جماعة الإخوان المسلمين في مصر: النشوء والصعود والانحدار!

طارق حمو

تأسست جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928 م على يد حسن البنا، وجاءت عملية التأسيس كرد على الأوضاع والظروف السياسية التي مرت بمصر والمنطقة الإسلامية عموما. فانهيار السلطنة العثمانية وقدوم الاستعمار وتفكك وتضعضع العالم الإسلامي وضعفه أمام تفوق الآخرين، كان من بين الأسباب التي دفعت بالبنا إلى التفكير مليا في وضع مصر والمسلمين عموما، ومن ثم اتخاذ القرار بتأسيس هذه الجماعة.

ومن وجهة نظر جماعة الإخوان المسلمين، والباحثين القريبين منها والحاملين للوائها، فإن ثمة “ظروف موضوعية” هي التي جعلت من تأسيس هذه الجماعة أمرا واجبا لا مناص منه، ” الفترة التي قام في خلالها حسن البنا بدعوته كانت فترة حالكة في تاريخ هذه الأمة، وأشير هنا إلى أن هذه الحلكة لم تبدأ مع بدء ظهوره على المسرح وإنما كانت الحلكة مطبقة على الأمة من قبل ذلك، وقد بلغ استهتار الإنجليز بمقدرات هذه الأمة أن تجاهلوا أنها أمة مسلمة ذات مجد وتاريخ ففتحوا للحملات التبشيرية أبواب البلاد، بعد أن مهدوا لها بنشر الجهل والفقر والمرض، وبعد أن اطمأنوا إلى أن مقاليد الحكم في البلاد أصبحت في يد الفئة التي تدين لهم بالولاء والتي هي في حقيقة أمرها غريبة عن هذه البلاد”(1).أولا: تأسيس الجماعة ودورها في التاريخ السياسي المصري: يمكن الإشارة إلى الأسباب التي دعت حسن البنا وصحبه إلى تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وهي أسباب تتعلق بعضها بوضع مصر الداخلي، وبماهية النظام الملكي والقوى الخارجية التي تؤثر على توجه هذا البلد وتشكيل سياسته بالكامل، وتتعلق بعضها الآخر بالوضع العام للعالم الإسلامي، حيث الضعف والتشتت. ومن هنا يمكن القول، من وجهة نظر الإخوان والباحثين القريبين منهم، بأن ” أهم الأسباب لتأسيس جماعة الإخوان المسلمين هي:السبب الأول: الهجمة الغربية الاستعمارية على بلاد الإسلام والعروبة.السبب الثاني: الآثار المترتبة على الاتصال بالحضارة الغربية فكريا واجتماعيا.السبب الثالث: مدارس التبشير.السبب الرابع: إلغاء الخلافة وصدور الكتب العلمانية.السبب الخامس: تهاون البرجوازية المتوسطة.السبب السادس: اتساع الفوارق الاجتماعية.السبب السابع: انتشار الفاشية في أوروبا والخوف من الشيوعية”(2).ولا يمكن القفز، بأي حال من الأحوال، فوق شخصية حسن البنا حين الحديث عن جماعة الإخوان المسلمين، فالرجل هو مؤسسها وهو واضع فكرها وهو مخطط برامجها، وما زال القادة في الجماعة يمشون على هدي أفكاره وتعاليمه، ويستقون الدروس من يومياته في التعامل مع الأحداث والخطب. فحسن البنا هو من أحدث مراجعة فكرية لعموم حال المسلمين وحال مصر، وانتهى إلى ضرورة تشكيل جماعة إسلامية دعويّة قادرة على حماية المسلمين من التأثيرات الخارجية والارتقاء بهم إلى مصافي الأمم المتقدمة، أو ما كان عليه “السلف الصالح”، كما يرد كثيرا في أدبيات الجماعية، ومن هنا يمكن القول بأن البنا ” استطاع أن يقيم بناء جديدا للدعوة الإسلامية، وان يقدم صياغة جديدة للفكر الإسلامي، واستطاع أن يرد للمفاهيم الإسلامية الصحيحة اعتبارها، بعد أن ظلت آمادا طوالا غائبة عن أذهان المسلمين البسطاء، قابعة في أدمغة القلة من المسلمين المثقفين، لا تكاد تغادرها إلى ألسنتهم حتى تعود إليها، كذلك استطاع أن يحول المعاني الإسلامية إلى أفعال، بعد أن ظلت آمادا طوالا مجرد ألفاظ تقال من فوق المنابر” (3).أما بالحديث عن المبادئ والأفكار التي قامت عليها جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم الأهداف التي سعت إلى تطبيقها، فيمكن تتبع التطور الذي مرّت به الجماعة خلال تاريخها، ذلك التطور الذي اثرّ كثيرا على نظرتها إلى الأمور والقضايا الداخلية والخارجية. وفي بداية ظهور الجماعة كان التركيز واضحا على القضايا الدعويّة والاجتماعية في حياة المسلمين، وكان الهدف الأسمى هو تثبيت الإسلام كنظام حياة وتربية في حياة المسلمين وإرجاع هؤلاء إلى طريق الدعوة والتمسك بمبادئ هذا الدين في أمورهم المعاشية، وعليه فإن ” الفحص لحركة حسن البنا أظهر أنه لم يقم بها لعوامل سياسية تتعلق بالدستور أو الاستقلال، أو رفض النظام القائم، إنما قام بها لأسباب سلفية تعارض التغريب. وكل هم حسن البنا ورفاقه كان منصرفا إلى العمل السلمي المتمثل في إنشاء الجرائد الإسلامية والوعظ والإرشاد وتأليف الجمعيات، فنشاطهم هو مجرد عمل سلفي إصلاحي يقوم على فكرة الإصلاح الديني والخلقي، ومع مرور الوقت كان على الجماعة أن تحدد موقفها الفكري من القضايا السياسية العامة، وعندئذ برزت لها أيديولوجية متكاملة تختلف عما بدأت به، وتقوم على فكرة الحكومة الإسلامية وشمولية الإسلام للدين والدولة” (4).ومع مرور الوقت تبلوّرت فكرة الجماعة وأهدافها بشكل واضح وذلك بعد سنوات قليلة من مخاض الولادة، فقد ” حددت حركة الإخوان المسلمون برنامجها الفكري في الدورة الثالثة لمجلس شورى الجماعة عام 1935 م وأكدت أن عقيدة الإخوان قائمة على أن “الأمر كله لله، وأن سيدنا محمدا خاتم رسله للناس كافة، وان القرآن كتاب الله وهو قانون شامل لنظام الدنيا والآخرة، وأن يتمسك الأخ بالسنّة وواجب المسلم هو إحياء مجد الإسلام بإنهاض شعوبه وإعادة تشريعه، وان راية الإسلام يجب أن تسود البشر وان مهمة كل مسلم تربية أبناءه على قواعد الإسلام، ولتحقيق كل ذلك لابد من إقامة الحكومة الإسلامية التي تطبق قواعد الإسلام(..)، وفي الذكرى العاشرة لتأسيس الإخوان عقد المؤتمر الخامس 1939 م حيث حددت فيه الجماعة خطوطها الفكرية بما يلي: 1ـ إن الإسلام نظام شامل متكامل بذاته وهو السبيل النهائي للحياة بكافة نواحيها.2ـ إن الإسلام نابع من مصدرين أساسيين هما القرآن الكريم وسنة الرسول وقائم عليهما. 3ـ إن الإسلام قابل للتطبيق في كل زمان ومكان” (5).وعلينا البحث عن التفسيرات لهذا التغيير الكبير والبنيوي في موقف جماعة دينية شٌكلت على أساس دعوّي، كما أعلنت، وهدفت إلى نشر “الإسلام الصحيح” ضمن المجتمع وإشاعة الصحوة والعودة إلى “الأصول النقية للإسلام”. فما الذي حصل ليقرر حسن البنا وجماعة الإخوان التحول عن عملهم “الرئيسي” في “إنشاء الجرائد الإسلامية والوعظ والإرشاد وتأليف الجمعيات”، مثلما مر معنا، والانخراط في العمل السياسي والسعي إلى الحكومة والسلطة؟. أم أن الجماعة في الأصل كانت لها أهداف مخفيّة لجأت إلى إبقائها طي الكتمان، وعمدت إلى مبدأ “التقيّة” ردحا من الزمن، إلى حين أن تتقوى وتتشعب وتصبح أمرا واقعا وتنظيما قويا، ومن ثم تعلن عن وجهها الحقيقي وتكشف عن نواياها في خوض السياسية والرغبة في تغيير وجه الدولة بشكل كامل، وبناء دولة الخلافة المستندة على الشريعة الإسلامية دون أي قانون آخر؟. وبعرض هذه الأسئلة يأتي تفسير يقول انه ومع “تنامي قوة الإخوان التنظيمية واتساع نفوذها الجماهيري خرج البنا في مايو/أيار 1938 م عن طمأنته المعهودة للأحزاب والحكومات بان الجماعة ليست طرفا سياسيا بل مجرد طرف ناصح أو واعظ”. حيث أعلن التحول من “دعوة الكلام وحده إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال”. وان الجماعة ستخاصم جميع الزعماء والأحزاب سواء أكانوا في الحكم أم خارجه “خصومة لا سلم فيها ولا هواة معها”. إن لم يعملوا على نصرة الإسلام واستعادة حكمه ومجده. وطرح البنا هنا لأول مرة الترسيمة الاخوانية الشهيرة” “الإسلام دين ودولة…ومصحف وسيف…لا ينفك واحد من هذين عن الآخر” (6).واندمجت الجماعة في اللعبة السياسية، وقدمت تحليلا للوضع السياسي الداخلي وتناقضاته في مصر، وحاولت أن تستفيد منه، فظهر لها بأنها أقوى وأكثر انتشارا مع العديد من الأحزاب والقوى السياسية في البلاد، بما فيها حزب “الوفد” العريق، ومن هنا بدأ حسن البنا يشعر بالارتياح والأمان ويكشف شيئا فشيء عن الأهداف الحقيقية التي شكل جماعته من أجلها، ألا وهي السلطة والحكم وتغيير وجه الدولة إلى دولة دينية تقوم على فكرة الخلافة، أو “الحكومة الإسلامية”، ومن هنا يمكن إرجاع ” ميل حسن البنا وحركته للسياسة إلى اتساع شعبيتها، وتشجيع القصر وأحزاب الأقلية لها حين حاولوا استغلالها واستثمار قوتها الشعبية ــــ وهي القوة التي يفتقدونها ــــ في صراعهم ضد حزب الوفد، وحاولت هي الأخرى أن تستفيد من هذه المساندة، وحين استشعرت قوتها انقلبت عليهم وانقلبوا هم عليها، فكانت المحن المتتالية التي عصفت بالجماعة وبمرشدها” (7).لقد انخرط الإخوان منذ البداية في السياسة، وكانوا يرومون إلى السلطة والتأثير في بنية الدولة وقيادة توجهها نحو الإيديولوجية التي يتبنونها، لذلك طرح حسن البنا في السنوات الأولى من تشكيل الجماعة خطابا مهادنا، مرنا، دعويّا، ركز على الجوانب الدعويّة وتراث السلف وضرورة التمسك بالأصالة، متقربا من الملك والقصر، وطارحا نفسه وجماعته كسند للملك، بل وكان يرغب في مبايعة هذا الملك كخليفة للمسلمين، ومن هنا فقد” كان الإخوان حريصين على إزجاء المديح للملك فؤاد والثناء الدائم على سلوكه الإسلامي، وتوالت مراثيهم له بعد موته، أشاروا فيها إلى انه “حامي الإسلام ورافع رايته”، وقد رثته صحيفة الإخوان بما يجذب عطف ولي عهده. كما نشرت عدة مقالات تهدف إلى دعوة ولي العهد للتمسك بالتقاليد الإسلامية التي كان يتحلى بها والده، وتصف الفاروق بسمو النفس وعلو الهمة وأداء فرائض الله واتباع أوامره واجتناب نواهيه. وكتب حسن البنا في مجلة “الإخوان المسلمون” سنة 1937 بعنوان “حامي المصحف” يقول” إن 300 مليون مسلم في العالم تهفو أرواحهم إلى الملك الفاضل الذي يبايعهم على أن يكون حاميا للمصحف فيبايعونه على أن يموتوا بين يديه جنودا للمصحف. واكبر الظن إن الله قد اختار لهذه الهداية العامة الفاروق فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك اخلص جنودك” (8). ومن ثمار هذه السياسة المهادنة المراوغة، انه حتى الإنكليز والأميركيين انخدعوا بظاهر هذه الجماعة وظنوا إنها حقا طريقة من الطرق الصوفية وجماعة دعويّة تنادي بالإصلاح المجتمعي وتزهد في السياسة والحكم، ومن هنا بقيت هذه الجماعة ” مجهولة بالنسبة للأعداء إذ كانوا يعدونها واحدة من الحركات الصوفية أو جمعية دينية تقليدية من الجمعيات التي كانت منتشرة في مصر آنذاك… ولم تبرز كقوة تهدد أطماع المستعمرين وتعرقل مخططاتهم إلا حينما افصح البنا عن أهداف هذه الدعوة في المؤتمر الخامس لقادة الإخوان والذي انعقد عام 1938″ (9).أما العلاقة بين الإخوان وكل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، فقد حاول كل طرف من هذه الأطراف الاستفادة من “مجالات الاتصال والتعاون”، فالإخوان كانوا يريدون الظهور بمظهر الجماعة القوية التي لا يمكن تجاوزها حين التعامل مع مصر والعالم الإسلامي وتوثيق المصالح معهما، ورسم السياسات حولهما، وأرادوا أن يقدموا أنفسهم كجماعة تقبل الحوار والتشاور مع جميع القوى، فهي “منفتحة” ولديها أرضية للحديث عن كل المواضيع التي تهم حياة ومستقبل الأمة. كذلك كانت هناك غاية أخرى، وهي أن الاتصال يؤمن للجماعة نوعا من الاعتراف بأنها عامل حاسم لا يمكن القفز فوقه، أما البريطانيين والأميركيين فكان لهم أيضا نظرتهم إلى الأوضاع عامة، والجماعة ودورها بشكل خاص، ومن هنا ولكي تقف ضد الشيوعية وتطوّر إيديولوجيات محلية قادرة على صدها ومنع تسربها إلى منطقة الشرق الأوسط، دعمت أميركا وبريطانيا الإخوان المسلمين، وهذا ما ” يفسر خلفيات الدعم المادي والمعنوي، الذي كانت تتلقاه حركة الإخوان المسلمين من عدد من المصالح الأجنبية في حينه، كالهبة السخية التي حصلت عليها من شركة قناة السويس، والدعم المادي الذي كان يلقاه الإخوان المسلمون من القوى الكبرى، خاصة بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى أشكال مختلفة من الدعم السياسي، التي كان أبرزها رفض بريطانيا تسليم المجموعة الاخوانية المسلحة، التي فرت إلى ليبيا عقب حملة الاغتيالات التي عرفتها مصر خلال الثلاثينات والأربعينيات” (10).ومن هنا تأتي الانتقادات الشديدة الموجهة لجماعة الإخوان المسلمين، حيث تاريخها المليء بالمواجهة مع القوى الأخرى والعمل لحساب جهات هي التي تحركهم وتستخدمهم لمصلحتها، وعليه فأن الإخوان دأبوا على تنفيذ مصالح الغير وتطبيق أهدافهم، سواء كان ذلك بعلمهم أو بغير علمهم، جراء سذاجة ممزوجة بانتهازية ورغبة جامحة في اللعب على كل الحبال للوصول إلى السلطة والحكم، ومن هنا وعلى ” الرغم من زعم الإخوان أنهم سياسيون إلا انهم لم يكونوا في المواجهة، ولم يباشروا السياسة من مواقعها، فهم وراء الستائر، يلعبون دائما لمصلحة الغير او يلعب بهم، ثم يعودون بخفي حنين لا ناقة ولا جمل…فالملك فاروق يترك لهم الساحة ليضرب بهم حزب الوفد…والوفد يتحالف معهم لضرب السعديين…والثورة تستخدمهم مطية للهتافات…والكنيسة تستخدمهم لرفع مرشحيها في الانتخابات، ولتحقيق أهداف أخرى. وأمريكا تستخدمهم لتحقيق أهدافها الاستعمارية في الدول العربية، فهموا ذلك أم لم يفهموا..” (11).كما وطوّرت الجماعة من نظرتها الخاصة فيما يتعلق بالعديد من المفاهيم الإسلامية، وذلك بحسب السياسة المرحلية ومصالح الجماعة، ودائما وفق مبدأي “التقيّة” و”الغاية تبرر الوسيلة”، حيث كان الهدف الأسمى هو التحول لرقم صعب و”أمر واقع” مفروض على القوى الداخلية والخارجية، بحيث لا تستطيع هذه القوى تجاهله. وكان الاعتماد الإخواني يبقى على الشعب، بحيث يصبح أي موقف ضد الجماعة، أو محاولة تصفيتها، هو موقف موجه ضد الشعب المصري، أو الشريحة الأكبر منه، وهو التقييم الخاطئ والقراءة الاستراتيجية التي أثبتت، تاريخا وحاضرا، قصورها وفشلها الكبير وألحقت بالجماعة الكثير من الأضرار والضربات الكبيرة. وفيما يخص الموقف من قضية الجهاد مثلا فإن تصور الجماعة جاء بعيد تصدرها المشهد كقوة سياسية بهذا الشكل ” إن جماعة الإخوان ترى في الجهاد دورا دفاعيا بالأساس، وقد رأت الجماعة إن توحيد البلدان الإسلامية وإنهاء تبعيتها للشرق والغرب، هي شروط ضرورية لإعلان الجهاد ضد العدو الخارجي وتحرير الأراضي الإسلامية المحتلة، ورأت الجماعة في الجهاد فريضة دينية، ووسيلة يستطيع العالم الإسلامي من خلالها أن يستعيد قوته ومجده” (12).والمتابع لمسيرة جماعة الإخوان المسلمين سيكتشف مدى رهانها على القوة والعنف كسبيل لتطبيق برامجها والوصول إلى السلطة والحكم. فهذه الجماعة ومنذ نشأتها عملت على إيجاد جناح عسكري وايلاء “التنظيم العسكري” التعبوي أهمية كبيرة، من أجل ردع خصومها السياسيين و”الأخذ بأسباب القوة”. وأثناء البحث في تاريخ الإخوان المسلمين، نجد كيف أن هذه الجماعة أرادت حتى اختراق الجيش المصري وتشكيل كتل ومجموعات ضمنه تدين لها هي بالولاء. وبالنظر إلى تاريخ هذه الجماعة مع الجيش، نجد أن عينها كان دائما على القوة والسلاح، ومن هنا فلم “يكن الجيش بعيدا عن تطلع حسن البنا، فقد بدأ الاتصال ببعض ضباطه منذ الأربعينيات، والواضح انه كلف محمود لبيب، وهو ضابط كبير في الجيش المصري، تأسيس تنظيم للإخوان داخل الجيش، ومنذ مطلع العام 1944 م بدأت أهم خلايا الإخوان في الجيش أول اجتماعاتها في منزل عبد المنعم عبد الرؤوف بحي السيدة زينت، واشترك فيها اليوزباشي جمال عبد الناصر، الملازم أول كمال الدين حسين، الملازم أول سعد حسن توفيق، الملازم أول خالد محي الدين، الملازم أول حسين محمد احمد، الملازم أول صلاح الدين خليفة، وقد تكررت اجتماعات هذه المجموعة ولم تتوقف طيلة سنوات( 1944ـ1947م) وانقطعت بدءا من 1948 م نتيجة لحرب فلسطين، وان استمر العمل سريا لضم اكبر عدد ممكن من الضباط” (13).وهكذا نرى ضربا من ضروب الازدواجية و”التقيّة” لدى هذه الجماعة، فحين كان البنا يوهم الجميع على تركيز جماعته على الجوانب الدعويّة والإرشاد ونشر الفضائل الدينية، ويكيل المديح للملك ويطالبه ب”قيادة العالم الإسلامي”، كان في الوقت نفسه يتصل مع بريطانيا وأميركا، ويتوجه إلى الجيش من أجل اختراقه وتشكيل مجموعات ضمنه تدين فقط بالولاء له وللجماعة. ورغم الرفض الظاهري للعنف إلا أن الجماعة كانت لا ترى ضررا من استخدامه في وجه كل من “يشيع الفاحشة والإفساد بين الناس”، وهم شريحة طويلة صنفهّا الإخوان وحكموا عليها بالخروج من الملة، فحق إنزال العقاب بهم، ومن ورغم إنهم أعلنوا عدم رضائهم عن استخدام العنف والقوة فقد ” برروا هذا الأسلوب والتمسوا الأعذار له، فحين ارتكبت بعض جرائم العنف والتخريب وتحطيم بعض المحلات والحانات عام 1939 م واتهم الإخوان وشباب مصر الفتاة، كتب حسن البنا في مجلة “النذير” تحت عنوان “تحطيم ظاهرة تدعو إلى التفكير الجدي،” أن كثيرا من الناس يستحق حجرا اجتماعيا باسم القانون لأنه يسيء استخدام حريته الفردية والاجتماعية ويشيع الفاحشة والإفساد بين الناس، ومن هؤلاء مدمنو الخمر ومدمنو المقامرة واحلاس بيوت الفجور وقعدة المقاهي والمشارب، والبارات والصالات” (14).وكانت الجماعة تضع لبنات تشكيل جهاز المخابرات الخاص بها، أو ما عٌرف ب(التنظيم الخاص)، وهو الذراع العسكري للجماعة، وكان البنا من المشرفين عليه، إضافة إلى خبرات أخرى عسكرية، منها من كان داخل الجيش المصري، ومنها من كان قد سٌرح أو أنهى خدمته العسكرية، ولكنه يتمتع بخبرة كبيرة في المجال العسكري، رأت الجماعة إنها يجب أن تستفيد منها، وهكذا فقد ” تشكل داخل التنظيم الخاص جهاز مخابرات على جانب كبير من المهارة ليمد القيادة بمعلومات وافية عن خصومها وأصدقائها، وقد شمل نشاط هذا الجهاز جميع الأحزاب المصرية في ذلك الوقت فضلا عن النقابات والجمعيات المختلفة والوزارات والجامعات والمدارس والأزهر وأقسام البوليس والمحال والمصانع اليهودية والأجنبية والمصرية” (15).وبعد أن فشلت الجماعة عن طريق السياسة والمشاركة البرلمانية في تشكيل الحكومة وتطبيق برامجها الرامية لأسلمة الحياة والدولة وتحقيق الهدف النهائي في تمكين دولة الخلافة وتطبيق الشريعة الإسلامية، بدأت باللجوء إلى خيار العنف والسلاح، ذلك الخيار الذي لم يكن يوما مستبعدا لدى الجماعة، أو أنها لجأت إليه مضطرة مجبرة ومكرهة، كما يقول البعض، وقد ” تأكد اتجاه الجماعة إلى العنف بل عودتها إليه بعد أن راودتها فكرة استخدام الطريق البرلماني للوصول إلى أهدافها وفشلت فيه، فقد حاول حسن البنا دخول الانتخابات في دائرة الإسماعيلية عام 1942 م ولكنه تنازل عن الترشيح بضغط من الحكومة مقابل مكاسب حصلت عليها الجماعة من وزارة الوفد تعطيها حرية الحركة، ثم رشح نفسه مع عدد قليل من جماعته في وزارة احمد ماهر مع نهاية 1944 م وبداية 1945 م ولكنهم هزموا بعد أن قامت الحكومة بتزوير الانتخابات فأصابهم الإحباط واليأس من الطريق البرلماني فاتجهوا إلى العنف” (16).وفي هذه المرحلة، أي ما بين سنوات 1945 و 1948 م شن الإخوان المسلمون سلسلة من عمليات الاغتيالات ضد رموز ورؤوس الدولة المصرية، شملت قتل كل من أحمد ماهر، رئيس الوزراء عام 1945 م وأمين عثمان وزير المالية عام 1946 م والمستشار أحمد بك الخازندار عام 1948 م وفي نفس العام صدر قرار من مجلس الوزراء بحل جماعة الإخوان المسلمين واعتبارها جماعة محظورة وغير قانونية، وشٌنت ضدها حملة اعتقالات كبيرة، وتم فصل الآلاف من المدارس والوظائف، ورد الإخوان على هذه السياسة بأخرى أكثر عنفا وتصعيدية عندما قتلوا رئيس الوزراء النقراشي باشا، وجاء ذلك لأن ” الإخوان اعتبروا أن قرار الحل كان بمثابة إعلان الحرب عليهم خاصة وان السلطة رغم أنها لم تلق القبض على المرشد العام، غير أنها ضيقت عليه الخناق وحدّت من حركته، وتصاعد شعور الإخوان العدائي ضد النقراشي باشا(رئيس الوزراء) والذي اصدر قرار الحل واعتبروا هذا القرار استفزازا لهم لقتل النقراشي باشا. فبعد عشرين يوما من قرار الحل، اغتيل النقراشي باشا بوزارة الداخلية على يد أحد أعضاء الجهاز السري للإخوان المسلمين(..)، ويذكر القاتل في بداية التحقيق معه ثلاثة أسباب لإقدامه على عملية الاغتيال وهي: تهاون النقراشي باشا في شأن قضية وحدة مصر والسودان، وخيانته لقضية فلسطين، واعتدائه على الإسلام بحل جماعة الإخوان المسلمين” (17).وبدأت الحكومة بملاحقة كل شخص يٌعتقد بأنه من جماعة الإخوان المسلمين، وكان القرار قد صدر بتصفيتهم جسديا وسياسيا واجتثاث كل خلاياهم، وقد قررت الأجهزة الأمنية المختصة بملف الإخوان المسلمين، والتي كانت تترصد كل اجتماعات تنظيمهم السري، إجبار المرشد العام حسن البنا على إصدار فتوى ضد قاتل النقراشي، وضد كل من لجأ إلى العنف، وهكذا تم ” استدراج الشيخ إلى إصدار بيانات واتخاذ مواقف تدمر سمعته السياسية وتظهره بمظهر الضعيف أمام اتباعه وجماهيره، وتؤدي إلى تدمير معنويات الإخوان المحتجزين ثم في النهاية تصفيته جسديا بعد أن يٌصفى سياسيا” (18).وقد تبرأ البنا في بياناته تلك من كل من ارتكب العنف وقتل رجالات الدولة، وقال هؤلاء بأنهم “ليسوا بإخوان وليسوا بمسلمين”، وكان هذا مدمرا لإيمان ويقين أتباعه، وخصوصا من عانوا التعذيب الشديد في السجون. ومن ثم تم تصفية البنا جسديا، حيث يؤكد الإخوان أنفسهم إن ” الشيخ قد اغتيل في 12 شباط/فبراير 1949 م يوم عيد ميلاد الملك السابق فاروق احمد فؤاد، فكان اغتياله هدية ميلاد الملك(..)، وطلبت الجماعة رسميا من المحكمة التي عقدت في أعقاب ثورة تموز/ يوليو لمحاكمة قتلة الشيخ حسن البنا، تقديم متهمين جدد على رأسهم الملك السابق فاروق وذلك باعتباره محرضا وفاعلا أصليا” (19).  أما لماذا انتهت الجماعة، في تلك الفترة، هكذا منتهى، فالجواب يتعلق بالبنية الحربية لهذه الجماعة، حيث إنها لم تستبعد العنف يوما كخيار للوصول إلى السلطة والحكم، وطبقته حينما وجدت نفسها قوية تمتلك العزيمة والقدرة، وترى في خصومها الضعف والتردد، وتراجعت عنه حينما وجدت من يهاجمها ويشتت صفوفها بكل قوة وعنف، ومن هنا ” إذا أردنا أن نلخص ونبلور هدف الإخوان من حادث اغتيال النقراشي باشا، فنحن نتساءل هل كان مجرد رد على قرار النقراشي بحل الجماعة أم كان الهدف أوسع من ذلك بكثير، وفي رأي اللواء حسن طلعت مدير مباحث أمن الدولة أن الإخوان تعجلوا الاستيلاء على السلطة” (20).ورغم أنهم تعرضوا لضربة كبيرة، حيث شٌتت شملهم وقٌتل مرشدهم، وأصاب التنظيم بشلل كامل، ألا أن الإخوان وجدوا فرصة جديدة بالظهور، وذلك نقض حكم قضائي في عام 1951 م قرار حل الجماعة، حيث عادت من جديد بعد ذلك الحكم إلى الحياة والعمل التنظيمي، الدعوّي والسياسي، وأفرج عن كامل معتقليها. وبعد انطلاقة ثورة يوليو عام 1952 م رتبت الجماعة من جديد أوراقها، وانتهت من عهد الملكية والصراع معها، لتدخل في عصر آخر من الصراع مع العسكر والنظام الجديد. ورغم ظهور العلاقات بين الجماعة وجمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية، بالجيدة، ألا أن الجانبين كانا يتربصان ببعضهما البعض، ففي الحين الذي كانت الجماعة فيه ترى في الثورة وعبد الناصر “امتدادا” لها، وتحن إلى الأيام الماضية، حينما كان ناصر وبعض رفاقه يتعاونون معها من داخل الجيش ويساهمون في تقوية خلاياها العسكرية النائمة. كان عبد الناصر المنتشي بالثورة والسلطة والآمال المعقودة عليه، يتوجس من الجماعة ويحتاط لدورها القادم ويرى فيها منافسا له، تحمل شعارات كبيرة مثل تلك التي يحملها هو، ومن هنا ” رأى عبد الناصر أن الجماعة تحاول الضغط بأيديولوجيتها، كما استشعر تضخم قوة الجماعة التي أخذت تلوح بها فضلا عن التصريح بدورها في مساندة الحركة ليل 23 يوليو والإفصاح عن تاريخ العلاقة الخاصة التي كانت تربطها بضباط الحركة قبل 23 يوليو 1952 م. وقد اعتبر عبد الناصر هذه الضغوط تمهيدا من الإخوان للاستيلاء على السلطة. لذلك ابتعد عن جماعة الإخوان ابتداء من منتصف أغسطس عام 1952 م وأخذ يضع القيود والحواجز أمام حركتها السياسية للحد من قوتها وللحجز على مستقبلها السياسي” (21).وانتهى هذا التنافس وحالة العداء إلى محاولة الجماعة اغتيال عبد الناصر نفسه في 26 تشرين الأول 1954 م، وهي الحادثة التي أحدثت القطيعة النهائية ومنحت عبد الناصر الحجة للنيل من الجماعة وإزاحتها أمام طريقه كقائد أوحد للجيش والدولة كاملة. ويأتي السؤال هنا: كيف وقعت الجماعة في خطأ من هذا النوع وهي التي عانت من عنف الدولة في فترة الحكم الملكي؟. وكيف تخاطر بسلامة التنظيم أمام رجل مثل عبد الناصر طموح ومنتشي بالنصر ومؤمن بأن شعبيته بين الجماهير في مصر وعموم العالم العربي كبيرة؟. والتفسير هو بأن الجماعة لم تتخلى عن العنف طريقا للسلطة يوما ما، هذا فضلا عن سيناريو جديد كانت تعد له للنيل من عبد الناصر وعموم نظام ثورة تموز/يوليو، حيث أن ” الجماعة وبعد أن أصبحت مع عبد الناصر وجها لوجه منذ أيار/ مايو 1954 م قد وضعت خطة انتفاضة شعبية لإسقاط النظام، اثر إبرامه النهائي لاتفاقية الجلاء. وقد تصور الهضيبي هذه الانتفاضة الشعبية المتكاملة مع حركة عسكرية في الجيش، على غرار الانتفاضة الشعبية المسلحة التي أسقطت نظام الديكتاتور السوري أديب الشيشكلي عام 54، وحدد الهضيبي وظيفة هذه الانتفاضة بإعادة الحريات السياسية والحياة النيابية والإفراج عن المعتقلين السياسيين وتسليم السلطة إلى المدنيين” (22).وبعيد الصدام بين عبد الناصر والإخوان، ونجاح ناصر في النيل من الجماعة وكسر شوكتها، عاد التوافق بينهما من جديد، وذلك بعد أن أطمئن ناصر إلى قوة موقفه ورسوخ سلطة وصلابة الجبهة الداخلية والولاء له على الصعيد المصري المحلي، وعلى الصعيد العربي، بوصفه “قائدا عربيا ثوريا يقارع الاستعمار ويناضل من أجل تحرير فلسطين”، ومن هنا وبعد حوارات عديدة مع المعتقلين، تم ” الإفراج تدريجيا عن العديد منهم، ففي منتصف 1956 م افرج عن أعداد ممن لم يحكم عليهم. وعام 1960 م بدأ بعض المحكوم عليهم يخرجون بعد قضاء مدة العقوبة، وقد تكونت من بعضهم فيما بعد “مجموعات الخمسات” أي الذين قضوا في السجن خمس سنوات. ثم حدثت افراجات أخرى بين 1961 م و 1964 م حين خرج الجميع حتى الذين لم يكونوا قد أتموا بعد مدة العقوبة. وكان قد افرج من قبل عن المرشد حسن الهضيبي وصدر له عفو صحي، وكذلك افرج عن سيد قطب، وتم وضع قانون خاص للموظفين من الإخوان الذين فصلوا، للعودة إلى وظائفهم” (23).ولكن الإخوان ما لبثوا أن عادوا إلى طبيعتهم، وبدءوا بالعمل السري من جديد، حيث كان الهدف هو السلطة مثل كل مرة. فكان لديهم في هذه الفترة هاجسان طغيا عليهم: الأول: هو الانتقام لما حصل لهم عام 1954 م على يد عبد الناصر ونظامه، والذي أصاب الجماعة إصابة كبيرة، والثاني: وهو إسقاط النظام العسكري الناصري والحلول محله والحكم بدل عنه، وذلك من اجل تحقيق الحلم القديم وهو تطبيق الشريعة وتأسيس دولة الخلافة. ومن هنا بدا من الواضح أن الإخوان ” لم يستوعبوا التغييرات السياسية والاجتماعية العميقة التي حدثت في المجتمع المصري أثناء غيبتهم في السجون، وكانوا غير قادرين على مواكبة التحول الذي طرأ على البنية الوطنية والديمقراطية في موقف مختلف القوى السياسية منذ الثورة التي نجحت في تحرير جماهير غفيرة من الفلاحين والعمال بقوانين الإصلاح الزراعي وإنشاء بنية صناعية وتعليمية جديدة وحققت إنجازات وطنية وقومية جعلتها في قلب حركة الجماهير. خرج الإخوان من السجن تملأهم فكرة الانتقام لما جرى سنة 1954 م لم يحدث أن قاموا بمراجعة نقدية لممارستهم وعلاقتهم بالثورة وصراعهم على السلطة، وما سبب ذلك من أضرار على الجماعة، إذ أن ثقافة النقد الذاتي والمراجعة لم تكن تجد آذانا صاغية. فمن داخل السجون كانت المحاولات تتعالى لإعادة إحياء المجموعات الاخوانية أملا باستئناف الصراع على السلطة من جديد” (24).وفي هذه الفترة عمل سيد قطب، وكان عضوا في الجماعة، إلى تشكيل تنظيم جديد متطرف للغاية وميّال إلى العنف داخل الجماعة نفسها، حيث أتاح لأنصار التنظيم الذي وضع لبناته في السجن، استخدام العنف والاغتيالات كوسيلة للنيل من الحكومة وتحقيق الدولة الإسلامية، ومن هنا وبعد ” المحاولة الإخوانية لاغتيال عبد الناصر في المنشية 26 أكتوبر 1954 م اعتقل سيد قطب وقٌدم للمحاكمة وصدر ضده حكم بالسجن لمدة خمسة عشر عاما. في مصحة سجن طرّة بدأت رحلة جديدة لتطوير الأفكار. وهي الرحلة التي انتهت باتهام جديد قاده إلى الإعدام” (25).وبدا سيد قطب وهو يحاول الخروج من ثوب المفكر ليدخل ثوبا جديدا هو ثوب القائد الميداني والعقلية العسكرية الفذة، وهو ما لم ينجح فيه، وتخبط في قيادة التنظيم الجديد الذي استمر أربع سنوات(1961 ـــ 1964 م)، واستطاع من خلالها أن يجند حوالي 200 شاب، وبعد أن انكشف أمره، وقبضت السلطات على أتباعه، تخبط سيد قطب ولم يعرف كيف يصدر الأوامر، أو أية أوامر يجب أن يصدرها، فتارة كان يطالب بالتريث وتارة يدعو للرد العسكري القوي، إلى أن القي القبض عليه، ومن ثم حوكم وتم إعدامه عام 1966 م. ومن المهم القول هنا بأن لحظة “تأسيس التنظيم الجديد، كانت لحظة التأسيس الإيديولوجي للإسلام السياسي الراديكالي، يٌضاف إلى ذلك أن التنظيم كان واقعا تحت تأثير قائده المفكر، المعني بأمور التربية والعقيدة وإقامة الحدود الإيديولوجية، أكثر من الأمور التنظيمية والسياسية المباشرة. وحين ينتقل ذلك الإسلام إلى الفعل السياسي الحقيقي سيكون عليه أن يختار بين وضع خطة سياسية حقيقية، وبين التمسك بالمفهوم التربوي القائم على تقسيم النضال إلى مرحلة مكيّة وأخرى مدينيّة، أي بين فكرة الحزب وفكرة الأمة. وسوف ينشطر طرفا التنافس الكامن في فكر سيد قطب فيما بعد، في اتجاهين كبيرين، اتجاه الهجرة واتجاه الجهاد” (26).وكلفت محاولة سيد قطب الالتفاف على الإخوان ورفض أسلوبهم في بث الدعوة، ومن ثم الرهان على العنف وتكفير المجتمع ووسمه بالجاهلي، كلفته حياته، حيث أعدم في عام 1966 م بحكم الإعدام الذي صدر بحقه من إحدى محاكم ثورة تموز/يوليو وفي عهد جمال عبد الناصر نفسه. وبعد وفاة عبد الناصر واستلام أنور السادات السلطة عام 1970 م بدأت صفحة جديدة من العلاقة بين الجماعة والدولة المصرية، وحاول السادات أن يساس الإخوان وأن يدمجهم في الحياة السياسية ويبعدهم عن الميل الواضح إلى التنظيم السري والاعتقاد في العنف والعسكرة. ومن هنا و” مع إطلاق الإخوان من السجن وإعادة ممتلكاتهم والسماح لمن كان يعيش منهم في المنفى بالعودة إلى مصر والسماح للحركة باستعادة مقارها وعقد لقاءاتها العامة وعودة بعض مطبوعاتها، بدأت الجماعة تعيد بناء هيكليتها من جديد. وفي أعقاب الانتصار على إسرائيل في حرب العام 1973 م وتحت شعار “الله اكبر” طرح السادات نفسه بوصفه “الرئيس المؤمن” واستخدم الشرعية الدينية لدعم سياساته. وخاصة عندما بدأ يتجه نحو التخلص من  الالتزامات الاشتراكية الناصرية والتوجه التدريجي نحو الانفتاح الاقتصادي والرأسمالية(..)، ومن هنا جلب دستور العام 1971 م نقاشا واسعا حول موقع الدين والسياسة، حين نصّ على أن “الإسلام هو دين الدولة” واكتسب هذا النقاش زخما اكبر عندما جرى تعديل الدستور في العام 1980 م بحيث أصبحت “الشريعة الإسلامية مصدر التشريع” وترافق هذا مع اكتساب الإخوان لحيثية جماهيرية وفرّت لهم فرصة مناسبة لدخول المعترك العام” (27).وجاء الانقلاب الكبير حينما قٌتل السادات على يد الجماعة الإسلامية المتطرفة، والتي انشقت عن جماعة الإخوان المسلمين في وقت سابق، وانتقدت فكرها وطريقة عملها، لأن الإخوان، بحسب رأيها، يتنازلون في موضوع تطبيق الشريعة واعتبار النظام كافرا، فتوترت العلاقات مع الإخوان من جديد، وظلت تسمية “الجماعة المحظورة” تلاصقهم طوال عهد حسني مبارك ومنذ بداية الثمانينات، إلى أن جاءت الانتفاضة المصرية في 25 كانون الثاني/يناير 2011 م فصعد الإخوان وأسسوا حزبا سياسيا يدعى “الحرية والعدالة”، وتصدروا السلطة في فترة قصيرة، كما سنرى لاحقا.

ثانيا: جماعة الإخوان المسلمين حاكمة لمصر ما بعد التحولات الأخيرة:

ذكرنا كيف تعامل الإخوان مع الانتفاضة المصرية في 25 ـكانون الثاني/ يناير 2011م وكيف تصرفوا بحذر في بداياتها تحسبا لحدوث انتكاسة وعودة نظام حسني مبارك قويا، وكيف انهم تحيّنوا الفرص من أجل الانقضاض على السلطة، وفي هذا المطلب سوف نحلل استلام الإخوان للسلطة في مصر لأول مرة منذ تأسيس الجماعة عام 1928 م وكيف انتهى بهم الحال. ومنذ حادثة اغتيال السادات عام 1981 م وحتى نهاية حكم حسني مبارك في 2011 م فرضت الدولة ومؤسساتها حظرا على جماعة الإخوان المسلمين، وكان الإعلام الرسمي يهاجم هذه الجماعة، بينما كانت صفة “المحظورة” هي المستخدمة في هذا الإعلام، وكذلك في سياسة الدولة الرسمية حيال الإخوان ودورهم في المشهد السياسي العام. بينما كان الإخوان يواصلون نشاطاتهم في التمدد ضمن الشرائح الاجتماعية المصرية المهمشة، وفي السيطرة على النقابات المهنية وقطاع التعليم، ومحاولة بناء إعلام مستقل وجمعيات مدنية وأهلية قوية، أي دولة موازية يكونون هم المرجعية فيها، لكنهم تجنبوا الاصطدام المباشر مع الحكومة، وأظهروا رفضهم القاطع لاستخدام العنف في الرد على سياسة الحكومة بحقهم والتي تميزت بالتهميش والإبعاد والتضييق وتزوير الانتخابات. لقد أعلن الإخوان، مرارا وتكرارا، تمسكهم بخيار السلام وهجرهم لتاريخ العنف و”التنظيم العسكري الخاص”، وعليه يمكن القول إنه وفي هذه المرحلة الطويلة و” رغم تعرض الجماعة لهزات ومحاولات استئصال وحظر عديدة، لكنها برهنت تاريخيًا على قدرتها على التكيّف والتطور مع أهواء السياسة وصراعات السلطة، وأكدت على عمق تجذرّها وحضورها وقوتها رغم حظرها قانونيًا؛ فقد تمكنت من الحصول على 88 مقعدًا من أصل 455 في انتخابات 2005 م بنسبة 20%، وهي نسبة تتفوق على ما حصلت عليه أحزاب المعارضة بعشرة أضعاف، وعقب ثورة كانون الثاني/يناير 2011 م كان حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين واحدًا من عشرات الأحزاب المتنافسة، وفاز الحزب ب 43% من المقاعد في مجلس الشعب، وهو ما يمثل 37% من أصوات الناخبين، وفي انتخابات مجلس الشورى حصل على 58 % من المقاعد المتنافس عليها، وعلى 45% من إجمالي عدد الأصوات” (28).وبدا البعض، خارج أركان الحكومة والدولة، يصدقون “توبة” الإخوان المسلمين، ونبذهم للعنف والإرهاب، ورهانهم على العمل التنظيمي والدعوّي، ورغبتهم في المشاركة في الانتخابات والركون إلى القانون والقضاء، وعدم تدخلهم بشكل سافر في السياسة الخارجية للدولة أو الاعتراض علنيا على اتفاقيات ذات صبغة دولية، تعهدت الحكومة المصرية بتطبيقها أو الحفاظ عليها.  وبعد عام 2005 م واصل النظام التمسك بسياسة الإقصاء والتهميش حيال الإخوان وبقية القوى، ولم تنل الجماعة أي مقاعد أخرى في مجلس الشعب، رغم مشاركتها القوية ذلك الحين، إلى أن جاءت التحولات في بداية عام 2011 م حيث فوجئت الجماعة مثل غيرها بالمظاهرات والاعتصامات، وبدأت في الاستعداد للمرحلة القادمة. وهنا ” امتنع الإخوان، بداية، عن خوض الانتخابات الرئاسية، ثم ما لبثوا أن غيروا رأيهم بأغلبية ضئيلة في مجلس شورى الجماعة لمصلحة خوض الانتخابات. كان هذا قرارا خطيرا ينمُّ على رغبةٍ في حكم الدَّولة، فهذا يختلف في الحكم الرئاسيِّ عن الحصول على الأغلبية البرلمانية التيتشرِّع وتقيِّد حاكم الدَّولة. لقد قرروا حكم الدَّولة وحدهم في أخطر مرحلةٍ في تاريخها، كما منعوا وصولمرشَّحٍ إسلامي معتدلٍ إلى السُّلطة، وهو عبد المنعم أبو الفتوح. وربما كان سبب التَّرشُّح الرَّئيس هوالحفاظ على التَّنظيم، خوفًا عليه من السَّير خلف أمثال أبو الفتوح، على غرار تفسير العصبية التَّنظيميَّة (لا الدينية) كثيرا من ممارسات الإخوان المسلمين” (29).وفي 30 نيسان/ أبريل 2011 م أسس الإخوان المسلمون حزب الحرية والعدالة ليكون ذراعهم السياسي الذي سيسيطرون من خلاله على الحكم في مصر، وقرروا المشاركة في الانتخابات التشريعية من أجل انتخاب أول مجلس شعب/ برلمان بعد انهيار نظام حسني مبارك، وكانت العيون تترقبهم، والدولة العميقة، الجيش والأمن والفعاليات السياسية والاقتصادية المرتبطة مع النظام السابق، تتجهز هي الأخرى للتعامل مع احتمال فوز الإخوان وقطفهم ثمرة “الثورة المصرية” التي أطاحت بنظام مبارك الراسخ. ورغم الاتصالات مع بعض القوى السياسية، اليسارية والديمقراطية والقومية، بغية بناء تحالف سياسي، إلا أن الإخوان كانوا يثقون في قدرتهم على الفوز في الانتخابات وتشكيل الحكومة لوحدهم، وبالتالي السيطرة على مؤسسات البرلمان والرئاسة والحكومة معا، في الحين الذي كانت فيه القوى الأخرى تتعامل بحذر شديد مع الإخوان، ولا ترغب في التحول لجزء من مشروعهم، أو عامل يكسبهم الشرعية خلال مسيرة سيطرتهم على الحكم في مصر. وفي الفترة ما بين 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 م إلى كانون الأول/ نوفمبر 2012 م جرت انتخابات مجلس الشعب، حيث فاز حزب الحرية والعدالة الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، كما كان الأمر متوقعا. وفرزت النتائج النهائية لانتخابات “برلمان الثورة” المصري عن فوز الإسلاميين ب 70,04% من مقاعد مجلس الشعب المخصصة للمنتخبين، وفاز تحالف حزب الحرية والعدالة 228 مقعدا، وحزب النور 123 مقعدا، والوفد 42 مقعدا، والكتلة المصرية 33 مقعدا، والإصلاح والتنمية 10 مقاعد، وحزب الوسط 9 مقاعد، والثورة مستمرة 8 مقاعد، ومصر القومي 5 مقاعد، المواطن المصري 5 مقاعد، الحرية 4 مقاعد. وبهذه التشكيلة بدا واضحا بان الإخوان المسلمين بالدرجة الأولى، والسلفيين بالدرجة الثانية، أي (الإسلام السياسي) بشكل عام، هم من سيحكم مصر للفترة القادمة مع بعد “الثورة”، وان الخريطة السياسية والتوازنات الداخلية والخارجية، بل ووجه مصر كليا، سيتغير في المستقبل، وان القوى الأخرى لن تكون قادرة في المدى المنظور على تهديد إنجازات وسطوة الإسلاميين عبر صناديق الاقتراع، وبدا الكل مذهولا أمام تغلغل الإخوان في بنية الدولة وسيطرتهم الممنهجة عليها بشكل هادئ وسلس. واستفادت جماعة الإخوان المسلمين من عدة عوامل في إحراز النصر الكبير في انتخابات مجلس الشعب/البرلمان، وبدت وكأنها تتعامل، تكتيكيا، بمهارة واحتراف مع التغييرات الجديدة، وقد ساهمت الأمور التالية في فوز الإخوان بالأغلبية البرلمان في الانتخابات المشار إليها ” أولا: سياسة القرب والتي تؤشر عليها ارتفاع نسبة الفوز في نمط الاقتراع الفردي، المبني على علاقة الناخبين بالفرد، ورصيد علاقاته ومؤهلاته وخدماته الاجتماعية.ثانيا: الخدمات الاجتماعية التي تميز بها الإخوان في برامجهم والتي ضمنت لهم حضورا وازنا ومطردا في جميع الدوائر.ثالثا: الاشتغال على اعتدال الخطاب وبناء موقف معتدل يسند الثورة، وفي نفس الوقت يدعم الاستقرار، وهو ما لقي استجابة كبيرة من قبل الناخبين.رابعا: الصورة الإيجابية التي ظهر بها الإخوان بخصوص موقفهم من الأقباط ووقوفهم الصارم ضد افتعال الفتنة الطائفية للإجهاز على مكتسبات الثورة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد