بير رستم
إننا نشهد الأيام الأخيرة لإتفاقية “سايكس بيكو” الإستعمارية لعام 1916، والتي كانت إتفاقاً وتفاهمًا سريًا بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وذلك على إقتسام مستعمرات الدولة العثمانية، حيث تم الوصول إلى هذه الاتفاقية بين نوفمبر من عام 1915 ومايو من عام 1916 بمفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس.
لكن وقبل الوصول إلى ذلك لا بد من التأكيد على أن قضية تقسيم المنطقة الشرق اوسطية وفق إتفاقية سايكس بيكو، كانت لها تبعات وآثار متعددة لشعوب المنطقة عموماً، وإن كان الكورد هم أكثر من عانوا _وما زالوا_ من تبعات تلك الإتفاقية الإستعمارية المشؤومة وفي كل جوانب ومناحي الحياة المجتمعية الإقتصادية والسياسية والثقافية وحتى على مستوى الوعي والعلاقات الإجتماعية وصلات القربي، حيث الكثير من العوائل إنقسمت بين دولتين تفصلهما حدود دولية وتوحدهما صلة القربى.
وهكذا؛ فإن للموضوع جوانب عدة متشعبة لا يمكن لأحدنا أن يقف على كل مفاصلها ودقائقها من خلال ورقة بحثية سريعة، بل تحتاج القضية إلى الكثير من الدراسات والأبحاث المعمقة للإلمام بتلك الجوانب والمناحي وبالتالي فإننا سوف نتناول في ورقتنا المقدمة هذه إحدى تلك الجوانب وعلى أمل أن يستكمل النقاط والقضايا الأخرى من قبل الإخوة والزملاء المشاركين.
إن ما نود تناوله في ورقتنا البحثية هذه، هي قضية الإنتماء والهوية الوطنية الكوردستانية حيث كانت لإتفاقية سايكس بيكو نتائج كارثية بالنسبة لشعبنا من حيث قضية الإنتماء والعمق الكوردستاني، كون سياسة التقسيم والإلحاق بالدول الغاصبة لكوردستان والتي جعلت من القضية والجغرافية الكوردية وشعبها بمثابة مستعبدات لها، آثار مدمرة على وعي الأمة بهويتها الوطنية وذلك في ظل غياب ذاك العمق الكوردستاني والذي تم تسويره وحجزه بالحدود والأسلاك الشائكة حيث إن تلك الأسلاك لم تحجز الإنسان الكوردي _فقط_ مادياً داخل أقاليم جغرافية مستعبدة، بل حجزت كذلك وعي الإنسان الكوردي داخل تلك الأقاليم والكانتونات الجغرافية بحيث أصبح الكوردي (السوري) يجد نفسه (سورياً) ويجد أخيه الآخر نفسه (عراقياً أو تركياً وإيرانياً).
وبالتالي تم ضرب أهم ركيزة في وعي الإنسان الكوردي؛ ألا وهي قضية الإنتماء لأمة وهوية وطنية كوردستانية.وهكذا فإن كوردستان ووفق الإتفاقية الإستعمارية الجديدة _أي إتفاقية سايكس بيكو لعام 1916_ قد جزأت وقسمت بين أربع دول بعد أن كانت قد قسمت للمرة الأولى بين كل من الإمبراطوريتين العثمانية والصفوية وفق معاهدة شيرين وذلك إبان معركة جالديران التي “وقعت في 23 أغسطس 1514 .. بين قوات الدولة العثمانية بقيادة السلطان سليم ياوز الأول ضد قوات الدولة الصفوية بقيادة إسماعيل الأول” والتي “انتهت بانتصار القوات العثمانية واحتلالها مدينة تبريز عاصمة الدولة الصفوية، وأدت إلى وقف التوسع الصفوي لمدة قرن من الزمان وجعلت العثمانيين سادة الموقف، وأنهت ثورات العلويين داخل الإمبراطورية. وترتب على المعركة بالإضافة إلى الاستيلاء على تبريز عاصمة الدولة الصفوية، سيطرة السلطان العثماني على مناطق من عراق العجم وأذربيجان ومناطق الأكراد وشمال عراق العرب، ثم توجهه صوب الشام حيث أكمل انتصاراته على المماليك حلفاء الصفويين بمعركة مرج دابق”. وذلك بحسب ما تذكره الموسوعة الحرة.
إن إنقسام كوردستان بين هذه الدول من جهة وممارسة سياسات التعريب والتفريس والتتريك وذلك بحسب وقوع الإقليم الكوردستاني تحت هيمنة وإستعباد أيٍ من الدولة الغاصبة للجغرافية الكوردستانية، فقد شكلا طرفي الكماشة الخانقة على الإنسان الكوردي، لكي يفقد ذاك الإنتماء للهوية والأمة الواحدة ويستبدل تلك الهوية والإنتماء الوطني الكوردستاني، بإنتماء وهوية وطنية مزيفة؛ حيث بات يمارس “الفرد الكوردي” في واقع التقسيم وعياً وطنياً بديلاً ومخادعاً ويدافع عنها وذلك بأن الإقليم السياسي للدولة الغاصبة له ولقضيته وجغرافيته هي هويته الوطنية حيث وللأسف فقد رأينا ذاك الخطاب والإنتماء (الوطني) المزيف لدى الكثير من الأحزاب والقوى الكوردية وخاصةً في الإقليم الغربي من كوردستان “روج آفاي كوردستان”، مما كان _وما زال_ يكرس تلك الثقافة الوطنية الزائفة والبديلة، بل والمستلبة للشخصية والهوية الحقيقية للإنسان الكوردي ونقصد بها الهوية الكوردستانية.
لكن وبفضل الوعي الثقافي الجديد للنخب الثقافية الوطنية الكوردستانية، بالإضافة إلى الدور المحوري لأهم حركتين سياسيتين كوردستانيتين ونقصد بهما كل من حركة شعبنا في الإقليمين الجنوبي والشمالي؛ حيث الثورة البارزانية بقيادة الزعيم الروحي للأمة الكوردية الأب مصطفى البارزاني (1903 – 1979) والذي “شارك أخاه الأكبر أحمد البارزاني في قيادة الحركة الثورية الكردية للمطالبة بالحقوق القومية للأكراد”، كما نعرف وتؤكدها المصادر التاريخية بأنها كانت مركز إستقطاب للهوية والإنتماء لقضية وهوية واحدة وذلك على الرغم من “إخماد هذه الحركة من قبل السلطة الملكية في العراق والقوات البريطانية المحتلة التي أستخدمت ولأول مرة في التاريخ الأسلحة الكيميائية ضد المناطق التي سيطر عليها الثوار الأكراد” وذلك بحسب تلك المصادر ومنها الموسوعة الحرة، لكن ورغم ما سبق فقد استطاعت هذه الثورة ان تشعل مجدداً الروح القومية لدى الكورد عموماً ويشعرهم بالإنتماء إلى الأمة والهوية الواحدة حيث وجدنا تعاطفاً كوردياً، كوردستانياً في عموم جغرافية الوطن، بل ومشاركة فيها وذلك من مختلف أبناء ومناطق كوردستان، إن كان بحمل السلاح أو المؤازرة والتأييد السياسي والشعبي وكذلك المادي العيني.وهكذا فإن الثورة البارزانية كانت الإنطلاقة الأكثر تأثيراً وحسماً في العصر الحديث لإعادة بعض التوازن إلى مفهوم الإنتماء للهوية الوطنية الكوردستانية وقد جاءت ثورة الإخوة في الإقليم الشمالي من كوردستان مع قيادة حزب العمال الكوردستاني لأهم ثورة تاريخية لشعبنا في ذاك الجزء والتي ما زالت مستمرة ليومنا هذا، لتستكمل المشهد السياسي الكوردستاني وتؤكد على هذا الجانب، بأننا ننتمي لأمة وهوية واحدة وتجمعنا قضية مشتركة حيث وجدت ضمن صفوف قوات الكريلا ما يؤكد على الجغرافية الكوردستانية الواحدة وبذلك شعر المقاتل في صفوف تلك القوات ما يؤكد على إنتماء حقيقي للهوية وهو بين أحضان جبال كوردستان وبذلك تم التأكيد على أهم مرتكز لأي ثورة حقيقية؛ ألا وهي مسألة الإنتماء لهوية وأمة وقضية وطنية تؤسس لشخصية الإنسان الحقيقي وليس إنساناً زائفاً مستلباً من قبل هويات محتلة غاصبة، كقضية الإنتماء للوطنيات البديلة (السورية، العراقية، التركية أو الإيرانية).
ولكل ما سبق وذكر ونحن نرى الذكرى المئوية لتلك الإتفاقية السيئة الصيت، فإنه من المهم والضروري لكل النخب الثقافية والسياسية الكوردستانية العمل والتأكيد على الإنتماء للهوية والأمة الواحدة وربما الظروف والمناخ السياسي والمصالح الإقليمية والدولية لا تسمح لشعبنا وحركاتنا السياسية العمل على وحدة العمل الوطني المشترك وإنجاح الثورة الكوردية ضد كل هذه المشاريع والدول الغاصبة لكوردستان وتحقيق الحلم الكوردي في إقامة وطن واحد موحد لشعبنا، لكن من الضروري والحيوي هو العمل على تقريب وجهات النظر بصدد الهوية الكوردستانية، بل محاولة توحيد الخطاب السياسي الوطني الكوردستاني والتأكيد على أن للكورد إنتمائهم الحقيقي وهويتهم الوطنية التاريخية وبأن كل الإنتماءات الأخرى ليست إلا إنتماءات زائفة غاصبة وعلينا رفضها _على الأقل ثقافياً_ بحيث نشكل وعياً جديداً للأمة تشعرها بهويتها الوطنية الكوردستانية.وأخيراً أتوجه لكل الإخوة المشاركين في ندوتكم الحوارية بأجل التقدير والمحبة داعياً للجميع بالتوفيق والنجاح في مهامه، متمنياً لكم ولعملكم الوطني الهام الإستمرار والديمومة لعلنا نقدم ما هو الواجب والضروري لقضايا شعبنا وأمتنا وهويتنا وانتمائنا الكوردستاني.
بير رستم – سويسرا / لوتزرن 2016.