الشراكة العسكرية الاستراتيجية الروسية ـ السورية.. “قاعدة” طرطوس

د. صلاح نيوف

ركزت روسيا وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي على علاقاتها مع الجمهوريات السوفييتية السابقة. في نفس الوقت، استمرت في الحفاظ على علاقاتها ومصالحها مع الدول العربية والإسلامية، وقد أعلنت موسكو رغبتها بشكل دائم في الحفاظ على علاقات جيدة مع الدول العربية/الإسلامية ذات الثقل في الشرق الأوسط. أما الوصول إلى منفذ استراتيجي على البحر الأبيض المتوسط فقد كان من الانشغالات ذات الأولوية في الاستراتيجية الروسية. هذا المنفذ، بالإضافة إلى أنه يفتح الطريق إلى المحيط العالمي، فهو يؤمن حماية الامتداد الجغرافي الجنوبي الروسي، لا سيما أن لروسيا رؤية وفهم للاستراتيجيات الغربية في محاولة تطويقها بشكل مباشر أو عبر حلفاء الولايات المتحدة.

أن تجد موسكو حلفاء لها في الشرق الأوسط فهذا يساعدها على تجنب هذا التطويق، ومن جهة أخرى يجب ألا تعاني روسيا من صعوبات كبيرة في هذا الشأن باعتبارها لم تغزو في أي يوم البلدان العربية. تمثل سوريا، من بين جميع الدول العربية، الدولة الأكثر استقلالا تجاه العالم الغربي، بالمقابل كان لها علاقات قوية مع موسكو، علاقات كانت بشكل دائم ذات طابع سياسي واستراتيجي. بعد التقرب الروسي تقريبا من جميع دول منطقة الشرق الأوسط، ضعفت العلاقات الروسية ـ السورية ولم تعد سوريا تمتلك نفس الأهمية بالنسبة للكرملين. عندما انتظر المجتمع الدولي حتى عام 1946 للاعتراف باستقلال سوريا، كانت موسكو قد اعترفت به منذ عام 1944. طوّر البلدان بين عامي 1950 و1980 علاقات ثنائية في العديد من المجالات. ويقول المؤرخ الأمريكي [ولتر لاكور] في كتابه The Struggle for the Middle East: The soviet union in the Mediterranean 1958-1968، ” كانت سورية اختيارا واعدا بالنسبة للاتحاد السوفييتي أكثر من مصر لأسباب تتعلق بالاستثمارات السوفييتية الضخمة ومن أجل تجسيد واجهة سياسة فيها جميع المميزات التي تحصل عليها موسكو”.

وقد ازدهرت العلاقات بين موسكو ودمشق بعد قطيعة أنور السادات مع الكتلة السوفيتية وتحالفه مع الولايات المتحدة في السبعينات. لكن وفي نفس الفترة الزمنية لم تكن موسكو جاهزة لدعم دمشق بنفس المستوى الذي تقدمه واشنطن لتل أبيب. تراجعت العلاقات السورية ـ السوفييتية في بداية الثمانينات، أما البيرستروكيا التي أطلقها ميخائيل غورباتشوف فقد أدت لتغير راديكالي في العلاقات بين الدولتين. تم تخفيض تسليم الأسلحة إلى دمشق بشكل كبير، وفي نفس الوقت زاد التقارب الروسي ـ الإسرائيلي وشكلت هجرت اليهود الروس إلى إسرائيل أساسا قويا للشراكة بينهما. وقد تبخرت أسس العلاقات القائمة على الإيديولوجية بشكل نهائي، وكان على روسيا أن تنطلق من الصفر لإعادة بناء سياساتها في الشرق الأوسط بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

 لم تكن عودة روسيا إلى المجتمع الدولي الذي تتسيده الولايات المتحدة عودة سهلة، حيث رأت واشنطن أن روسيا بلدا “ليس عاديا”، ويعود ذلك لعوامل عديدة: ماضيها السوفييتي، النزاعات داخلها وفي جوارها، ترسانتها النووية وامتدادها الإقليمي، كلها عوامل صعبّت اندماجها بين الدول الغربية وجعلته مستحيلا. جاء توسيع حلف الناتو في عام 1999 ثم في عام 2004 ليزيد من تعقيد العلاقات الروسية ـ الغربية، حيث بدأت موسكو تشعر بالتهديدات الجيوسياسية من قبل الجمهوريات السوفييتية السابقة. بعد وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة في روسيا، ولا سيما، أيضا، بعد الحرب الأمريكية على العراق، أصبحت الدبلوماسية الروسية تجاه البلدان العربية والشرق أوسطية أداة من المقام الأول لحماية الأمن الروسي والمشاركة في تطورها الاقتصادي. لقد تجاوزت علاقة روسيا مع دول أخرى في الشرق الأوسط العلاقة مع سوريا، رغم أن العلاقة مع هذه الأخيرة هي علاقة أساسية وذات أولوية. لا يمكن عد سوريا من بين الدول الأكثر تأثيرا وازدهارا في الإقليم خلال العقد الأخير.

