د.محمد مجاهد الزيات
يمكن تفسير تطورات الأزمة بين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، والقوات الأمنية العراقية، وما تلاه من نجاح داعش في السيطرة على الموصل في 11 يونيو 2014، بالنظر إلى التطورات السياسية والأمنية التي شهدها العراق خلال العام الماضى، لاسيما في محافظتي الأنبار والفلوجة.
أسباب الصراع:
عمل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق منذ العام 2003 تحت اسم التوحيد والجهاد، وكان رئيسه أحمد فضيل الخلايله المعروف باسم أبو مصعب الزرقاوى الذي سبق أن ذهب إلى أفغانستان والتقي بأسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، ولكنه اختلف معه حول بعض التوجهات الخاصة بالعمل الجهادي. وتؤكد مصادر استخباراتية متعددة أن أبو مصعب الزرقاوي مؤسس التنظيم، قد تسلل من أفغانستان إلى شمال العراق عبر إيران.
وقد اعتمد التنظيم في بداية نشأته علي فلسطينيين وسوريين، وبدأ العمل في العراق تحت مسمى تنظيم شوري المجاهدين، ثم انضم للتنظيم وأصبح اسمه تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين. وبدأ المتطوعون من جنسيات أخري من آسيا والشيشان وبنجلاديش والهند وباكستان وعدد من الدول العربية ينضمون إليه، وذلك بالإضافة لجهاديين من أوروبا.
وكان المسار الأساسي لانتقال المجاهدين للعراق يتم هي عبر سوريا، لاسيما وأن دخولالعرب لم يكن يحتاج لتأشيرة دخول، وتمركز التنظيم في غرب العراق وبصورة أساسية في ضواحي بغداد وفي محافظتي الأنبار والفلوجة، وفي أجزاء متعددة من محافظتي الموصل وصلاح الدين.
وقد خلق مرور المجاهدين عبر سوريا حالة من التعاون بين التنظيم والعشائر، لاسيما التي تعيش على مناطق الحدود، حيث قامت بإيواء العناصر التي يتم تدريبها ودفعها للعراق وتوفير الحماية لها، وهو ما يفسر ضرب الولايات المتحدة في ذلك الوقت معسكرا تدريبيا علي الحدود مع سوريا دون استئذان سوريا. وبالتالي، أصبحت المنطقة علي جانبي الحدود بين سوريا والعراق تمثل ملاذا آمنا للتنظيم، ويتوافر فيها بنية لوجستية داعمة لنشاطه.
واستثمر التنظيم حينها، مناخ المقاومة الرافض للاحتلال في العراق، خاصة في المناطق السنية في غرب العراق، وتحالف مع مجموعات المقاومة العراقية، واستفاد من دعمها في تأسيس البنية التحتية للتنظيم ونشر شبكة من الخلايا المتدربة من الجهاديين لمحاربة الاحتلال الأمريكي.
وسعى التنظيم في تلك الفترة لأن يكون الإطار الجامع لكل تنظيمات المقاومة في العراق، ونجح في دعم التعاون والإسناد بينه وبين العديد من فصائل المقاومة، فتوفرت له بنية حاضنة قوية، ووفر هو بدوره للمقاومة العراقية في المقابل العناصر المتطوعة للعمليات الانتحارية والتي نقلت المقاومة إلى مستوى آخر أكثر فاعلية، وظل عمل التنظيم متماهيا مع نشاط المقاومة العراقية.
وفي أعقاب معركة الفلوجة الثانية 7 نوفمبر-23 ديسمبر 2004، والتي كان أداؤه فيها أفضل من فصائل المقاومة، نجح في توسيع نطاق سيطرته وفي قيادة المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي، وتوسع في بغداد وصلاح الدين وديالي والموصل وكركوك بعد أن كانت سيطرته قاصرة على الأنبار، وبدأ يحدث تمايز بينه وبين نشاط المقاومة، لاسيما مع اتضاح الاختلاف في أهداف الطرفين.
وفي نهاية عام 2005 أصدر الزرقاوي فتاوى ضد الشيعة، فبدأت الحرب الطائفية في العراق، وشهد عام 2006 مزيدا من التصعيد في العمليات الانتحارية، وقامت عناصر تابعة للتنظيم بعمليات في الأردن استهدفت سفنا أمريكية في العقبة، وكان ذلك بداية تحرك التنظيم خارج حدود العراق، وبدا وكأنه الكيان الجديد المعبر عن تنظيم القاعدة.
