د. صلاح نيّوف
أصاب العلاقات الروسية ـ التركية تغير كبير في العقد الأخير. وصلت هذه العلاقات في عام 2005 إلى درجة متقدمة في نوعيتها ولم تعرفها منذ قرون عديدة، وذلك بسبب التنافس والصراع القديم بين الإمبراطوريتين والحروب المتكررة بين روسا والإمبراطورية العثمانية منذ القرن الثامن عشر والمواجهة أثناء الحرب الباردة. منذ عام 2003، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رئيس الوزراء التركي الأسبق والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان مرات عديدة، ويبدو أن البلدين وجدا أرضية مشتركة بشأن النزاعات القديمة.
اعتبرت روسيا في الماضي أن تركيا دولة مقربة من الولايات المتحدة وأنها منافس استراتيجي في منطقة أوراسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. خلال سنوات التسعينات، تبنت روسيا وتركيا مواقف متعارضة في الكثير من القضايا مثل البوسنة وكوسوفو والشيشان، حيث العلاقات التاريخية الوثيقة بين تركيا والشعوب المسلمة في هذه الأقاليم ووجود مجموعات كبيرة من الشتات البلقاني والقوقازي على الأرض التركية وهذا أيضا ما يفسر هذه المواقف والمقاربات المتعارضة. أما السياسة التركية داخل حلف شمال الأطلسي المتوافقة مع رؤية توسيع الحلف باتجاه جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق زادت من استياء روسيا. هذه العوامل مجتمعة هي من الأسباب الرئيسية للتوتر بين البلدين. لقد أعطت روسيا الأولوية لعلاقاتها مع الولايات المتحدة، أوروبا والدول المجاورة لمجموعة الدول المستقلة، بينما كرّست تركيا جهودها الخارجية من أجل شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة، ثم لإدارة العلاقة المضطربة مع اليونان وقبرص وجهود الانضمام للاتحاد الأوربي. دخلت روسيا وتركيا، وخلال مدة طويلة من سنوات التسعينات، مرحلة من اللامبالاة السياسية المتبادلة والتي رغم ذلك لم تتعارض مع تطوير العلاقات التجارية. كيف يمكن تفسير هذه التحولات في العلاقة الثنائية؟ تبدو العلامات أو الإشارات الأكثر وضوحا هي العلاقات في مجال الطاقة وزيادة التبادل التجاري والسياحي بين البلدين. وفيما يتعلق بالبعد الجيوسياسي للتقارب الروسي ـ التركي، فإن الدافع الرئيسي هو، على ما يبدو، الشعور بالإحباط المشترك فيما يتعلق بالغرب. هذا الشعور واضح وبشكل خاص منذ عام 2003: حيث خيبة الأمل الروسية والتركية تجاه الولايات المتحدة وأوروبا، ورغبتهما المشتركة في تجنب التدخل الأمريكي والأوربي في القوقاز، كذلك معارضة سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهي أيضا عوامل ساهمت في التقارب الروسي ـ التركي. انطلاقا من هذه الرؤية، إن القوقاز ـ وهي منطقة تنافس بين روسيا وتركيا لعقود طويلة، من العهد الامبراطوري إلى عام 1990 مرورا بالحرب الباردة ـ تظهر كإقليم بدأ يجمع بين المصالح التركية والروسية. لم تكن هذه الرؤية محتملة بعد السقوط المباشر للاتحاد السوفييتي، أما اليوم فلها عواقب هامة على الاتحاد الأوربي، والذي يفكر بتوسيع الاتحاد حتى بلدان البحر الأسود، والذي عليه أيضا بناء سياسة جدية تجاه القوقاز وكل من دول (جورجيا، أرمينيا، أذربيجان) التي تقع في الفضاء الجيوسياسي بين تركيا وروسيا.
في عوامل التقارب
ساهمت العديد من العوامل في التغير العميق في العلاقات الروسية ـ التركية منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000. على سبيل المثال، تزود روسيا تركيا بأكثر من 70% من الغاز المستورد إلى تركيا، وقد بنت روسيا خط أنابيب خاص من أجل صادراتها من الغاز إلى تركيا، تحت البحر الأسود ويحمل اسم ” بلو ستريم”. فيما بعد تم توقيع اتفاقيات مشتركة في مجال الطاقة أيضا، وبناء على هذه الاتفاقات تتحول تركيا إلى بلد عبور رئيسي للغاز الروسي إلى أوروبا. وصل الحجم الكلي للتجارة بين البلدين في عام 2004 إلى 10 مليار دولار، وارتفع على 15 مليار دولار في عام 2005، و25 مليار عام 2007. بالمقابل، تطورت العلاقات الاقتصادية في جميع المجالات. قطاع البناء، حيث تعمل مجموعات تركية كبيرة في عقود للبناء في موسكو وغيرها من المدن الروسية، وشكل تركيا الوجهة الأولى للسياح الروس في العطل، جنبا إلى جنب مع الألمان. هذه الإرادة في التحول نحو الجيران الشرقيين والشماليين من ذوي الأصول القومية التركية تترجم شعورا متزايدا من الإحباط تجاه الاتحاد الأوربي الذي أصبح في نظر الأتراك مصدرا للتدخل الدائم في السياسة الداخلية التركية. أيضا ساهمت التوترات مع الولايات المتحدة بشأن العراق في تدهور العلاقة التركية على “الجبهة الغربية”. هذه التفاعلات المعقدة بين الديناميكيات السياسية والاقتصادية أثّرت بشكل إيجابي على قسم كبير من المجتمع التركي في روسيا، حيث تعتبر روسيا من الآن فصاعدا كشريك محتمل بدلا من أن يكون عدوا تاريخيا. على الصعيد الأمني، تم حل العديد من الملفات الأمنية الصعبة مما مهد الطريق لمزيد من التقارب. وقد خفف إنشاء مجلس الناتو ـ روسيا من صدمة توسيع الناتو بالنسبة لروسيا. نذكر أنه في عام 2003 رفضت تركيا السماح للقوات الأمريكية باستخدام أراضيها لفتح جبهة شمالية في العراق وقد أظهر هذا الموقف مدى الاستقلالية التركية عن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.فيما يتعلق بالعراق، كانت المخاوف الروسية والتركية واضحة في هذا الشأن. فقبل التدخل الأمريكي في العراق، خشيت تركيا وفق تصريحاتها من “تفكك هذا البلد وظهور دولة كردية مستقلة في شماله”، ومن عدم الاستقرار الكبير للتجارة العابرة للحدود وتدفق اللاجئين بأعداد ضخمة. خسر الجنوب التركي ما يقارب 30 مليار دولار بسبب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على التجارة مع العراق بعد حرب الخليج وانقطاع صادرات النفط العراقية عبر ميناء جيهان التركي عبر البحر المتوسط. أما المخاوف الروسية فكانت أقل من ذلك وركزت على ديون بغداد تجاه موسكو في العهد السوفييتي التي وصلت إلى 8 مليار دولار، بالإضافة لعقود تفضيلية لإعادة فتح حقول النفط العراقية على المدى الطويل أمام بعض الشركات الروسية. كانت روسيا قلقة على مصالحها الاقتصادية في العراق بعد التدخل الأمريكي. بالنسبة لإيران، لتركيا وروسيا مصالح تجارية كبيرة في إيران: تشتري تركيا الغاز الإيراني، في حين تبيع روسيا التكنولوجيا النووية المدنية لإيران وهي من أفضل الحلفاء الاستراتيجيين لها في الشرق الأوسط. رغم بعض الخلافات بين موسكو وطهران حول تقاسم البترول في بحر قزوين، إلا أن إيران تدعم دائما الموقف الروسي حول الشيشان وتمتنع عن دعم الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تعمل داخل الاتحاد الروسي. أما تركيا فلديها حذر أكبر من التعامل مع إيران، بسبب ما تقوله تركيا حول الدعم الإيراني في الماضي لجماعات إسلامية إرهابية في تركيا. ولكن بشكل عام، تحسن العلاقات بشكل كبير في الآونة الأخيرة بين البلدين. بالإضافة لهذه المقاربات التي تقتسمها روسيا وتركيا حول المنطقة ولا سيما العراق وإيران، فإن للبلدين علاقات قوية مع إسرائيل. وقعت تركيا تحالفا أمنيا مع إسرائيل في عام 1990. أمام علاقات موسكو مع إسرائيل فقد واصلت النمو من خلال تدفق المهاجرين اليهود الروس إلى إسرائيل وتعد روسيا الموطن الأصلي لما يقارب مليون يهودي إسرائيلي ناطق بالروسية وأصبح يشكل قوة ثقافية وسياسية هامة، كما تطورت العلاقات التجارية بشكل لافت. وبمناسبة حفل الافتتاح الرسمي لخط أنابيب الغاز ” بلو ستريم” في تشرين الثاني 2005، تحدث وزير الطاقة الروسي فيكتور كريستينكو عن مستقبل بناء خط جديد تحت البحر المتوسط يهدف إلى نقل الغاز الروسي إلى إسرائيل عبر تركيا.
شكوك مشتركة في العلاقة مع واشنطن والاتحاد الأوربي
غيرت هذه الشكوك وبشكل عميق من العلاقات الروسية ـ التركية. فبالإضافة للسياسة الأمريكية في العراق وإيران، فإن روسيا وتركيا قلقتان إزاء استراتيجية واشنطن والتي تسعى لإحداث تغييرات في العديد من الدول التي تقع بالقرب من الدولتين (جورجيا، أوكرانيا وقرغيزستان). تعتبر روسيا أن كل حركة أمريكية لصالح ما تدعيه واشنطن من حرية وديمقراطية في المنطقة هو أمر معاد لروسيا بشكل أو بآخر. حيث تهدف واشنطن إلى استبدال الحلفاء التقليديين لروسيا بأصدقاء مقربين من الغرب. بالمقابل، تخشى أنقرة من السياسات الأمريكية في المنطقة لا سيما فيما يتعلق بخطاب الحرية وتقرير المصير، الذي قد يؤدي في نظر أنقرة إلى قيام دول كردية في الإقليم، وهذا ما يشكل كابوسا حقيقيا للأتراك. كما تعتبر تركيا كلا من جورجيا وأوكرانيا منافسين محتملين لها في الانضمام للاتحاد الأوربي أو حجة أخرى يمكن للاتحاد الأوربي استخدامها لتجميع مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد. نشير هنا إلى أن العديد من السياسيين الأتراك يعتبرون أن الاتحاد الأوربي ليس سوى ” نادي للمسيحيين”. وعلى نطاق أوسع، وفيما يتعلق بالاتحاد الأوربي، يجري البلدان مفاوضات معقدة معه وهي حاسمة على العديد من الصعد ولها نتائج أكثر أهمية وحاسمة على الصعيد النمو الاقتصادي في البلدين، وأيضا على صعيد الهوية الثقافية والسياسية الأوربية في المستقبل. هناك شعور روسي وتركي بشكل متزايد أنهما مرفوضتان ومحتقرتان من قبل الاتحاد الأوربي.الموقف في القوقازلم تعد رؤية البلدين لبعضهما كمتنافسين حول جيرانهم القوقازيين. لم تستطع تركيا خلال التسعينات أن تحقق تغلغلا اقتصاديا أو سياسيا في القوقاز رغم الضعف الروسي هناك. وللبلدين علاقات صعبة ومثيرة للجدل مع بعض دول ذاك الإقليم (علاقة روسيا مع جورجيا وعلاقة تركيا مع أرمينيا)، وهذا بدور يقود إلى عملية معقدة من اتخاذ القرار. اليوم، يقترب البلدان في مواقفهما حول هذه الملفات التي كانت بالأمس حجر عثرة (مثل الشيشان أو المسألة الكردية). خلال الحرب الأولى في الشيشان (1994ـ1996)، استقر الشيشانيون ومجموعات من أصل قوقازي في تركيا، بما في ذلك مجموعات أبخازية وشركسية والتي ساندت القضية الشيشانية كما تركيا. في مقابل ذلك، أغلقت روسيا عينيها عن نشاطات الجمعيات الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني في موسكو (حيث لكل دولة قوقازية مثل روسيا أيضا أقليتها الكردية الخاصة). مع ذلك، منذ بداية الحرب الشيشانية الثانية (1999ـ2000)، فإن القلق التركي من الأصولية الإسلامية والجماعات المتطرفة على أرضها، كذلك الخوف من ظهور دولة كردية مستقلة بعد التدخل الأمريكي في العراق، كل ذلك عدّل من التعاطف التركي مع المسألة الشيشانية. في الاجتماع الثنائي عام 2005 في مدينة سوتشي بين أردوغان وبوتين، أكدت العديد من المصادر اتفاقهما على دعم بعضهما بعض في المسألتين الكردية والشيشانية، كتعبير عن خوفين هما: “الإرهاب والانفصال”.
مرحلة جديدة من العلاقات
يوم الجمعة الماضي، وقبل توجه الرئيس الروسي إلى أنقرة، كان قد أعطى مقابلة لوكالة الأنباء التركية أناضول. عنوانها العريض أن روسيا، ورغم التوترات مع تركيا بشأن سوريا والملف الأوكراني، لديها الرغبة في تعزيز علاقاتها مع تركيا. تاريخيا، كانت الطاقة هي القاطرة الدائمة لتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين اللذين وقعا يوم الاثنين اتفاقيات ثنائية تهدف للتعاون في مجال الطاقة والطاقة المتجددة ، وتدريب الموظفين الأتراك في المجال النووي. إضافة لاتفاقيات جنائية تتعلق بتسليم المجرمين من كلا الطرفين. في نفس الوقت، أعلن الرئيس الروسي أنه سيزيد من حجم الغاز المباع لتركيا بمقدار 3 مليار متر مكعب من أجل تلبية حاجاتها. وفيما يتعلق بسوريا، استمر الرئيس بوتين باعتباره أن الوسيلة الأفضل للحرب على الإرهاب والجهاديين هي في دعم حكومة دمشق ” العلمانية”.في الأول من شهر كانون الأول أعلن رئيس شركة “غازبروم” الروسية / أليكسي ميلر” أن المشروع انتهى مع الاتحاد الأوربي، أثناء زيارة فلاديمير بوتين لتركيا. وأكد رئيس الشركة ما كان بوتين قد أعلنه مسبقا في مؤتمر صحفي مع نظيره التركي أردوغان.وقبل الحديث عن مشروع “ساوث ستريم” رأينا أنه من الضروري معرفة دور قطاع الغاز في الاقتصاد الروسي حتى ندرك دوره في السياسة الخارجية الروسية، الإقليمية والدولية.
قطاع الغاز الروسي
الخطوط الرئيسية للغاز الروسي هي: الثلاثي (الأخوة ـ التقدم ـ الاتحاد)، كل منها له قدرة واحد تريليون قدم مكعب، ثم (نور الشمال) وقدرته 0،8 تريليون، ثم Volga/Oural-Vyborg-Finlande وقدرته 0،1 تريليون، Yamal المتجه نحو أوروبا عن طريق بيلاروسيا بقدرة تصل إلى واحد تريليون قدم مكعب، Blue Stream المتجه نحو تركيا تحت البحر الأسود، وقدرته 0،56 تريليون قدم مكعب. أما البلدان الرئيسية التي تستقبل الغاز الروسي هي: أوربا الشرقية، هولندا، إيطاليا، ألمانيا، فرنسا وبلدان أخرى من أوربا الغربية. كما هناك مشاريع أخرى تدار من قبل شركة Transneft وهي قيد الإنشاء من أجل تطوير وتحديث الشبكة، لأجل تحاشي انقطاع في المخزون نحو أوروبا في حالة عطب أحد أنابيب الغاز أو عطل في أحد موانئ تصديره، ولكن أيضا، من أجل إيجاد طرق جديدة للتصدير نحو الأسواق الجديدة. هذه المشاريع ممولة بفضل ارتفاع أسعار الطاقة والتصدير خلال السنوات الأخيرة. سنعود فيما بعد إلى العلاقات الطاقية بين روسيا والاتحاد الأوربي، ولاسيما حول خطوط نقل الغاز تحت مياه بحر البلطيق بين روسيا وألمانيا. يستخدم الأساسي من الغاز الروسي، ” ثلثيه”، لإنتاج الكهرباء، التدفئة المنزلية وفي الصناعة، بينما البترول يخدم بشكل كبير التصدير الروسي. يشكل الغاز حاليا مصدرا حيويا ودعامة من دعامات الاقتصاد الروسي والصناعة الروسية. أكثر من ذلك، وبالخلاف من الصناعات البترولية، القطاع الغازي لم يتم “إصلاحه ” في سنوات 1990. إنه يدار دائما من قبل شركة Gazprom، هذه الشركة المحتكرة بمعظمها من قبل الدولة، حيث تمت الاستفادة كثيرا من هذه الشركة بعد ارتفاع أسعار الطاقة على الأقل في التصدير. مع ثلثي الثروة الغازية العالمية، والترتيب الأول في العالم بالإنتاج والتصدير للغاز، الغاز ربما سيكون القطاع المستقبلي بالنسبة لروسيا التي تمتلك أيضا مع Gazprom قيادة القطاع في العالم، على الأقل بالنسبة للاحتياطي والإنتاج. Gazprom هي في الواقع 86 % من الإنتاج الغازي الروسي ، أو تقريبا 20 % من الإنتاج العالمي. ولكن من أجل تقوية هذا المستوى والحجم، سيكون من الضروري الكثير من الاستثمارات. إذن، الرساميل، لاسيما الأجنبية، هي في موعد، الارتفاع المستمر للغاز، في ظل زيادة الطلب، كل هذا سيساعد بالحفاظ على هذه المواقع، بتجديد وفتح طرق جديدة لشبكة نقل لغاز، لأجل تطوير تصديراتها التي، بخلاف البترول، تقدمت كثيرا بغير انقطاع منذ نهاية العصر السوفييتي. من هي الجهات الفاعلة في مشروع ” ساوث ستريم”؟يمتد على طول 3600 كيلومتر وينقل الغاز من سيبيريا، يلتف على أوكرانيا ويجب أن ينقل 63 مليار متر مكعب في السنة إلى دول الاتحاد الأوربي وذلك بفضل فرعين له، الأول نحو النمسا، الثاني نحو البلقان وإيطاليا. إلى جانب الشركة الروسية ” غازبروم” والتي تمتلك 50% من المشروع، هناك شركات متخصصة في الطاقة تعمل في نفس المشروع، لا سيما في إنشاء قسم تحت الماء تقدر كلفته بحوالي 10 مليار يورو (وهي جزء من الكلفة الإجمالية البالغة 17 مليار يورو). يوجد الشركة الإيطالية ” إينا” وهي أساس المشروع وتمتلك 20%، وشركة الكهرباء الفرنسية وتمتلك 15%، والألمانية “وينترشل” وتمتلك 15%. تم إطلاق شركة “ساوث ستريم” عام 2007 على يد فلاديمير بوتين وصديقه الإيطالي سلفيو بير لسكوني، على أن يبدأ عمل الشركة بشكل فعلي في عام 2016 وتصل إلى إنتاجها الأقصى عام 2018. منذ البداية، كان هذا المشروع مشروعا سياسيا جدا يهدف إلى ردع الاتحاد الأوربي من إقامة مشروعه الخاص به. لماذا تركت روسيا المشروع؟برر بوتين إيقاف “ساوث ستريم” بأن بلغاريا لم توافق على مروره بأراضيها حتى الآن. أثناء الصيف الماضي، مارس الاتحاد الأوربي ضغطا كبيرا على صوفيا لترفض أو تتخلى عن الأشغال الأولية حول خط الأنابيب المذكور المؤدية للبحر الأسود. لقد كان الرفض الروسي هو آخر مظاهر الأزمة بين موسكو والعواصم الغربية حول مستقبل أوكرانيا. يقول الرئيس بوتين:” سوف نحوّل مواردنا الطاقية نحو أقاليم أخرى في العالم ولن تحصل أوروبا على نفس الكميات من روسيا، لكن هذا هو اختيار الأصدقاء الأوربيين”. بالمقابل، وقعت موسكو وأنقرة، يوم أمس، اتفاقية لبناء خط أنابيب جديد يربط البلدين تحت البحر الأسود ويقوم بتوريد الغاز مع خصم قيمته 6% لتركيا.
هذا الاتفاق يعزز العلاقات الطاقية بين البلدين (الغاز، البترول والطاقة النووية)، حيث تشكل تركيا الزبون الثاني لروسيا بعد ألمانيا. يقول مصدر روسي في بروكسل:” على الاتحاد الأوربي أن يتحمل بشكل أكبر مسؤولية قراراته السياسية. لقد كان هناك نقاشات منذ عدة أشهر بين غازبروم الروسية ومؤسسات أوربية لمعرفة كيف للمجموعة الروسية أن تتوافق مع المتطلبات التشريعية للحزمة الثالثة من الطاقة، والتي تقول بأن أي مشغل للشبكة لا يمكنه توزيع الغاز. لقد تحدثنا عن العديد من الإعفاءات، لكن المواعيد مع المؤسسات الأوربية أصبحت صعبة أكثر فأكثر ومن الواضح أنه يقوم بذلك عمدا”.
مع ذلك، وراء الصراع القانوني الرسمي، تؤكد أوروبا دعهما لأوكرانيا. لأنه ومنذ بداية الأزمة الأوكرانية فإن الاتحاد الأوربي لا ينظر إلى “ساوث ستريم” كخط أنابيب للغاز سيزيد من أمن الطاقة في أوروبا، بل كأداة لزعزعة الاستقرار المحتمل للمستقبل الاقتصادي الأوكراني. الآن، لا يرغب الاتحاد الأوربي في القول أن روسيا تخلت عن المشروع بشكل نهائي أو لأسباب تكتيكية. وهناك رؤية أوربية أخرى تعتقد أن المشروع مكلف جدا لروسيا وهذا ما دفعها لإيجاد أسباب سياسية للتخلي عنه. ويشير أحد الاقتصاديين الأوربيين ” تييري بروس” إلى أن :” الفنيين ليسوا هم من حول الطاولة في النقاشات الأوربيةـ الروسية. والحل يجب أن يكون سياسيا وقد وضع فلاديمير بوتين يده عليه. ولكن ليس بالضرورة أنها نهاية القصة”. ما هي نتائج أو عواقب ذلك على أوروبا؟للاتحاد الأوربي نظرة سيئة جدا حول التقارب الروسي ـ التركي.
تركيا، وهي عضو في حلف الناتو، كانت دائما محورا في الغاز والبترول يسمح للأوربيين بالاعتماد بشكل أقل على روسيا. فعن طريق تركيا يصل البترول القادم من العراق وبحر قزوين، وأيضا في نفس الوقت يصل الغاز عبرها من بحر قزوين. إن وقف مشروع “ساوث ستريم” لا يهدد أمن أوروبا بشكل كبير حيث تعتمد على 15% من إمدادات الطاقة من استهلاكها على روسيا. يعتقد محللو وخبراء هذا القطاع، حتى الآن، أنه ليس هناك حاجة لخط غاز جديد. هناك خطوط غاز أخرى تنقل الغاز من روسيا: ” شمال ستريم” والذي يتجه إلى شمال ألمانيا تحت بحر البلطيق، والخط عبر روسيا البيضاء وبولونيا، وخط الأنابيب الذي يمر عبر أوكرانيا. بالإضافة لذلك، فإن أوروبا تستورد من النرويج وهولندا والجزائر، وتكمل نقصها من الغاز الطبيعي المسال من الجزائر وقطر.
تأثير غازبروم
بالنسبة لغازبروم، والتي أنفقت ما يقارب 5 مليار دولار في المشروع في جزئه الروسي، هذا يشكل عبئا على الأقل. هذا العملاق الغازي يعاني اليوم من انخفاض في أسعار الغاز وضعف الاستهلاك حاليا في أوروبا، حيث المستهلكين الأساسيين للطاقة الروسية. لم تفقد روسيا قيمة هذه الاستثمارات، فأشغال ساوث ستريم لم تبدأ إلا مع عام 2012. لقد أعلنت غازبروم عن بناء خط لأنابيب الغاز وبنفس القدرة نحو تركيا.روسيا والاتجاه نحو آسيافي 21 أيار الماضي تم توقيع اتفاقية روسية ـ صينية برعاية الرئيسين بوتين و شي جينبينغ، وجاءت بعد اتفاقية بين شركة غازبروم الروسية و شركة البترول الوطنية الصينية. تقدم روسيا من خلالها 38 مليار متر مكعب من الغاز للصين وخلال ثلاثة عقود. يقدر ثمن الصفقة بأكثر من 400 مليار دولار للخزينة الروسية. سوف يأتي هذا الغاز من آبار في سيبيريا الشرقية وفي كل الأحوال لم يكن موجها إلى أوربا البعيد جدا عنه . بالعودة إلى عام 2000، كانت أوروبا وبدعم سياسي كبير من الولايات المتحدة قد قررت تعزيز خط أنابيب الغاز “نابوكو”.
كان الخط سيعتمد على الغاز من بحر قزوين وفيما بعد من آسيا الوسطى وبالتحديد تركمنستان. الهدف: تعزيز أمن الإمدادات الطاقية للقارة العجوز مع الاعتماد بشكل أقل على روسيا. لكن “ساوث ستريم” تقدمت وبسرعة في مشروعها بفضل مشاركة أكبر المجموعات الأوربية، لهذا السبب قام الاتحاد الأوربي بتجميد مشروع “نابوكو”. من غير المحتمل أن يلجأ الأوربيون إلى المشروع من جديد بسبب حالة الاكتئاب التي يعاني سوق الغاز الأوربي ومنافسة الفحم الكبيرة، والطاقة المتجددة في إنتاج الكهرباء. أخيرا.لقد شكلت تطورات العلاقات الروسية ـ التركية اهتماما خاصا عند الأوربيين، لا سيما ضمن سياق السياسات الجديدة للاتحاد الأوربي تجاه القوقاز، الإقليم الذي تطمح تركيا لأن تلعب دورا فيه لأول مرة.
ترى العديد من الدراسات حول الاتحاد الأوربي أنه من المهم ويجب على الاتحاد أن يدرك ما بعد و ما وراء المصالح المشتركة الاقتصادية، السياسية والأمنية، حيث أن المحرك الرئيسي للتقارب الروسي ـ التركي هو رغبة البلدين في الحفاظ على الوضع القائم. فإذا كانت تركيا تخشى زعزعة الاستقرار على حدودها ووحدتها الجغرافية وسلامة أراضيها، فإن روسيا قلقة أكثر بشأن تغلغل الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي في المجال والفضاء التقليدي للتأثير الروسي. إن الشراكة الروسية ـ التركية تستند على القلق والخوف من اليوم وعلى آمال مشتركة في المستقبل.