ففي هذه العقد بحثت روسيا عن تطوير علاقاتها مع العربية السعودية، دول الخليج، اليمن، الأردن، لبنان وإسرائيل، تركيا وإيران. في نفس الوقت، وكما يقول [ريفلان] في كتابه The Russian Economy and Arms Exports to the Middle East “زاد تركيز السياسة الروسية على المصالح التجارية وأصبحت الاعتبارات السياسية والاستراتيجية أقل أهمية وهي في الواقع الاعتبارات التي تأسست عليها العلاقات السورية ـ الروسية”. اليوم، تجاوزت الاتفاقيات التجارية الروسية مع دول الشرق الأوسط، لا سيما تركيا وإسرائيل، وبشكل كبير الاتفاقيات الموقعة مع سورية. ظلت التبادلات التجارية متواضعة جدا بين دمشق وموسكو وذلك حتى عام 2004، حيث وصلت قيمة التبادل إلى 218 مليون دولار، منها 206 مليون دولار صادرات روسية. حصل تغير وبُعد جديد في التبادل التجاري بين عامي 2004 و2008، وفي تشرين الثاني 2009، أطلقت الشركة الروسية ” سترويوترنسغاز” مشروعا كبيرا في سورية كان الأكبر منذ العهد السوفييتي، وهو عبار عن مصنع قرب مدينة حمص. كان على هذا المصنع توفير 50% من الطلب السوري على الغاز من أجل الصناعة الكهربائية السورية. تطورت العلاقات التجارية بشكل متسارع بين عامي 2005 و2008 حيث وصل التبادل التجاري إلى 2 مليار دولار، تراجع هذا الرقم إلى 1،9 مليار عام 2009 بعد الأزمة المالية العالمية.  الدبلوماسية البحرية الروسيةازدادت النشاطات البحرية الروسية في عام 2012 في الجزء الشرقي من البحر المتوسط، نشاطات تجسد الدعم العلني من قبل روسيا لحليفها السوري ووضع الضوء من جديد على مصالح روسيا في البحر المتوسط والشرق الأوسط. تبين هذه الدبلوماسية البحرية الأهمية التي يعطيها الكرملين للشراكة الاستراتيجية مع دمشق وأيضا تحذير الغرب من محاولة تطبيق السيناريو الليبي في سوريا. يتصف التعاون العسكري والتكنولوجي السوري ـ الروسي، بشكل خاص، من خلال جانبه البحري والذي تشكل نقطة الدعم اللوجستي في طرطوس إحدى أركانه الأساسية. يشارك هذا الميناء السوري في بناء النفوذ الروسي في الشرق الأوسط ويجد مكانه في برنامج تحديث القوات البحرية الذي بدأت روسيا بتنفيذه.

لقد بينت الأحداث التي تجري في سورية منذ عام 2011 مرة أخرى مصالح موسكو في البحر المتوسط. هذه المصالح ليست وليدة اليوم وليست بدعة روسية جديدة، حيث تعود إلى العصر الإمبراطوري الروسي وسعي القياصرة إلى الوصول لبحار خالية من الجليد. منذ كاترين الثانية، والتي جلبت لروسيا ” نافذة على البحر المتوسط” من خلال إنشاء [سيباستوبول] عام 1783 في جنوب شرق شبه جزيرة القرم، إلى المباني التابعة للأسطول الخامس السوفييتي العملياتي، والذي يجوب مياه المتوسط منذ عام 1970، سعى الكرملين بشكل مستمر لإدامة وجوده في حوض البحر المتوسط. سمحت له الأداة البحرية بالترويج لذلك، وإذا لزم الأمر، لحماية مصالحه في الإقليم. حاليا، يستند الوجود البحري في المقام الأول على التعاون العسكري والعسكري/التقني الروسي ـ السوري، والذي يشكل عماد النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. منذ بداية الأزمة السورية، ازداد النشاط البحري الروسي في البحر المتوسط بشكل عام ووصل إلى ذروته في كانون الثاني 2013 مع التدريبات الأكثر أهمية من أي وقت مضى من قبل روسيا في هذا الإقليم. تدريبات البحرية الروسية على السواحل السورية، وفق وكالة نوفوستي، تألفت من اسطول الشمال وبحر البلطيق والبحر الأسود والمحيط الهادئ بما في ذلك محاكاة الإنزال على السواحل السورية. جرت التدريبات بين 19 و29 كانون الثاني 2013، شاركت فيها حوالي عشرين قطعة بحرية وثلاث غواصات بما في ذلك النووية. حشدت موسكو وجيّشت الأداة البحرية من أجل تجسيد وجودها في البحر المتوسط.

منذ عام 2008، هناك مجموعات قتالية جوية ـ بحرية يتم إيفادها للتدرب على حاملة طائراتها الوحيدة ” الأميرال كوزنيتسوف”. ترتبط هذه الحاملة مع اسطول الشمال ومقرها في سيفيرومورسك، وقد ذهبت مرات عديدة إلى البحر المتوسط منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. خلال عام 2012، عملت العديد من القطع العسكرية البحرية الروسية على وجود لها في الجزء الشرقي من البحر المتوسط، قطع وصلت من موانئ الشمال، بحر البلطيق والبحر الأسود، وقد نظّمت تدريبات مشتركة فيما بينها في شهر تموز 2012. يبدو أن للوجود البحري الروسي أهمية بالغة في دعم الموقف الروسي من الملف السوري، دعم لا يتوقف على موقف مؤقت تجاه دمشق، بل هو تجسيد لعقود من التعاون وعنصر دافع للعلاقات الروسية ـ السورية.الشراكة العسكرية الروسية ـ السورية بدأت العلاقات العسكرية السوفييتية ـ السورية في شهر آذار من عام 1955، عندما عرضت موسكو تزويد سوريا بمساعدة اقتصادية وعسكرية كبيرة دعما لدمشق من أجل رفضها الانضمام لحلف بغداد الذي تم تشكيله تحت رعاية بريطانية وأمريكية. وصلت أيضا شحنات عسكرية من تشكوسلوفاكيا عام 1956، لكن المساعدات الأوربية الشرقية لسوريا كانت على نطاق ضيّق حتى نور الدين الأتاسي عام 1966.

وأثناء حرب حزيران عام 1967، كان للتهديد الروسي بالتدخل المباشر دورا في وقف التقدم الإسرائيلي على الجبهتين المصرية والسورية. بعد هزيمة سورية ومصر في حرب 1967، ازدادت المساعدات السوفييتية لسوريا بشكل كبير وأنشأ السوفييت حضورا عسكريا لهم في سوريا. أدى وصول حافظ الأسد إلى السلطة بعد انقلابه على صلاح جديد، إلى تعزيز العلاقات السياسية والعسكرية مع موسكو. ساهم في تعزيز هذه العلاقة سحب موسكو المفاجئ لخبرائها العسكريين من مصر في تموز عام 1972 حيث تركز الاهتمام السوفييتي على سوريا. تدفقت الأسلحة السوفييتية بشكل كبير إلى سوريا في الأشهر السابقة لحرب تشرين عام 1973. أثناء هذه الحرب، أشرف المستشارون العسكريون السوفييت على نشاطات المواقع السورية القيادية.

أما المشاركة السوفييتية الأكثر أهمية فقد كانت بين 10 و23 تشرين الأول 1973، وذلك من خلال الجسر الجوي والبحري الذي نقل ما يقارب 4000 طن من المعدات العسكرية لإعادة تسليح مصر وسوريا. بعد عام من توقف إطلاق النار قامت موسكو بتعويض سوريا بالمعدات التي فقدها أثناء الحرب. لقد أدى التدخل السوري في لبنان أثناء الحرب الأهلية، إلى توتر في العلاقة بين دمشق وموسكو استمر لأكثر من عام وأدى بدوره إلى تعليق تسليم شحنات السلاح لسوريا. ردت سوريا من خلال تخفيض الحضور العسكري السوفييتي في سوريا والتوقف عن تدريب السوريين في الاتحاد السوفييتي. يذكر أن العربية السعودية عوضت دمشق الدعم السوفييتي وقامت بتمويل وجود القوات السورية في لبنان. خلال عودة التقارب السوفييتي ـ السوري عام 1978 قدمت ليبيا ما يعادل مليار ونصف دولار لتمويل شراء سوريا للأسلحة من روسيا، من بينها 12 طائرة MiG-27s. أيضا كانت سوريا قادرة على تمويل شراء الأسلحة من الاتحاد السوفييتي بعد القمة العربية في بغداد التي قررت مساعدة سوريا في شراء أسلحتها، وبموجب هذا القرار تم تخصيص مليار ونصف دولار سنويا لتمويل شراء السلاح لسوريا.

بين عامي 1979 و1983، سلم الاتحاد السوفييتي ما قيمته 9،2 مليار دولار من الأسلحة لسوريا. وكانت تشيكوسلوفاكيا المورد الثاني للأسلحة لسوريا بمبلغ قدره 470 مليون دولار، الصين 90 مليون دولار، بولونيا 30 مليون دولار، رومانيا 20 مليون دولار. وقد تلقت سوريا أسلحة بقيمة 200 مليون دولار من فرنسا كمساعدة عسكرية، أسلحة بقيمة 180 مليون دولار من بريطانيا وأسلحة بقيمة 40 مليون دولار من ألمانيا الشرقية.  

ذكرت العديد من التقارير العسكرية أن دمشق وافقت في عام 2007 على بيع جزء من نظامها الصاروخي أرض ـ جو وصواريخ قصيرة المدى كانت قد اشترتها من روسيا إلى إيران. أنكرت روسيا عملية البيع لنظامها الصاروخي لإيران وصرح نائب رئيس الوزراء قائلا:” لم نتلق أي طلب من دمشق في هذا الشأن”. مؤكدا أن روسيا ” تتعاون عسكريا وتقنيا مع كل الدول التي تحترم بشكل صارم القانون الدولي، وأن روسيا تبيع أسلحة لشركائها الأجانب بعد توقيع عقود تظهر المستخدم النهائي لهذا السلاح. بالتالي لا يمكن إعادة تصدير هذه الأسلحة إلى طرف ثالث من غير إذن من البائع”.  إذن، وبشكل عام، سوريا هي مستورد رئيسي للأسلحة الروسية، اشترت أنظمة دفاع جوي Buk-M2E و Pantsir S1E، وأملت في الحصول على صواريخ “اسكندر” التكتيكية، وغواصات الديزل Amur-1650. كما أعربت عن رغبتها في شراء مجموعة واسعة من أنظمة الدفاع الجوي الروسية المتقدمة. حيث اهتمت سوريا بشراء نظام S-300 فافوريت طويل المدى و “بوك” متوسط المدى و “تور” قصير المدى. تم تأكيد التوقيع على ثلاثة عقود توريد إلى سوريا بقيمة إجمالية تصل إلى 2،5 مليار دولار وفق ما أكده مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيات. التزمت روسيا في هذه العقود بتزويد سوريا بـ 24 طارئة مقاتلة جديدة من طراز MiG-29/M2 وأنظمة Buk-M2E وهي منصات إطلاق صواريخ أرض ـ جو متحركة، كذلك تحديث 1000 دبابة من طراز T-27M لتصبح من طراز T-72M1M. هناك عقود أخرى تتعلق بتوفير نظام صواريخ ” باستيون” للدفاع الساحلي. ونظام “باستيون” هو نظام صواريخ حديث مضاد للسفن ويمتلك تقنيات عالية جدا.

هناك نسخة غير تصديرية من هذا النظام معروفة باسم Onix، أعدها الروس لتصبح أساسا للتسليح مضاد ـ السفن ومضاد للغواصات ويمكن إطلاقه من على سطح سفن حربية أو من غواصات نووية. كما نرى، سوريا عميل رئيسي للصناعات العسكرية الروسية. بالنسبة للعقود الجديدة الموقعة بين الدولتين والتي لم يتم الانتهاء منها حتى منتصف عام 2011 هي:ـ شراء ثمان مجموعات من Buk-M2E، منظومات صاروخية بكلفة مليار دولار.ـ تحديث نظام صواريخ أرض ـ جو S-125 Petchora لتصبح على مستوى Petchora-2M.ـ شراء 36 نظاما من الدفاعات الجوية Pantsir-S1، تم تنفيذ جزء من العقد عام 2006 وجزء آخر تم تسليمه بين عامي 2008 و2010.  ـ شراء نظام صواريخ الدفاع الساحلي Bastian K-300.ـ شراء أنظمة صواريخ 9M123 المضادة للدبابات.

ـ تحديث 200 دبابة T-72 لتصبح من مستوى T-72M1M. وقد تم تنفيذ جزء من العقد بقيمة 500 مليون دولار من أجل تحديث 1000 دبابة، تم الانتهاء من تحديث 800 دبابة منها. ـ تحديث 24 طائرة مقاتلة MiG-29s لتصبح من مستوى SMT. ـ شراء مقاتلين اعتراضيتين من طراز MiG-31M يستخدمهما الجيش الروسي. يرى الخبراء العسكريون أن أسبابا عديدة أدت لفشل الدعم العسكري الروسي في تقوية الجيوش العربية ووضعها في حالة أفضل من خصومها. من أهم الأسباب، الأول، هو أن موسكو لم تقدم تدريبا كافيا لهذه الجيوش حتى تستطيع استخدام سلاحها المتطور بشكل أفضل، حيث لجأ الروس إلى عملية انتقائية للزبائن مما أدى إلى قدرة محدودة على استيعاب واستخدام السلاح السوفييتي النوعي. وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفييتي، مثلا، وفر لسوريا ومصر طائرات مقاتلة MiG-21 و Su-7، ودبابات T-55 ومعدات أخرى متطورة إلا أنها تعرضت لهزيمة مذلة في حرب عام 1967. بعد ذلك، قدم الاتحاد السوفييتي ما قيمته 20 مليار دولار من الأسلحة لسوريا، لكن القوات المسلحة السورية لم تنجح في استيعاب تطور هذه الأسلحة بسبب انشغالاتها الكثيرة في لبنان والقلق على الأمن الداخلي والقضايا السياسية الداخلية أكثر من التدرب على السلاح.

لقد تجلى هذا الإخفاق خلال الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، حيث أبدت القوات السورية قدرة محدودة جدا على الرغم من شحنات الأسلحة من الاتحاد السوفييتي. ويرى خبراء عسكريون آخرون بأن معظم التطور والتحديث للقدرات السورية كان يرتكز على استخدام الأسلحة القديمة بدلا من الحصول على امدادات جديدة عالية التقنية من الاتحاد السوفييتي. في الواقع، لا يمكن للمساعدة العسكرية الروسية مهما بلغت من مستوى أن تعوّض عن حقيقة أن إسرائيل كانت مدربة ومجهزة بشكل أفضل بكثير مقارنة بسوريا. السبب الثاني لضعف المساعدات العسكرية السوفييتية لزبائنها كان الخوف من تصعيد النزاع مع واشنطن وجر موسكو لمواجهة مباشرة. ورغم أنها قامت بتسليم أسلحة جديدة ومتقدمة، مثل SS-1 Scud، لكنها ظلت محافظة على وعودها. تاريخ تكوّن العلاقات الروسية ـ السوريةبدأ الاتحاد السوفييتي علاقات دبلوماسية مع سورية في عام 1944، أما التعاون العسكري ـ التقني بين الدولتين فقد بدأ منذ أواسط عام 1950.

بعد الانقلاب في موقف الرئيس المصري أنور السادات الذي وضع حدا للتعاون العسكري ـ التقني بين مصر وروسيا خلال النصف الأول من السبعينات، أصبحت سوريا الحليف الأهم بالنسبة لموسكو في البحر المتوسط. في عشية توقيع معاهدة الصداقة بين روسيا وسوريا في 8 تشرين الأول عام 1980، كانت دمشق قد اشترت بشكل مسبق بما قيمته 3،67 مليار دولار من الأسلحة السوفييتية، وأصبحت سورية في عام 1986 أهم مشتر، غير شيوعي، للمعدات العسكرية السوفييتية. بين عامي 1980 و1991، سلمت موسكو بما يقارب 26 مليار دولار من المعدات العسكرية لدمشق، تشمل تسليم 5000 دبابة، 1200 طائرة، 4200 قطعة مدفعية، 70 سفينة حربية صغيرة، معظمها قادر على إطلاق الصواريخ. في موازاة ذلك، شارك السوفييت في بناء مئات المنشآت العسكرية في سورية، في حين تدرب أكثر من 9600 ضابط سورية في المدارس العسكرية السوفييتية. اعترفت دمشق بالفيدرالية الروسية بوصفها وريثا شرعيا للاتحاد السوفييتي في كانون الأول عام 1991، وفي أيار 1992، زار وزير الخارجية السورية موسكو لمناقشة طبيعة العلاقات الثنائية. مع ذلك، هناك العديد من الملفات، مثل الديون الموروثة من العهد السوفييتي ومسألة عملية السلام، ظلت تلعب عاملا مشوها لهذه العلاقات.

بالإضافة لذلك، ترغب سورية وبشكل دائم في الحصول على معدات عسكرية من موسكو، هذه الأخيرة التي لا تلبي دائما جميع الطلبات السورية. شكّلت الديون السورية التحدي الأول في العلاقات بين البلدين، قدرت هذه الديون بحوالي 13 مليار دولار لكنها تقلصت بعد شراء دمشق لائتمانيات من المعدات العسكرية السوفييتية. في شهر تشرين الثاني 1992، أعلنت سوريا توقفها عن تسديد الديون، أدى الرفض لانخفاض حجم تسليم الأسلحة إلى دمشق ولكن ليس إلى تجميده. في نيسان عام 1994، تم تنشيط العلاقات الثنائية بين البلدين من خلال التوقيع على اتفاقية للتعاون العسكري ـ التقني. لم تستطع القوات المسلحة السورية الاستغناء عن اللوازم وقطع الغيار الروسية لا سيما أن الجيش السوري يعتمد على 90% في معداته على روسيا. أدى تعيين يفغيني بريماكوف في منصب وزير الخارجية الروسية من قبل الرئيس بوريس يلتسن إلى تعزيز العلاقات بين روسيا والشرق الأوسط بشكل عام، وموسكو ودمشق بشكل خاص. قام بريماكوف بجولتين في المنطقة في عام 1996 وعام 1997، وفي كل جولة كان يذهب إلى دمشق. تم إنشاء اللجنة الثنائية الروسية ـ السورية للتعاون العسكري ـ التقني في عام 1996. مع ذلك، ظل استمرار التعاون مع دمشق مشروطا بشكل مباشر بتسديد الديون.

حاول حافظ الأسد، أثناء زيارته إلى موسكو في تموز 1999، التفاوض على تليين الموقف الروسي، لا سيما فصل ملف تسديد الديون عن ملف توريد الأسلحة إلى سورية. مع ذلك، ورغم أن زيارة حافظ الأسد لم تنجح في تسوية النزاع، إلا أن عوامل وأسباب روسية ساهمت في هذه التسوية. أولا، من وجهة نظر اقتصادية، الصناعات الدفاعية الروسية هي، في ذلك الوقت، كانت تعاني من الموت، فقد كانت بحاجة للتصدير من أجل البقاء على قيد الحياة والتغلب على ضعف الطلبات التي تقوم بها وزارة الدفاع الروسية. في هذا المعنى، توفر سوريا فرصة هامة للمجمع الصناعي الروسي، حيث كانت دمشق في بداية عام 2000، مستعدة لإنفاق 2 مليار دولار من أجل تحديث قواتها المسلحة وشراء معدات جديدة من روسيا. بالإضافة لذلك، موسكو التي بدأت بإعادة بناء مواقفها الدبلوماسية في الشرق الأوسط، هي واحدة من القوى النادرة القادرة على إقناع السوريين بالتفاوض على السلام مع إسرائيل. بينما تبحث روسيا عن دور قيادي على مسرح الشرق الأوسط، فإن مشاركتها في حل الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني تضمن لها تأثيرا جوهريا في الإقليم.  تشكّل سوريا آخر بلد بالنسبة لروسيا حيث تمتلك نقطة دعم بحرية خارج الإقليم الروسي و “خارجها القريب”.

أخيرا، تتقاسم الدولتان رفض رؤية الولايات المتحدة كقوة وحيدة لها نفوذ في الشرق الأوسط، لا سيما بعد التدخل الأمريكي في العراق عام 2003، ومنذ عام 2004، وجدت دمشق نفسها في عزلة متزايدة على الساحة الدولية وهذا ما يعزز في نظرها أهمية الشراكة مع روسيا. بالتالي، وافقت موسكو على تسوية الديون السورية، وفي كانون الأول عام 2005، توصل الجانبان إلى اتفاق: حيث وافقت روسيا على خصم 73% من المبلغ الإجمالي للديون، أو ما يعادل 13 مليار دولار، أما دفع الباقي أو ما يعادل 3،5 مليار دولار، فيخضع لمعدل الفائدة السنوي بنسبة 4%. بالمقابل، تلتزم سورية بشراء معدات عسكرية روسية.رغم أن الرئيس فلاديمير بوتين طمأن إسرائيل بأن موسكو لن تضع الأمن الإسرائيلي في حالة خطر، وأن روسيا ليس لديها إرادة في كسر التوازن بين القوتين السورية والإسرائيلية، إلا أنه في نفس الوقت ليس في نيته إطلاقا ترك سوريا من غير وسائل تدافع بها عن نفسها. لم يسلّم بوتين سلاحا حديثا لسوريا قبل عام 2006 لكن روسيا لم تتوقف عن تحديث السلاح السوري بكل أنواعه وتدريب ضباط من رتب عليا في موسكو. في عام 2006، استقبل روسيا 10000 ضابط سوري وتلقوا تدريبا في الأكاديميات العسكرية الروسية. ويعتقد الخبراء العسكريون الغربيون أنه وفي نفس العام كان في سورية 2000 خبير ومستشار عسكري روسي في الخدمة مع الجيش السوري، إضافة لضباط روس يدرسون في الأكاديمية السورية المسؤولة عن تكوين الضباط. [كونوفالوف، Russia :Defense Ministry Rules out Supplying Offensive Weapons to Syria، 2005]، و [ كولسمان، An Old Bas/Frienship Gets a Facelift، دير شبيغل، حزيران 2006]. 

زار بشار الأسد موسكو في عام 2005 لكنه لم يتوصل لاتفاقية جديدة لبيع الأسلحة المتطورة لسوريا. وأثناء إقامته في موسكو، أعلن وزير الدفاع الروسي أن:” روسيا لن تزود سوريا بالأسلحة الهجومية، ولن يكون هناك نظام دفاع مضاد للصواريخ أو نظام دفاع جوي من نوع Iskander-E أو Igla”. في الواقع، لم يكن شراء هذا النوع من الأسلحة ذي أولوية عند النظام السوري، بل كان مشغولا بالدعم السياسي والحماية الدبلوماسية الروسية لسوريا. بدأت سوريا، في الأشهر الأولى من عام 2006، باستيعاب المواد والمعدات العسكرية الروسية (صواريخ أرض ـ جو قصيرة المدى من نوع ستريليتس، مضاد دبابات من نوع كورنيت وكريسانتيما، والتي هي الآن من الأسلحة المحمولة المضادة للدبابات والأكثر أداء في الترسانة الروسية، لا بل العالمية).

أيضا، اشترت دمشق أنظمة دفاع جوي متحركة مضادة للطائرات من المدى القصير والمتوسط من نوع Pantsyr-S1 وBuk-M2، وذلك في عام 2008. أثارت هذه المبيعات القلق العميق في تل أبيب وواشنطن، وفي النصف الأول من عام 2000، بينما كان التعاون العسكري ـ التقني بين روسيا وسورية راكدا، كانت إسرائيل والولايات المتحدة يضغطون على موسكو لتأجيل تسليم العديد من المعدات لسوريا، مثل الصواريخ الموجه المضادة للدبابات والجيل الثالث من Kornet. أيضا، وفي عام 2005، تم إلغاء بيع الصواريخ التكتيكية Iskander-E، والتي وعدت موسكو بتسليمها إلى دمشق في عام 2001، وذلك بعد طلب شخصي من رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت. أما بيع MiG-29SMT و MiG-31M فقد تم تجميده في أيلول عام 2009، تجميد رسمي لأن موسكو اعتبرت أنه يخل بتوازن القوى في الشرق الأوسط. مع ذلك، من المرجح أن الإسرائيليين مارسوا الضغط من أجل إلغاء هذا العقد. في عام 1990، بينما كانت العلاقات بين سوريا وروسيا تعاني من عدم تسوية الديون السورية، فإن العلاقات بين دمشق وموسكو تم تنشيطها في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، لا سيما في النصف الثاني من عام 2000. إذا كانت مبيعات الأسلحة تشكّل واحدة من أذرع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، فإنه ينبغي وضعها في موقعها الصحيح/النسبي من حيث المكان الذي تلعبه اليوم دمشق كزبون للصناعة الدفاعية الروسية.