ومع إعلان الزرقاوي عن إقامة إمارة إسلامية في العراق بحيث يتولى زعيمها إمارة المسلمين هناك، زاد التباين بين التنظيم وبين فصائل المقاومة العراقية وحدثت صدامات بين الطرفين، خاصة بعد تعيينه أمراء شرعيين لكل محافظة، وهم مجموعة من الشباب محدودي الثقافة والفكر، وتبنوا ثقافة العنف كما لم يراعوا هيبة ولا مكانة رؤساء العشائر، مما دفع العديد من قيادات العشائر لسحب الغطاء والدعم الذي كانت توفره لخلايا التنظيم.
وقد استثمرت الولايات المتحدة هذا الواقع وبدأت تشكل ما يعرف باسم الصحوات، وقد قدمت لها الدعم لمواجهة تنظيم القاعدة، بل إنها في مرحلة ما أخلت قوات الاحتلال من غرب بغداد وبعض أحياء العاصمة لتسهيل حركة عناصر الجيش الإسلامي خلال مواجهته مع القاعدة، وشهد عام 2007 ممارسات حادة للتنظيم مع فصائل المعارضة ومع العشائر، مما حد من نفوذ التنظيم بصورة كبيرة، ونجحت الصحوات في تقليل نفوذ القاعدة.
وعندما انسحبت القوات الأمريكية من العراق نهاية 2011، بدأ رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يعامل مجموعات الصحوات علي أنها مجموعات إرهابية، واضطهدهم ولم يدفع لهم رواتبهم، وأصبحت مجموعات كبيرة منهم علي وفاق مع تنظيم القاعدة. ومع بداية الحرب في سوريا بدأ تنظيم القاعدة في العراق يستغل علاقاته الحدودية، خصوصا مع بعض العشائر للانتشار في دير الزور والرقة، وانتشر كذلك في حمص وريف حماه.
صعود داعش:
حدث خلاف بين جبهة النصرة وتنظيم داعش، فبعدما أصدر أبوبكر البغدادى وهو أمير تنظيم القاعدة في العراق قرار بإنشاء داعش (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام)، رفضت النصرة الاندماج فيه، وأعلن أيمن الظواهري عن أن تنظيم داعش ولايته تقتصر على العراق، أما جبهة النصرة فولايتها في سوريا، وبدأت خلافات التنظيم مع قيادة التنظيم الأم، وهو ما يعد مؤشر على أن التنظيم الأساسي لتنظيم القاعدة غير قادر علي لم شمل التنظيمات الفرعية، فهي لم تعد تمتلك القدرة علي التمويل والتدريب والتوجيه.
ويمكن تفسير دخول قوات داعش للموصل في 11 يونيو 2014، بأنها الأقرب للرقة ودير الزور، وقبل تطور الأحداث، وجه الأكراد تحذيرا للحكومة المركزية بأن هناك تجمعات إرهابية تقترب من الموصل، ولكنها لم تهتم، وقد أكد ذلك أيضاً أسامة النجيفي رئيس البرلمان العراقي.
وقد دخلت القوات التابعة لداعش في ظل الفراغ الذى خلفته القوات الحكومية التي هرب بعضها من الموصل لتجد الأماكن خاوية، كما وجدت القوات العسكرية والأمنية التي كانت أيام صدام وتم تسريحها أن مصالحها تتلاقى مع مجموعات المقاومة المطاردة من قبل رئيس الوزراء نوري المالكي، كما وجدت أن مصالح مجتمعة تتلاقى وتتماشى مع ما تقوم به داعش في مواجهة الحكومة العراقية.
وفي إطار ذلك، شهد العام 2013 تبني حكومة المالكي توجه عدائي ضد السنة ورموزها الكبار، مثل رافع العيساوى وطارق الهاشمى الذي اتهمه بمساعدة القاعدة، وقام بفرض قيادات شيعية في المحافظات السنية وفي قطاعات الجيش والأمن في المحافظات السنية، كما شرع المالكي فى مطاردة بعض الشخصيات السياسية المعتدلة واتهمها بأنها إرهابية، وكان هدف المالكي الرئيسي هو تخويف المكونات السنية من المشاركة في الانتخابات، وبالتالي تقليل وزنها السياسي.
ويمكن القول، أن المالكي يعد هو المسئول الأول عما جرى، حيث أن القوات هربت بشكل مريب في مواجهات الموصل، وأصدر أحكام سريعة ضدهم دون تحقق بشكل يثير الريبة، كما أن دخول داعش الموصل خدم المالكي، فقبل هذه التطورات كانت القضية المثارة هى من سيشكل الحكومة القادمة وذلك فى ظل رفض التكتل السنى للمالكى، كما أن عمار الحكيم وغيره أصروا علي أن يتم ترشيح شخصية بخلاف المالكي لمنصب رئيس الوزراء.وكان من المتوقع في ظل ذلك، أن تتشكل الحكومة الجديدة في غضون سنتين،بينما استغرق تشكيل حكومة المالكي المنتهية ولايتها مدة تسعة أشهر،لاسيما وأن البرلمان الحالي انتهت ولايته، وبالتالي الأزمة السياسية ممتدة.
ولكن بدخول داعش إلى الموصل، بدأ الحديث عن حرب طائفية، وما يدلل على ذلك نداء آية الله علي السيستانى لمواجهة “الإرهابيين وأعداء آل البيت”، وهو تطور طائفي صريح، وكذلك وصول عناصر تنظيم عصائب أهل الحق لبغداد بعد أيام من معركة الموصل، وكذلك عناصر حزب الله العراقي وعناصر منظمة بدر المدربة من الحرس الثورى. كما تزامن مع ذلك أن بدأ الحديث يخفت عن إقالة المالكى وتصاعدت نغمة مواجهة التكفيريين كأولوية من جانب الأحزاب الشيعية التي كانت منافسة له، وتعد تصريحات السيستانى دعما للطائفية، والهدف أن يبقي التحالف الشيعى والأغلبية الشيعية في الحكومة.
وبصفة عامة، لا يعد تنظيم داعش مخيف في العراق، لأن قواته لا تتعدى الألف مقاتل، ويأتي دعمه من جهات مختلفة مثل تبرعات السلفيين في الأردن والسعودية، ومن استيلائه علي أماكن آبار البترول. ولكن المجموعات الغاضبة التي تتحدث عن “ثورة” هي التي تتفاعل وتساند داعش، والخطورة مما يحدث في العراق مرتبكة بأن تنظيم داعش والمساندين له، قد يجدوا فرص لاختراق مناطق قريبة من بغداد، ولذلك بدأ التفتيش علي السلاح في الأحياء السنية مثلما حدث في الأعظمية.
ويعتبر الأكراد المستفيد الأكبر مما يحدث، حيث قامت قوات البيشمركة باستكمال السيطرة علي كركوك ومنطقة الشلالات في الموصل، ثم دخلت محافظة ديالى في مدينتي المقدادية والسعيدية، ولن تخرج منها، وهذه فرصة سانحة لها في ظل عدم وجود قوة مركزية حتى الآن، فهي تسيطر حاليا علي المناطق التي كان متنازعا عليها.
المواقف الإقليمية والدولية:
يمكن تحديد مواقف القوى الإقليمية والدولية من تطور المواجهات بين داعش والقوات العراقية على النحو التالي:
1- توجد تفاهمات أمريكية -إيرانية، ومن المستبعد أن يحدث تدخل أمريكي عسكري في العراق في ظل عدم معرفة من هو الطرف الثاني في هذه الحرب، وفي ظل عدم جدوى ضربات الطائرات بدون طيار، مثلما هو الحال فى اليمن، ومن المتصور إجراء محادثات أمريكية- إيرانية حول إقالة المالكي، ولكن ليس في هذا التوقيت، وسيؤثر ذلك بلا شك علي الأوضاع في سوريا.
2- توجد أطماع لتركيا في الموصل،حيث ترى أن الموصل جزء منها وأنها تاريخيا ملكا لها، فهي تبحث عن مشروع يمتد من الموصل شمال سوريا إلي تركيا لربط الموصل بأراضي تركية، وكان لتركيا خلاف مع الأكراد خاصة حزب العمال الكردي، ولكن في الفترة الأخيرة تبلورت علاقات طيبة، حيث تعتمد تركيا على أكراد العراق لتقليص نفوذ حزب العمال الكردستاني. ويمكن القول أن نجاح الأكراد في العراق قي السيطرة على الأماكن التي دخلوها أثناء أزمة داعش، ستجعل مساومتهم أقوى مع تركيا، ويرتبط ذلك أيضاً بالتقارب التركي -الإيراني.
3- لا يوجد للسعودية دور فيما يحدث، ولكن لإيران دور مهم، وما يدلل على ذلك أنه أثناء الاحتلال الأمريكي وتصاعد المقاومة الإسلامية، كان هناك دعم إيرانى لتنظيمات مرتبطة بالقاعدة خاصة أنصار الإسلام، وكان الهدف هو مقاومة الاحتلال الأمريكى، وما يدلل على ذلك أيضا أن بعض قيادات تنظيمات القاعدة كانت موجودة فى إيران، كما أن أبناء بن لادن كانوا يقيمون في إيران، فالعلاقة قديمة وتستفيد منها طهران للضغط علي دول الخليج، ولتوظيفها في ملفات أخرى.
4- بالنسبة للموقف الأمريكي فهو مرتبك،لأنه كما كان الاحتلال سيء للبلاد فإن القرارات الخاطئة لبريمر كانت سيئة، والرؤية الأمريكية للعراق التي أعلنها بايدن ما زالت قائمة، وهي خاصة بتشكيل الإقليم السنى والإقليم الشيعى والإقليم الكردي وتبقى بغداد مستقلة. ومن الناحية العملية، الإقليم الشيعي شبه موجود وبغداد محاطة بدوائر سنية، وبالتالي فإن إحكام السيطرة عليها في منتهى الصعوبة.
كما أنه لدى الولايات المتحدة قلق من عودة التنظيمات الجهادية للعراق، فهذا سيؤثر علي النفوذ الأمريكي فيه وعلى مستقبل الاتفاقية الأمنية الموقعة مع العراق، وهو ما يجعلها مضطرة للحوار والتقارب مع إيران بخصوص العراق. وقد أكد الرئيس الإيراني حسن روحانى مؤخرا على أنه مستعد للتعاون مع الولايات المتحدة بخصوص العراق، وفي حديث الرئيس الأمريكي مؤخرا، صرح بأن الولايات المتحدة لن تسمح بتفتيت العراق.
تداعيات محتملة:
من المتوقع أن يتأزم الوضع السياسي والأمني في العراق، بحيث يتأخر تشكيل الحكومة العراقية الجديدة على ضوء نتائج انتخابات أبريل 2014، لمدة قد تصل لعامين، مع استمرار ولاية نوري المالكي حتى يتم تشكيلها، وقد تتعثر العملية السياسية لعام علي الأقل في ظل غياب رئيس الجمهورية، ولكن لابد أن يجتمع البرلمان لاختياره، وهذا غير وارد حاليا في ظل عدم حضور الأعضاء وسفر بعضهم للخارج خاصة النواب السنة، ولكن يظل الأكراد هم رمانة الميزان في هذه الأزمة.
ويصاحب ذلك تدهور الوضع الأمني في العراق، خاصة مع احتمال أن تنقل داعش عملياتها قرب الأماكن الشيعية، مع احتمال تسلل عناصر إرهابية عبر الحدود إلى السعودية والأردن، بحيث تتنامي ظاهرة الجهاد في دائرة قريبة من الخليج، مع احتمال انخراط بعض أبناء المنطقة في العملية الجهادية في العراق.
ومن المتوقع أيضا، حدوث تفاهمات إضافية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وتبلور مظاهر تنسيق أمني بينهما، تستفيد منه إيران فيما يتعلق بترتيبات الأمن الإقليمي.
خلاصة القول، كشف تنظيم داعش عن حجم الأزمة السياسية التي يعيشها العراق والديمقراطية الزائفة التي بشر بها الاحتلال الأمريكي، كما كشف وبصورة عميقة عن تجذر العامل الطائفي، ونتيجة لكون تنظيم داعش هو أكثر الجماعات المسلحة تنظيماً، فإن الجميع يرجع التطورات الأخيرة في العراق إليه، رغم أن عدد مسلحيه لا يتجاوز ثلاثة آلاف مسلح، ويتركزون في الأنبار والموصل، بينما تتحرك مجموعات مسلحة أخرى في مناطق مختلفة من محافظات صلاح الدين وديالي وفي مناطق قريبة من بغداد، وهو ما يعني أن التنظيم لا يتحرك على اتساع العراق ولكن كتائب المعارضة السابقة.
كما أن الدعوات للحشد الطائفي تدفع إلى تكوين مجموعات مسلحة جديدة لمواجهة هذا الحشد، ولعله من الملفت أن ينادي رئيس الحكومة بـ”عسكرة” الشارع العراقي وتوفير المناخ لتصعيد الحرب الطائفية التي لن تقف داخل حدود العراق، كما لا تزال بعض المرجعيات الدينية الشيعية تغذي هذه النداءات وتدعمها دون الالتفاف إلى مخاطرها والتي لن تقف عند حدود العراق.
*رئيس المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط