خطورةُ لُعبة تركيا في ليبيا، من خلال محاولات أنقرة تطبيع نمط القوة الناشئة، وتحقيق مصالحها العسكرية والسياسية، وهذه التحركات الاستفزازية والأُحادية تؤدّي إلى قلب موازين القوة لصالح الواقع الجيوسياسي الجديد، الذي لا يُلائم المصالح الغربية، وأيضاً القلقَ الرئيسيَّ لفرنسا هو أن في هذا التنافس الجيوسياسي مع أنقرة التي قامت بأعمال على مستوىً عالٍ يتعذّر على باريس الوصول إليها، مثل حربها في سوريا، حيث حاولت تكرار هذه التجربة في (ليبيا وناغورنو كاراباغ)، من خلال إرسال جماعاتٍ وميليشيات غير حكومية لتعزيز مصالحها وأجندتها السياسية، لذلك تشعر باريس بالقلق من أن ذلك أصبح وسيلةً فعّالةً لتركيا للحفاظ على وجودها على عدّة جبهات، ومضاعفة قوتها في سياسة التعطيل مع تجنُّب الإرهاق العسكري، وهذا سيُعطي ميزةً لأنقرة في التنافس الجيوسياسي على السلطة مع فرنسا، وقد تفاقمت المخاوف الفرنسية بسبب تغيير السلطة في ليبيا لصالح حكومة الوفاق الوطني بعد التدخل التركي في أوائل عام 2020، حيث أثبتت أنقرة أنها يمكن أن تعتمد بشكلٍ فعّال على وُكلاءَ لتغيير الصراعات، وفرض وقائعَ جديدةٍ على الأرض.
الصراع السوري
في الأزمة السورية، ظهرت اختلافات في تصوُّرات التهديد وأزمة الثقة بين أنقرة وباريس، وهذا مصدرٌ رئيسيٌّ آخر للنزاع، ففي حين أن أنقرة تعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردية تهديداً للأمن القومي، تواصلت فرنسا مباشرة مع قوات سوريا الديمقراطية لأنها اعتبرتهم مصدر قوَّة وشريكاً في القتال ضد تنظيم داعش، وأيضاً منظور أنقرة إلى نشاط حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب هو منظور انفصالي وتعتبرهم” إرهابيين” حسب الدعاية التركية، في حين تختلف رؤية فرنسا، بحيث تنظر إلى الكرد بأنهم أمة ولهم الحق في تقرير مصيرهم.
وعليه، وزادت التوترات الفرنسية التركية في سوريا، وأدت إلى أزمة ثقة بين البلدين، فباريس تنظر على تدخل تركيا في سوريا نظرة شكٍّ واشتباهٍ بأن أنقرة تستخدم الأزمة السورية لتوسيع نفوذها في المنطقة، وبحسب أحد كبار الدبلوماسيين الفرنسيين في وزارة الخارجية ” الفوضى في سوريا خلقت الظروف المناسبة للغزو التركي لها وتغيير الديناميكيات لصالح تركيا “.
إن عدم اكتراث فرنسا تجاه المخاوف الأمنية التركية يثير استياءَ أنقرة ويزيد أزمة الثقة بين البلدين، حيث يقول أحد الدبلوماسيين الأتراك “هناك رؤية ثنائية للقضية الكردية، فالبنسبة للرئيس ماكرون ما يحدث بشمال شرق سوريا هو صراع لبلد (تركيا) يطمح للهيمنة الإقليمية من ناحية، ومن ناحية أخرى هو كفاح أقلية كردية من أجل حقوقهم المشروعة، وعندما قامت فرنسا بتقديم الدعم الإيجابي لحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، فسّرته أنقرة على أن باريس انتقائية في تعريف” الإرهاب”، حيث أن أحد مساعدي الرئيس أردوغان قال حينها: “عندما تعرّضت المصالح والأمن الفرنسي إلى تحدٍّ من قبل جماعةٍ مثل داعش مصنفة كجماعة إرهابية، ولكن عندما تعرّض أمن تركيا لتحدٍّ مباشر من جماعات حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، فإن فرنسا لم تعتبرهم إرهابيين، بل تعاونت معهم لأنهم ينسجمون مع مصالحها” مضيفاً:” نشعر أن فرنسا خانتنا، وأن الدعم الفرنسي لحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب يُبيّن أنه عندما يكون للأوروبيين مصلحتهم الخاصّة، فليست لديهم مشكلة في المخاطرة والتضحية بأمن أصدقائهم “.
هذه الرواية ( خيانة الحلفاء) تنتهي بمحاولات تركيا في البحث عن شركاء خارج دوائر الاتحاد الأوروبي ( الناتو)
من غير المرجح أن تتخلّى فرنسا عن الكرد على المدى القصير والمتوسط، من خلال دعم حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، لأن التحرُّك التركيَّ في ليبيا وشرقي المتوسط على الصعيد لسياسي لا يزال متزايداً، لذا تسعى باريس للتأثير على الكُرد لكبحِ جِماحِ طموحات تركيا الإقليمية، فعلى الصعيد الأمني لا يزال عدد من الجهاديين الفرنسيين أسرى لدى قوات سوريا الديمقراطية، لذا تقوم فرنسا بتقديم بعض الالتزام السياسي، وتساند قضية الكرد السوريين على أمل أن يتخلّى الأسرى الفرنسيين عن الفكر الجهادي في حال أُطلقَ سراحهم من السجون التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، لذا فإن علاقة فرنسا مع حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب هو عنصر أساسي في استراتيجيتها بمكافحة الإرهاب، وقد تصادمت مصالح تركيا وفرنسا في سوريا، بالإضافة إلى الخلافات المتعلقة بالقضية الكردية، حيث تحولت سوريا إلى ساحة التنافس الجيوسياسي على السلطة والنفوذ، وتنظر كلٌّ من باريس وأنقرة إلى سوريا على أنها تنتمي إلى مجال نفوذهما.
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ومن باب الدبلوماسية، اشتهرت تركيا بمشاكلها مع دول الجوار باستثناء سوريا التي استغلّتها اقتصادياً وسياسياً أكثر من أيّ دولة عربية أخرى، فمن منظورها بمكانة سوريا المركزية في النظام الإقليمي العربي، اعتبرت دمشق بوابة تركيا إلى المنطقة العربية، وقد سعت تركيا إلى ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية من خلال بناء نفوذها في سوريا، ولا تزال مُصمِّمةً على اتّباع سياسةٍ نشطةٍ للحفاظ على مكانتها كلاعبٍ رئيسيٍّ في المشاركة بتشكيل قوّة البلاد حتى ما بعد الحرب, والأهمُّ من ذلك، فإن أنقرة تعتقد أنه يُمكنها استخدام سوريا كورقة رابحة في المفاوضات حول مستقبل المنطقة, أي ستكون عنصراً مهماً في صفقة كبيرة مع القوة الغربية واللاعبين الإقليميين (روسيا وإيران) بشأن توزيع المناطق في الشرق الأوسط، لذا تقدم فرنسا الدعم للكرد السوريين في محاولة لاستعادة قدمها السياسية في الصراع لتكون قادرة على التأثير من الناحية السياسية حتى ما بعد الصراع القائم، هذا يعني أن التنافس التركي- الفرنسي على سوريا يُمهّد الطريق لمنافسة قوية لفترة طويلة.
تشعر فرنسا بالقلق من أن تركيا تمكّنت من تغيير الوقائع على الأرض من خلال أربعة عمليات عسكرية تركية في شمال شرق سوريا، حيث رسّخت الوجود التركي ما أثار مخاوف فرنسا، علاوة على أن هذه العمليات جنباً إلى جنب مع اتفاقية الحدود البحرية التي تمّ التوصُّل إليها مع حكومة الوفاق الوطني الليبي، سمحت لتركيا بفرض واقع جيوسياسي جديد على الجانب الجنوبي من أوروبا، ونجحت تركيا في توجيه ضربة للنفوذ الغربي أيضاً عندما تحدّت دبلوماسيتهم من خلال المشاركة مع روسيا وإيران في عملية أستانا، كما قامت أنقرة بتحديد قناةٍ دبلوماسية موازية لمنصة جنيف التي يهيمن عليها الغرب.
هل لبنان ساحة المعركة التركية الفرنسية الناشئة؟
بدأ التنافس التركي الفرنسي من جديد في لبنان، حيث كانت القيادة التركية مُحبطةً من دعم الرئيس الفرنسي ماكرون لبيروت خلال زيارته لها بعد الانفجار الذي ضرب المدينة في آب 2020، وشعرت أنقرة بالإهانة عند اكتشاف اهتمام ماكرون بلبنان من جديد لسببين رئيسيين:
أولاً، تعتبر أنقرة لبنانَ جزءً من محيط تأثيرها، أي جزءً من عقيدة العمق الاستراتيجي، واستثمرت قوّتها بكثافة في لبنان على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي إلى أن تمكّنت من أن تصبح لاعباً مؤثراً على الساحة اللبنانية، والراعي للمجتمع السُّنّي في البلاد، لذا ومن منظور أنقرة فإن مبادرة ماكرون للبنان تُعتبر تدخلاً أجنبياً في الفناء الخلفي لتركيا، ما دفع أردوغان لاتّهام ماكرون بالاستعمار، حيث يمارس ماكرون سياسةً امبرياليةً متخفية ليتمكّن من العودة إلى عهد الانتداب (العهد الاستعماري)، ويقوّض سيادة لبنان، وتخشى أنقرة من أنّ المبادرة الفرنسية هي محاولة لتوسيع النفوذ الفرنسي في لبنان على حساب الأتراك.