في البحر المتوسط، سوريا هي الزبون الرابع في شراء الأسلحة من روسيا، مع 982 مليون دولار من العقود الموقعة منذ عام 1991، بعيدا خلف الجزائر (6،1 مليار دولار)، وخلف اليونان ومصر (على التولي 1،180 مليار، و1،178 مليار). بالنسبة للكرملين، فإن سوريا تمثل رأس جسر في الشرق الأوسط والذي يمكنها من إعادة بناء وقوية نفوذها في المنطقة. بالنسبة لدمشق، تشكّل روسيا حليفا استراتيجيا رئيسيا لتوريد المعدات العسكرية ودعم القوات المسلحة السورية. لقد أدت الاضطرابات التي تعيشها سوريا منذ عام 2001 إلى فرض حظر من قبل الاتحاد الأوربي على تسليم الأسلحة لسوريا. مع ذلك، في نهاية عام 2011، أعلن الكرملين أنه يعتزم مواصلة تسليم الأسلحة لسوريا وفقا للعقود الموقعة بين البلدين. في الفترة الواقعة بين 2007 ـ 2011، كان روسيا المورد الرئيسي للأسلحة إلى دمشق مع 78%، وذلك أمام بيلاروسيا 17% وإيران 5%. أكملت روسيا تسليمها لنظام Bastion P الدفاعي الصاروخي الساحلي مع نظام P800 Yakhont، والذي يمكن نشره لحماية ميناء طرطوس السوري حيث تمتلك روسيا نقطة الدعم اللوجستي. طرطوس: هل هي ” بورت بوتيمكين”؟

يعتبر ميناء طرطوس السوري “القاعدة” البحرية الوحيدة خارج الاتحاد السوفيتي السابق والذي تمتلكه روسيا، حيث تؤكد الحكومة الروسية الأهمية الاستراتيجية لهذا الميناء. ميناء طرطوس له أهمية خاصة لأنه يشكّل موقعا دفاعيا يمكن لروسيا من خلاله أن تحقق أهدافا سياسية. إن الاستخدام المستمر لميناء طرطوس من قبل روسيا يعطي لمحة عن مصالحها الحقيقية وقدراتها على التأثير في الأزمة السورية. تقع طرطوس على البحر المتوسط على بعد 25 كيلومتر تقريبا من الحدود الشمالية بين سورية ولبنان. يمكن تصنيف طرطوس على أنها تؤمن خدمات كاملة فيما يتعلق بمينائها التجاري العميق والذي يمكّن من تحميل وتفريغ البضائع التجارية بكل أنواعها، أيضا المواد السائلة مثل البترول. للميناء استخدام مزدوج، صيانة السفن المدنية والعسكرية منها، وتعتبر حركة السفن التجارية هي الحركة الغالبة على الميناء. استقبل الميناء في عام 2008 ما يقدر بـ 2776 سفينة تجارية تنقل 12،9 مليون طن من البضائع.

رغم أن البنية التحية العسكرية الروسية ليست متطورة في هذا الميناء إلا أنها توفر بعض الأعمال الحيوية لدعم السفن الحربية الروسية وصيانتها. “كما يمكن لمرافق الميناء أن تدعم جميع سفن الأسطول البحري الروسي باستثناء ” الأميرال كوزنيتشوف”، حاملة الطائرات الروسية الوحيدة”.[ Ria Novosti Staff، نيسان 2012]. وتشمل قدرات الميناء تزويد السفن بالماء والغذاء والوقود، لكن نقطة الدعم الروسية لا يمكنها توفير مرافق إصلاح مشابهة للقواعد الأمريكية البحرية، مثل القاعدة البحرية الأمريكية مثلا في اليابان ” يوكوسوكا”، أو في المنامة. لا يتوفر في الميناء وظائف الدعم الأساسية مثل مرافق خاصة بالمراقبة والقيادة، وهذا يعني أن البحرية الروسية لا تستطيع قيادة عمليات انطلاقا من الميناء. وكما أشرنا سابقا فإن عمق الميناء ورصيفه لا يسمحان بدعم حاملة الطائرات الروسية الوحيدة فهي مضطرة على البقاء بعيدا عن الميناء. تشير الصور الفضائية إلى أن الميناء لا يحتوي على مرافق صحية أو عسكرية، ثكنات مثلا، وبالتالي لا يمكن للميناء أن يستقبل توقفا أو محطة طويلة لعسكر البحرية الروسية. يمكن لهؤلاء الإقامة في مدينة طرطوس، حيث تتوفر الخدمات من وسائل نقل وفنادق ومرافق طبية، بمعنى أنه يمكن أن القيام بإقامة طويلة في المدينة بعد اتفاق مع الحكومة السورية، بدلا من إقامتهم في نقطة الدعم في الميناء.

إن تعبير ” بورت بوتيمكين” يشير هنا إلى السباق الطويل إلى البحار الدافئة وللوصول إلى نقطة على المحيط العالمي الذي بدأه بطرس الأكبر، وأكملته كاترين الثانية بنقطة على البحر المتوسط. تقع طرطوس في قلب ثلاثي إشكالي بالنسبة لروسيا: فالميناء هو محوري في التعاون البحري الثنائي الروسي ـ السوري، كما يشارك في إعادة بناء النفوذ الروسي في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، وأخيرا، هو جزء من منطق شامل وعلى المدى الطويل من لإعادة استثمار المحيط العالمي من قبل البحرية الروسية. يشكل التعاون البحري واحدا من الجوانب الملموسة للشراكة العسكرية بين روسيا وسوريا خلال السنوات الأخيرة.