ثانياً، خشية تركيا من توثيق العلاقات بين باريس وبيروت، حيث ستُمهّد الطريق لاتفاقيات اقتصادية تسمح للشركات الفرنسية باستغلال الموارد الهيدروكربونية في لبنان، وتزايدت هذه المخاوف عندما اقترح ماكرون أن تشارك شركة “توتال” الفرنسية بأنشطة التنقيب عن البترول في لبنان، بالتالي تداخَلَ التنافس الجيوسياسي بين فرنسا وتركيا في لبنان وأيضاً ليبيا مع خلافهم حول قضايا الطاقة.
وفي ردٍّ على التدخل الفرنسي في لبنان، وبعد زيارة ايمانويل ماكرون له، أرسلت تركيا وفداً رسمياًّ رفيع المستوى يضمُّ نائب الرئيس التركي إلى لبنان، أعلن عن مجموعة مساعدات إنسانية لضحايا انفجار بيروت، وعندها استغلّ نائب الرئيس التركي الزيارة واقترح استخدام ميناء مرسين جنوبي تركيا كبديل لميناء بيروت، حيث تسعى تركيا إلى ترسيخ موقعها على خريطة الموانئ شرقي البحر المتوسط، وتنظر فرنسا بِرَيبةٍ كبيرةٍ إلى سياسة أنقرة الاستباقية تجاه لبنان، لذا قامت باريس بإنشاء خلية داخل السفارة الفرنسية في بيروت مهمّتها مراقبة أنشطة تركيا عن كثب، وتتكون الخلية من دبلوماسيين ومراقبين يُمكنهم رؤية النشاطات والمبادرات التركية على الواقع.
الصراع الفرنسي التركي
من نزاعٍ شخصيٍّ موضوعيٍّ إلى منافسةٍ جيوسياسية مُتجذّرة، اعترف دبلوماسيٌّ تركيٌّ رفيعَ المستوى من باريس بـ ” عندما انتُخبَ ماكرون رئيساً لفرنسا، علّق أردوغان عليه آمالاً كبيرة، فقد رأى فيه قائداً شابّاً يفتقر للخبرة السياسية، وهي فرصةٌ لاستغلاله بشكلٍ أفضل وجذب فرنسا إلى جانب تركيا، لكنّ هذه الآمال كانت خُدعةً ضد تركيا ولاسيما شرقي البحر الأبيض المتوسط، حيث تنظر باريس إلى أردوغان على أنه صُداع”.
إنّ سلوك أردوغان الحازم يُظهر أنه تهديدٌ وخطرٌ على فرنسا وأوروبا، وبغضّ النظر عن العداء الشخصيّ بين ماكرون وأردوغان، فأن الخلاف السياسيّ بين باريس وأنقرة يتحوّل تدريجياً إلى تنافس جيوسياسيّ طويل، حيث تعمل فرنسا كحارسٍ ومدافع عن القيادة الأوروبية، خاصّة في شرق البحر المتوسط، أمّا تركيا فتُعتبر قوّةً وسطى صاعدة مُصمّمة على التحدّي.
قال إبراهيم كالين، مستشار أردوغان والمتحدث الرسمي باسمه: ” أثبتنا أنّ النظام العالميّ الليبراليّ ليس ليبرالياً ولا عالمياً، ففي مثل هذه الظروف ظهرت تركيا مُصمّمة على الدفاع عن أهدافها واستقلاليةً جيوستراتيجية، حتى لو كان من جهةٍ واحدةٍ من جانب الأصدقاء”.
على ضوء ذلك، فإن تطبيع العلاقات السياسية الفرنسية هو غير واقعي على المدى القصير، خاصّة أنّ معركة ماكرون ضد أردوغان، هي معركة بين زعيمين يُريدان الوصولَ إلى السلطة قبل الانتخابات في بلدانهم”.