أصبح ميناء طرطوس خلال الثمانينات الميناء الرئيسي/الملحق للأسطول الخامس السوفييتي. بعد حلّ هذا الأخير في عام 1991 والانسحاب اللاحق للقطع العسكرية السوفيتية السابقة، تم التخلي عن الميناء، ولكن لم يترك من قبل موسكو. طرطوس هي الميناء الثاني في سوريا بعد اللاذقية، تبعد مسافة 90 كيلومتر عنها، في حين تقع دمشق حوالي 220 كيلومتر جنوب شرق. خلال سنوات التسعينات، استضافت طرطوس وبشكل متقطع السفن الروسية القليلة التي تبحر في البحر المتوسط، وعلينا الانتظار حتى النصف الثاني من عام 2000 لنرى النشاط البحري الروسي يتطور بشكل تدريجي فيه. إن إعادة تنشيط القدرات البحرية الروسية الذي تعهد بها الرئيس بوتين، طوّرت المصالح الاستراتيجية الروسية في البحر المتوسط والشرق الأوسط، أيضا احتمال التخلي عن سيباستوبول في عام 2017 عند انتهاء عقد الإيجار الموقع مع كييف، يوضح المصالح المتجددة لروسيا في طرطوس خلال النصف الثاني من عام 2000. 

إن احتمال فقدان استخدام البنية التحتية سيباستوبول قاد السلطات الروسية للنظر ومنذ عام 2008 في إمكانية إعادة نشر وعلى المدى المتوسط في طرطوس جزءً من اسطولها في البحر الأسود، لا سيما الوحدات الأكثر أهمية التي تتمركز في شبه جزيرة القرم. لقد تمت مناقشة ذلك في البحرية الروسية. البعض، مثل الأميرال فلاديمير فيسوتسكي، قائد القوات البحرية، يرى ضرورة زيادة حجم الاسطول في البحر الأسود ونقل أكبر السفن مباشرة إلى البحر المتوسط بعد عام 2017. مع ذلك، هناك خبراء ومن بينهم ألكسندر كارمتشيكين، مدير إدارة المعلومات والتحليل في معهد التحليل السياسي والعسكري في موسكو، يشير مباشرة إلى القيود والحدود المفروضة على مثل هذا الحل: فروسيا ليست فقط لا تملك مزيدا من السفن الكبيرة وبكميات كافية، بل أيضا هذا الاختيار سيجبر بشغل المسرح من قبل وحدات هي الأكثر خفة. تمت دعوة المحاربين السابقين من اسطول البحر الأسود إلى النقاش، أشاروا بدورهم إلى الأهمية الاستراتيجية البالغة للحفاظ على البنية التحتية في سيباستوبول.

أما الأميرال فيكتور كرافشينكو، والذي قاد اسطول بحر قزوين بين عامي 1996 و1998، يؤكد كذلك أن ” حتى عشرة سنوات في طرطوس لن تعوض أو تحل محل سيباستوبول”.  بالمقابل، اتفقوا جميعا على حاجة موسكو لإعادة تطوير حضورها البحري في حوض المتوسط عبر صيانة وتحديث البنية التحتية في طرطوس. بالنسبة للأميرال فلاديمير كوموادوف، قائد اسطول البحر الأسود بين عامي 1998 و2002، يجب ألا يكون تأسيس البحرية الروسية في طرطوس على حساب المواقع البحرية الروسية في البحر الأسود والتي تحتاج إلى تنويع:” سيباستوبول، كقاعدة رئيسية للأسطول في البحر الأسود، تلعب دورا أساسيا. ولكن، وحتى لو احتفظنا بها، علينا تطوير القاعدة البحرية في نوفوروسيسك وفي موقع طرطوس”.  منذ شهر أيلول عام 2008، بدأت موسكو المفاوضات مع دمشق من أجل تحويل نقطة الارتكاز الفنية والمتعلقة بالمعدات في طرطوس إلى قاعدة بحرية دائمة.

تمت عنونة ميزانية البرنامج الفيدرالي ” إنشاء نظام من القواعد البحرية لأسطول البحر الأسود على إقليم الفيدرالية الروسية لفترة 2005 إلى 2020″، وحسب تقديرات فلاديمير بوتين ستصل إلى 29 مليار روبل أو 2،3 مليار يورو، للفترة بأكملها، ويتضمن تحديث وتطوير البنى التحتية البحرية الروسية في طرطوس. إن توقيع اتفاقية “كاراكوف” في نيسان 2010 من قبل الرئيس ميدفيديف وبانوكوفيتش لا يدعو للتشكيك في الإرادة السياسية في تطوير البنى التحتية البحرية في البحر الأسود والمرافق الروسية في طرطوس. في شهر آب 2010، أعلن الأميرال فلاديمير فيسوتسكي:” نحن بالتأكيد سنطور القاعدة في طرطوس. علينا في البداية تحديثها كنقطة أو محطة قبل تحويلها إلى قاعدة بحرية”. 

سيتم الانتهاء من المرحلة الأولى من التطوير والتحديث في عام 2012، وتشمل الإجراءات والتدابير التي تمكن من نشر قطع بحرية حربية ثقيلة. بدأ الروس بتحديث البنية التحتية البحرية في طرطوس عام 2009، لكن هذه البنى متواضعة للغاية وحتى الآن ولا يمكن الحديث عن قاعدة بحرية، كما يشير الأميرال فيكتور كرافشينكو:” قاعدة، ليس فقط ميناء، بل هي أيضا بنية تحتية، مع أرصفة ومخازن للذخيرة والمواد الغذائية، طرق، مرافق للتصليح، طيران، دفاع جوي وأشياء أخرى”.

يضمن الميناء السوري حتى اليوم اثنين من الأرصفة البحرية وورشة عائمة ومستودعات وثكنات، والتي تستخدم من قبل مئات من الفنيين والضباط الروس. تمت زيادة البنى التحتية البحرية من خلال إضافة جسر عائم تم تثبيته عام 2009. كان من المتوقع أن تنتهي أعمال تحديث المرافق الروسية في طرطوس عام 2012. إذن، وبعد هذا العام، كان على الميناء أن ينتقل من حالة ” نقطة دعم مادية وتقنية” إلى ” نقطة انتشار”. بالنسبة لاستمرار ومتابعة الأعمال والتوسع في البنية التحتية فإن عليها أن تمكن من الآن إلى نهاية 2020 من الانتقال إلى مرحلة ” قاعدة بحرية”. كان على روسيا خلال النصف الثاني من عام 2000 أن تقوم بأعمال مشابهة في اللاذقية، من خلال توسيع قناة وبناء رصيف. إن استخدام ميناء طرطوس هو استراتيجي بالنسبة للقوات البحرية الروسية، وإذا كان وجوده لا يكفي لشرح الموقف الروسي الحالي من الأزمة الروسية، إلا أنه جزء من سلسلة من المصالح الروسية والتي تمتلكها روسيا في سوريا، بما في ذلك المصالح الاقتصادية.

كذلك، وفي عام 2005، وقعت شركة الطاقة الروسية ” تاتنفت” اتفاقا مع السلطات السورية لاستكشاف واستغلال حقول الغاز، بينما وقعت شركة “سترويترانسغاز” في نفس العام عقدا بقيمة 200 مليون دولار لبناء محطة معالجة الغاز بالقرب من مدينة حمص وعقدا آخرا بقيمة 160 مليون دولار لبناء خط أنابيب. تمول شركة “تاتنفت” جزء من إنتاج النفط السوري منذ نيسان 2010، أما شركة ” تكنوبرومكسبورت”، المتخصصة ببناء البنى التحتية الطاقية، فقد فاوضت في عام 2012 على بناء العديد من المواقع بما في ذلك محطة مركزية في حلب. أيضا، امتلك موسكو عام 2009 في سورية حوالي 19،4 مليار دولار من الاستثمارات المرتبطة بشكل رئيسي بعقود في مجال الطاقة وبيع الأسلحة. تضاف هذه المصالح الاقتصادية إلى التحدي البحري الذي تمثله البنى التحتية في ميناء طرطوس: حيث تمنح للسفن الروسية قدرة تشغيلية كبيرة، ليس فقط في البحر المتوسط، بل أيضا في المحيط الهندي. يقع الميناء السوري على مفترق طرق من البحر المتوسط إلى المحيط العالمي.

بفضل هذا الميناء، فإن السفن الروسية التي تعمل في المحيط الهندي أو المحيط الأطلسي يمكنها العودة لتزود بالوقود أو الخضوع لعمليات إصلاح. يمكن للسفن الروسية أن تقطع الطريق بين عدن وطرطوس، 1870 ميل بحري، في أربعة أيام بسرعة متوسطة قدرها 20 عقدة، بينما، إذا غادرت السفن من ميناء سيباستوبول فهي تحتاج إلى أسبوع كامل. حاليا، إن البنية التحتية البحرية الروسية في سورية ليس لها سوى قيمة عسكرية تقريبا لا تذكر، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تستوعب العديد من الوحدات ذات الحمولة الكبيرة. مع ذلك، إذا تبنينا شبكة من القراءة الإقليمية وإذا اعتبرنا المكان الذي يمكن أن يكون هو طرطوس بعد عام 2020 ضمن رؤية من التحديث للأسطول الروسي، فإن الأهمية التي يوليها الكرملين للحفاظ على موقعه البحري في سورية يمكن فهمه وشرحه بسهولة. إذا كان النفوذ السوفييتي قد نجح خلال النصف الثاني من القرن العشرين في الاستثمار في الشرق الأوسط، آسيا، القارة الأفريقية وأمريكا الجنوبية، فإن روسيا بعد عام 1991، لا يمكنها الحفاظ والسيطرة على المواقع السوفييتية حول العالم. مع ذلك، الشرق الأوسط هو آخر معقل للنفوذ الروسي خارج محيطها القريب.

إن قدرة روسيا على الحوار مع جميع الفاعلين في الشرق الأوسط تشكل تميزا تستخدمه روسيا في استراتيجية أشمل لمواجهة الولايات المتحدة. مع ذلك، إن سياسة الكرملين مازالت تعاني من نقص الاستثمار الدبلوماسي في الشرق الأوسط والذي ميّز عهد الرئيس بوريس يلتسن. ضمن هذا السياق، فإن نقطة الدعم البحري في طرطوس تساهم بشكل مهم في بناء النفوذ الروسي لا سيما أن حضورها البحري في البحر المتوسط سوف يزداد بحلول عام 2020، مع تكثيف للرحلات البحرية في المحيط الهندي من أجل محاربة القرصنة.

إن فقدان هذا الميناء، والذي يمكن أن يحصل في حال وجود نظام جديد في دمشق، منفتح أكثر باتجاه الغربيين، سيكون ضربة قاصمة للنفوذ الروسي في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وبالتالي في الشرق الأوسط. بالإضافة لذلك، إن غياب بنية تحتية بحرية موجودة بشكل مباشر في حوض المتوسط يحد من مدى توسع الوجود السلاح البحري الروسي في المحيط العالمي. هذا الاستعداد الذي تبديه روسيا لإعادة الاستثمار في أعالي البحار تم تأكيده بشكل منتظم منذ عام 2000، وتم وضعه ضمن رؤية صناعية في برنامج التسليح للفترة الواقعة بين 2011 و2020.

في نهاية هذا البرنامج، سوف تخرج وحدات بحرية روسية من عنابر السفن الروسية، وحتى تقوم بمهامها، عليها أن تكون قادرة على الاعتماد على البنى التحتية البحرية المتمركزة في الخارج. وبما أن طرطوس تقع ضمن الطريق البحري الغربي والجنوبي من روسيا، فهي تتمركز الآن في قلب الجانب المتوسطي من استراتيجية دمج تاريخي تتبعها موسكو.  

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد