الأمة الديمقراطية

يوسف خالدي

ربما تعد قضايا الأمة والدولة والسلطة، أهم وأبرز القضايا التي أنتجتها الحداثة في القرنين الماضيين والدولة القومية، أبرزها على الأصعدة، السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية، لا زالت أثارها واضحة في معالمها التي تدل عليها اليوم، من حروب ونكبات وصراعات دامية وكوارث حلت بالمجتمعات والبيئة والإنسان، والثقافات. يتم تقديم الدولة القومية وتسويقها كحل لكل القضايا التي تواجه مجتمعات الحداثة أو تلك التي تسعى إلى بلوغها بعد ولم تصلها، ولكن الواقع يقدم لنا صورة أخرى غير تلك التي يتم العمل على تقديمها، بما تسببه الدولة القومية من تشابك وتداخل في القضايا التي تفرزها الدولة القومية وانشطارها وتكاثرها وتعقدها ، بسبب تدخلها الفظ والسافر قي قضايا المجتمع، وتغلغلها في بنيته الكونية.

الأمة مصطلحاً:

هي المجتمع في صورته النهائية التي استقر عليها بعد أن مر بفترة الكلان والعشيرة وتجمعات القرابة التي تنتهي إلى حالة يتم تعريفها، بالقوم، أو الشعب، أو الملة التي تجد نفسها في روابط كاللغة ، أو الثقافة ، تشدهم وتقربهم إلى بعض .
من هذا التعريف يمكننا التوصل إلى دلالتين لمفهوم المجتمع
1 -مفهوم القوم .

2 – مفهوم الأمة .

مفهوم القوم ويدل على:

تجمع واجتماع عشائر وقبائل تتحول لاحقاً إلى قوم بعد أن مرورهم في مراحل تتطلب الاستقرار الذي يمهد لتطور اللغة والثقافة المشتركة، من خلال العلاقات الاجتماعية التي تكون قد نشأت وترسخت.

مفهوم الأمة :

وتدل على السعة في الشمول، وحجماً أكبر للأقوام والعشائر والقبائل من ناحية العدد ودلالات هذا المفهوم ذهنية أكثر من كونها واقعية، تتميز بصفة المرونة في الروابط بين الأطراف المنتمية إليه، وهو كمصطلح من الظواهر الاجتماعية والسياسية في هذا العصر، عصر الحداثة. الذي أنتج مجتمعات لم تحتاج في صيرورتها إلى تكون أمة سوى إلى تكوين عالم ذهني وثقافي مشترك بغض النظر عن الطبقات الاجتماعية وموقع الفرد فيها ، أو الجنس واللون أو الإثنية، والجذور العرقية ، وهي تميل في طبعها إلى الاستبداد ، والعنصرية بجكم طبيعتها الأحادية التي لا تتقبل التعددية وفي غاياتها الساعية إلى خلق التجانس التام والكامل ، لتحقيق الهيمنة والاحتكار في جميع المجالات ومناحي الحياة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية كونها إنتاج الدولة القومية في عصر الحداثة الرأسمالية ، يقابلها على الضفة الأخرى الأمة بمفهومها الحداثوي الديمقراطي في صيرورتها القائمة على الاقتصاد الخالي من مظاهر الاحتكار ، وصداقة البيئة التي تحتوي المجتمعات كوعاء لا بد من الحفاظ على نظافته ونقائه ، والمفاهيم الديمقراطية باعتبارها قيمة تحقق للبشرية إنسانيتها.
ما هي مكانة الوطن المشترك والسوق المشتركة في الأمة الديمقراطية، هل تدخلان ضمن مقوماتها وعوامل وجودها، أم أن هذين المفهومين يخصان مفهوم الدولة القومية ومن شروط وجودها فقط. يحظى هذين المصطلحين بمكانة رفيعة في مفهوم الأمة الديمقراطية لدى أوجلان ، كون مصطلح الوطن يمثل تلك الأرضية التي لا يمكن تأسيس أي مفاهيم ذهنية أو ثقافية ، ليس فيها للأرض والجغرافيا تأثير حاسم في نشوء وتكون تلك المفاهيم نفسها ، دون تاريخ يشد تلك المفاهيم إلى ذكريات وصلات وعلاقات تربطها بوطن . ولكنها تختلف تماماً عن تلك الأواصر التي خلقتها أمة الدولة التي شنت باسمهما ولأجل تحصينهما أكثر الحروب دموية في التاريخ، فالوطن في عرف مالك الدولة القومية ساحة للملكية حيازة وهيمنة واحتكار، والسوق ساحة ثمينة للربح المتعاظم والمتراكم الذي يوفر القوة التي بدورها تؤمن السيطرة والهيمنة . ولكن هل يكون تقديم الوطن على الإنسان والمجتمع هي الوطنية ؟. أم أن المجتمع هو الأولى بالأفضلية والتقديم، وبالتالي هل يكون شعار كل شيء من أجل الوطن هو الأكثر تعبيراً عن الحقيقة أم أن كل شيء والوطن يجب أن يكون لخدمة الإنسان والمجتمع ؟. إن نذر ووهب كل شيء للوطن، دفع بالفاشيات إلى سدة الحكم على مر التاريخ وحرى تقديم الإنسان والمجتمع قرابين باسم الوطن ليس لشيء سوى لحماية الملك أو السلطان أو الحاكم.

اللغة:

رغم أن اللغة تشكل عاملاً مهماً ولكنها ليست بالشرط الوحيد الحتمي الذي لا تكون الدولة إلا به في عرف الدولة القومية التي لا تتساهل في هذا المفهوم ، في حين إن عدة لغات رسمية قد تكون ضرورية ومساعدة لتشكل الأمة الديمقراطية التي تعتمد التعدد والتنوع كشرط لتطورها وليس لتكونها فقط أمة الدولة، لا تعترف بمصالح المجموعات المتباينة ضمن الأمة، ولا بحقوقها وحرياتها. كون الإيديولوجيا القومية، دين الدولة القومية، فالدولة القومية هي إله هذه الدولة ومعبودها الأيديولوجي الدولة القومية (أمة الدولة ). بما تمتاز به من مركزية شديدة حين تستدعي الظروف و تتطلب الحاجة تحولها إلى دولة فدرالية ، أو لا مركزية، أو كونفدرالية وحال تحقق ذلك، تكون قد قدمت حلولاً للكثير من القضايا الوطنية الخلافية التي دارت حوله، أو تدور الصراعات حيث تكون بمثابة الوصفة التي قد تساعد في التئام الوحدة الوطنية إلى حد ما، لكنها تبقى عاجزة عن حل القضايا بشكل جذري ونهائي إن لم تكن الديمقراطية خياراً لا بديل عنه للدولة والمجتمع.
في هذه الحالة تكون الحلول الفدرالية وسيلة لا يمكن تجاوزها، حين يتم اعتمادها بين القوى الداعية إلى الحلول الديمقراطية وبين الدولة القومية، لكن دون الانقياد إلى وهم الاعتقاد بأن الفدرالية تلك، هي حل نهائي وجذري لكل القضايا العالقة.

الدولة القومية والحل الديمقراطي:

حين يتم تداول مفهوم الحل، فهذا يعني أن الحلول تلك تنضوي ضمن إطار تلك الدولة القومية، كون مفهوم الحل يتطلب طرفين يشاركان فيه. إن أي حل ديمقراطي لا يمكن الفصل بينه وبين الدولة القومية إن أخذنا الدولة ببعديها المجتمعي المدني و في بعدها السياسي – السلطوي ، مع توفير مقومات ومستلزمات الفصل الذي يقوم على أسس وقواعد دستورية تحدد نفوذ ومجال وحدود وصلاحيات كيان الدولة وكيان المجتمع. هذا التداول يتطلب تحققه، المرور عبر تحولات ديمقراطية، تؤمن للمجتمع استقلالية نسبية شبه مستقلة عن الدولة من خلال الممارسة الجهوية للديمقراطية في بعدها المحلي ، والعام ضمن الدولة ، واعتماد الديمقراطية كثقافة وسلوك ونمط حياتي وضمن عملية سياسية واضحة في أساليبها وغاياتها، والوصول بذلك إلى حالة من الثبات في كل المجالات. حل القضية الكردية من وجهة نظر أوجلان وفق الحل الديمقراطي القائم على مفهوم الأمة الديمقراطية .

يستند إلى:

اعتماد الحقيقة العلمية بوجود كردستان كحقيقة استمدت نفسها ، من خلال نيلها هذا الاسم من منطقة جغرافية استمدت أسمها من تسمية سكانها الذين سميوا بهذا الاسم من الشعوب الأخرى ، وهي غير قابلة للمساومة بهدف إنكار وجود الأمة الكردية ، أو التنكر لحقوقها وقد فشلت كل المحاولات التي أتبعتها الدول القومية حين اختارت الحلول التصفوية والإبادة بأنواعها ، منع هذه التسميات لتلك الجغرافيا وساكنيها من الانتشار والتداول . عدم اعتماد مفهوم الانفصال عن الدولة كخيار وحيد لا بديل عنه للحل يمكن تصوره واعتماده. الحل الديمقراطي لا يتبنى مفهوم الدولة المستقلة كشرط لا يمكن تجاوزه. لا يميل إلى تبني الحلول الدولتية الفدرالية أو الكونفدرالية كتصور مسبق للدولة القومية المشيدة ، ولكنه لا يرفضها كخيارات يمكن لها أن تطرح على الساحة في رحلة البحث عن الحل الديمقراطي كمقدمة ومدخل صحيح للنفاذ إلى الحل الجذري كون الفدرالية تفسح المجال أمام إدارة المجتمع لذاته ديمقراطياً ، ويتبنى مشروع الفدراليات والكونفدراليات الديمقراطية للمجتمعات ويقدمها إلى الأمام كحل جذري للقضايا جميعاً .
المشروع يقوم على مبدأ اعتراف الدولة بإرادة الكرد كأمة يحق لأبنائها إدارة أنفسهم بنفسهم، دون أن تتدخل الدولة في هذه القضية، التي ستكون معنية فقط وخاصة بالمجتمع الكردي وحده. سلطات الدولة تتوقف عند حدود معينة، حين تلامس إرادة الكرد في تلك الإدارة الذاتية . الحل الديمقراطي يستند إلى شرط أساسي يتطلب أن تلتزم الدولة القومية بالديمقراطية كأسلوب ومبادئ وسلوك وقيم فعلاً لا قولاً،
ولكن . ! لما كانت دولة أمة الدولة عاجزة عن تقديم الحلول الديمقراطية بحكم طبيعتها الاستبدادية، فالمهمة على الأغلب ستكون ملقاة على عاتق القوى الاجتماعية التي يجب عليها أن تبحث عن تلك الحلول وتتبناها بسبب تمنع الدولة القومية وعجزها ذاك من خلال التوصل إلى حالة وفاق وطنية تصاغ مضامينها في عقود اجتماعية تكون دستوراً للدولة يحدد العلاقة بين المجتمع والدولة، يعين المجالات ويحدد المسؤوليات .

هل الحلول الديمقراطية تؤسس مفهوماً جديداً للأمة :

إن التعريفات جميعها التي يتم بها تحديد مقومات الدولة القومية، أو الأمة في تشكلها ونشوئها كاللغة والثقافة السوق ، الأرض التاريخ وحصر تلك التعريفات بها على أنها العناصر الوحيدة والكافية ثم والانتهاء إلى استخلاص أحكام تعمم على أنها حقائق ثابتة ، أمر لا يتفق مع منطق العلوم الوضعية ، ولا أحكام العقل ولا الواقع. هذه التعريفات التي جرى استخدامها منفردة أو مجتمعة، شكلت إحدى الأسباب التي أدخلت البشرية في صراعات وحروب، وسببت مآسي كبيرة، وويلات عانت منها الشعوب والمجتمعات في عصرنا الحديث، حين اعتمدتها أنظمة سياسية وبانتقائية فجة تناقض تاريخ الشعوب في التعريف بدولتها القائمة على عناصرها تلك ، تساوى في ذلك اليسار واليمين من القوى الاجتماعية التي وصلت إلى السلطة. تم إخضاع الشعوب والمجتمعات إلى سلطة الدولة التي استطاعت ومن خلال أذرعها وأدواتها ووسائلها التي استخدمتها بحنكة للتدخل في مجتمعاتها والتغلغل في أدق تفاصيل بنيتها، بغية صياغة تلك المجتمعات، وإعادة هندستها وفق إرادة الدولة وإيديولوجياتها القومية، والدينية، والجنسوية. تحدثنا عن مفهوم الأمة الديمقراطية دون أن نحدد تعريفاً لها، ولأجل أن نلم بالتعريف لا بد لنا من تحديده كمصطلح بداية. هذا التحديد والتعيين سيصل بنا إلى التعريف به من كل الجوانب .

مصطلح الأمة الديمقراطية:

هذا المصطلح ينفي عن نفسه أية حدود ترسمها أفكار أصحاب الدولة القومية ، التي تصل إلى حدود القداسة ويسمو ويتعالى على تلك الإدعاءات التي تسعى إلى إظهارها على أنها حقيقة مطلقة غير قابلة للتغير أو التبدل.
المصطلح يحتوي على بعدين أساسيين :

1- محلي ذاتي

2- عام موضوعي

أولاً البعد الذاتي المحلي، يحقق نفسه من خلال الأمة الديمقراطية التي تتيح الفرصة للسكان المحليين والمناطق ، بالإعلان عن انتسابهم إلى هوية فرعية كأفراد وجماعات قائمة بذاتها محلياً أولاً مع امتلاك الحق في الإعلان عن تمثيل وجودها من خلال هوية عامة مشتركة قادرة على التعبير عن تلك الهويات الفرعية على أنها أجزاء من الكل الذي لا يكتمل إلا إذا تضمن جميع أجزاءه التي بمجموعها تشكل نواة وجوهر تلك الهوية الجامعة الكلية من خلال المشتركات الوطنية والإنسانية ثانياً، كبعد موضوعي وعام. هل يعني هذا التعريف أنه يتقبل كل التعريفات الأخرى للأمة ؟ . إن كان الأمر كذلك، فما الفرق هنا بينها جميعاً وبين هذا التعريف الجديد. إن الإقرار بأهمية كل تلك العوامل التي عرفت بالأمة، يجب أن لا تعيق أية مساعي أخرى في مجال البحث عن مفهوم عصري متقدم يكون بمثابة الوعاء الذي يضم كل تلك التعريفات مضاف إليها روح العصر والاستخلاص من تجارب الشعوب، وما حققته العلوم المختلفة من انتصارات في جميع المجالات:

فنقول :

هي مجموعات من البشر وأناس يتشاركون في مفاهيم ذهنية متشابهة ومتماثلة.

هذا التعريف يتضمن افتراض وجود مفاهيم معينة مجردة تكونت قي أذهان أناس يتميزون بالاختلاف والتعددية في الكثير من الخصائص في الواقع المعاش، كأناس حقيقيين تربطهم الكثير من الوشائج والصلات والعلاقات يشتركون في تصورها دون أن تكون تلك الصور محددة بفواصل تتحكم في تعريفها وتميزها عن المفاهيم الأخرى الموازية لها بذاتها كالدين، واللغة ، الثقافة السوق ، التاريخ . الخ .
بعبارة أخرى، إن هذا المفهوم يتضمن كل تلك المفاهيم الأخرى والعوامل التي تعرف بها الأمة ولكن دون أن يكون لأي عامل صفة السيادة والشمولية والهيمنة على باقي العوامل الأخرى مجتمعة و مطابقاً لجوهره ومضمونه القائم على التعددية، والتنوع والاختلاف.

ما الفرق هنا بين هذا التعريف الجديد، وتلك التعريفات الأخرى؟.

الفرق هنا واضح وجلي كون التعريفات الأخرى تعتمد عنصراً أو أكثر يكون هو الأساس والوحيد للتعريف بالدولة القوموية الأحادية الرافضة لكل صفة أخرى تتعارض مع وحدانيتها . في حين أن التعريف الجديد يقودنا إلى شكل جديد يحدده المضمون المتمثل بالتعددية، والتشاركية، التنوع، والقبول بالوجود المتبادل بدلاً عن الأحادية الرافضة النابذة. الأمة الديمقراطية لا تكتفي بالشراكة الذهنية والثقافية فقط، وإنما تسعى إلى تأطير مقدراتها ومقومات وجودها ضمن الإدارة الذاتية الديمقراطية شبه المستقلة للمجتمع، باعتبارها شرطاً أساسياً لصيرورة وجود الأمة الديمقراطية، هذه الإدارة تخلق بديلاً عملياً للدولة القومية الموجودة بالفعل. كيف يمكن تحويل ما هو ذهني إلى واقعي والمجرد إلى ملموس، كيف يمكن بناء أمة وفق عالم ذهني تشكله المفاهيم المجردة؟، وهو سؤال يحتاج إلى جواب قد نجده في هذا التوضيح. إن كانت الذهنية القومية تحقق نفسها في إطار الدولة القومية، فإن الإطار الذي ستحقق نفسها فيه الأمة الديمقراطية هي الإدارة الذاتية شبه المستقلة عن الدولة القومية ، كونها إدارة ستكون معبرة عن إرادة جماعات من البشر يتشاركون في ذهنية قادرة على تخيل مفاهيم ذهنية تدل على إمكانية أدارة أنفسهم في هيئات تعبر عن تلك التصورات المشتركة، تسعى إلى تحقيق ذلك.
هذا التعريف يحمل في جوهره ويتضمن رفضاً لكل تلك الحلول الدولتية التي تعتمدها الدول القومية لحل مشاكل الدولة البنيوية، ويلغي حتماً تسلط الدولة من خلال امتلاك المجتمع لكيان يشكل نصف الدولة الأخر، له الحق الطبيعي في التعبير عن وجوده من خلال تلك الإرادات في سلطة مجتمعية.

ما هو موقع القضية الكردية، وآفاق حلها وفق هذا التعريف المخالف والمناقض للدولة القومية بمفهومها الرافض لأي هوية أخرى غير هوية الدولة؟.

هذا التعريف يوفر للكرد، حق التحول إلى أمة تتجسد تطلعاتها في هيئة شبه مستقلة ديمقراطية ، تكون منفتحة على غيرها من نماذج الأمم الأخرى قادرة على ضم أمم أخرى بين طياتها ، تسعى إلى إيجاد عوامل الوحدة بين ثقافات الشعوب في الشرق الأوسط في المنظور العام للقضية الكردية كأمة موزعة على دول قومية لا تعترف بالوجود الكردي ضمن حدودها. إن عملية البحث عن الحلول لقضايا الصراع والخلاف ضمن هذه الدول، ستقود بالضرورة إلى إيجاد الحل الديمقراطي العادل والسلمي للقضية الكردية و سيحتاج هذا البحث بالضرورة إلى التفكير في بعدين أساسيين:

أولاً : البعد الذهني

ويكمن في السعي إلى التأسيس لعالم ذهني مشترك تطفوا عليه مشاعر التعاضد والتشارك ، والتكامل والتعاون القائمة على وعي مشترك بالانتماء إلى التاريخ والجغرافيا كأرضية مشتركة ، وإلى شحذ الخيال المتطلع إلى إنشاء عالم حر ومتساو يرتكز إلى مقومات من الاختلاف والتعدد والتنوع ، وتكريس ذلك في السلوك العملي الرافض للاستحواذ والهيمنة .

ثانياً :

هذا العالم الذهني الذي يتم التأسيس له من خلال المفاهيم المجردة لا بد له من أرضية يركن إليها ويستقر مع توفر إطار له يحدد معالمه، وشكلاً يعبر عن مضمونه. هذه الأرضية تجد نفسها في الوجود المجتمعي الذي سيتطلب إعادة ترتيب وبناء تركيبته من جديد لتنقيته من شوائب الحداثة الرأسمالية في صيغة الدولة القومية التي أوصلت مجتمعاتها إلى حدود السقم المزمن وخيارات الإبادة الثقافية وذلك باعتماد الأمور التالية:
إعادة إعداد و بناء المجتمع وفق أسس علمية، مع توفير التدريب اللازم ضمن مؤسسات علمية، فلسفية، فنية، دينية وتأمين متطلبات ومستلزمات ذلك من معاهد ومدارس وجامعات. مع إبلاء كل الأهمية اللازمة للأبعاد التاريخية والاجتماعية و خلق انطباعات بأن الحاضر هو الحيز الوحيد والمجال الذي يتشكل فيه الوعي بالمستقبل وإدراك ما يمكن تصوره من معالم وفق هذه الذهنية وما سيتم توفره من وعي مشترك بالثقافة الاجتماعية التي يحددها العصر الذي نعيشه ، وتقوية تلك المشاعر والأفكار والمعاني التي تقوي النظرة التشاركية والجماعية .

ما يخص الكرد :

لا بد من بناء تصور يرى الأمة الكردية أمة قائمة بذاتها، على صعيد عالم الفكر والمشاعر الجميلة فيما يتعلق بنشوئهم كأمة تتمتع بوجودها بالاستفادة من الثورة العلمية، الفلسفية، والفنية، بالاعتماد على الذات والدفع بها إلى التعبير عن نفسها لخلق حالات الإبداع المستمرة في تلك المجالات. الدول القومية القائمة بالفعل مطالبة في سلطاتها الحاكمة الالتزام التام والمطلق غير المنقوص بحرية الفكر والرأي والتعبير ، أمور تحددها التغيرات التي يجب أن تنال من الدولة القومية، بالإعلان عن رغبتها الجادة في العيش المشترك مع الكرد وفق معايير يتم الاتفاق عليها تكون مشتركة بين الطرفين على الدولة القومية أن تحترم إرادة الكرد في حقهم بتكوين عالمهم الفكري والعاطفي، وبحقهم في بناء مجتمعهم الوطني بما يميزه من فوارق. هذا الاعتراف يتطلب إقراراً في الدستور تكون فيه حرية الفكر والرأي والتعبير والهوية. مكفولة ومضمونة. يتطلب الطريق الثاني البعد المادي:

ويمكن تحديده ضمن إطارين

الإطار العام :

بتوفير مساحات واسعة من الحرية في الأبعاد الثقافية والاقتصادية، الاجتماعية، القانونية، الدبلوماسية ضمن إطار الدولة العام وحدودها القائمة.

البعد الخاص:

ويتحقق من خلال الإقرار باستقلالية شبه تامة للأمة الديمقراطية من خلال سلطة تعبر عن استقلالية ذاك الوجود المادي الملموس، في إدارة ستكون متعارضة مع حدود السلطة السياسية للدولة القومية ، بحكم رفضها القبول بأي سلطة للمجتمع خارج حدود سلطتها المركزية أو أي اعتراف بإرادة أخرى فرعية قد تقاسمها السلطة إلا إذا وجدت السلطة نفسها في وضع يلزمها القبول بذلك. الاستقلال شبه الذاتي للمجتمع الديمقراطي ( الإدارة الذاتية ). سيحتاج إلى إيجاد توافق بين الدولة القومية باعتبار أن ذلك التوافق ، يحقق الحد الأدنى من مستلزمات ومقومات العيش المشترك في الدولة القومية المشادة والقائمة بالفعل على أرض الواقع، مع القومية المسيطرة كسلطة حاكمة على الدولة، باعتبارها توفر مستلزمات السقف المشترك القادر على إيواء كل الأطراف تحت ظله. هذه المعطيات تقودنا إلى نتيجة تقول بأن أي حل أخر أدنى مرتبة من ذلك لن يحل أي قضية أخرى على المستوى الوطني في الدولة، بل سيزيد في الصراع ويدفع به إلى نهايات أفاقها مسدودة.

الحل القائم على مبدأ شبه الاستقلال الديمقراطي ، والمتمثل في (الإدارة الذاتية ). يحقق نفسه عبر آليتين يمكن اعتمادهما على صعيد البحث عن الحل الديمقراطي.

أولاً :

الوفاق والتوافق .

الوفاق والتوافق مع القومية التي تحكم الدولة القومية وفق عقد اجتماعي تشترك في صياغته جميع مكونات المجتمع كأطراف أصيلة في عقد للشراكة يستند إلى إرث الشعوب وحضاراتهم المشتركة في المنطقة وعلى الثقافة والعلاقات التاريخية .

ثانياً :

استبعاد أي تصور يتضمن أفكار قد توحي أو تشير إلى سياسات الصهر والتذويب، وإقصاء للمختلف، مع التخلي نهائياً عن خيارات حلول الإبادة التي كانت تتبعها الدولة القومية وانتهت إلى الفشل التام لصالح المفاهيم المشتركة، دولة يكون فيها الأفراد والجماعات متساوون في الحقوق والواجبات. مقابل تخلي الكرد عن مطلب الاستقلال التام وإنشاء الدولة .

بعبارة أخرى أدق وأوضح ؟

مشروع الإدارة الذاتية أو شبه الاستقلال الديمقراطي يحدده شرطان:

أولاً:

تخلي الأمتين عن الميول الدولتية ، ورغبات الاستئثار بالدولة وصرف النظر عن الجموح والإصرار على أن تكون للدولة أمة محددة بتعاريف تدل على الأحادية والاستئثار والتسلط ، ونبذ الأخر المختلف.
إقرار الدولة وقبولها بمفهوم شبه الاستقلال الديمقراطي، كحل وحيد لحل للقضايا العالقة مع الاعتراف بكل الثقافات الموجودة ضمن حدود الدولة على أنها ثقافة الأمة كلها في إطار حالة وفاق. عدم قبول الدولة بهذا الحل ا لديمقراطي القائم على الحق في تقرير المصير الذي يتيح للفرد والمجتمع إدارتهم لأنفسهم، سيؤوي إلى خيارات أخرى رافضة لسياسات الدولة المصممة على قومية الدولة والتصدي لحلول الإبادة المتبعة ، واستمرار الحروب والاقتتال المستمر.

الطريق الثاني لشبه الاستقلال الديمقراطي:

أن يبادر الكرد وبشكل أحادي حال تعذر التوصل إلى حالة وفاق مع الدولة القومية إلى تطبيق وتنفيذ مبدأ حق الكرد في حكم وإدارة أنفسهم بنفسهم. في هذه الحالة سيكون الكرد معرضون إلى هجمات الدول القومية من إيران ، سوريا ، تركيا .كل على حدة أو مجتمعين . إن فشلت الحلول الديمقراطية وتوفرت لهذه الدول الشروط الذاتية والموضوعية في أكمال سياساتها التي لا زالت مستمرة وهذا مستبعد في ظل الأوضاع التي تمر بها المنطقة حالياً.
هذه الهجمات التي ستكون على شكل حملات إبادة وتطهير عرقي وثقافي وإنكار لوجود الكرد وأي قضية لهم سيدفع بالكرد في هذه الدول، إلى خيار المقاومة ورفض تلك الحلول وسيجدون أنفسهم ملزمون بخوض حرب دفاعية للحفاظ على وجودهم في تلك الدول ، مع تسريع خطى إيصال الكرد إلى مستوى الأمة الديمقراطية بكل معانيها وإبعادها، اعتمادا على الذات والمقدرات الذاتية حتى يتم التوصل إلى حالة من التوافق على الدولة التشاركية، وفق مبدأ الاستقلال شبه التام الديمقراطي للمجتمع الكردي، تنحسر فيه هيمنة الدولة بسلطاتها عن المجمع بشكل عام و الكردي بصفة خاصة. أو تحقيق الاستقلال التام والكامل لكردستان إن استمرت الدول القومية في تقديم خيار حل الإبادة. وتم رفض كلا الحلول الديمقراطية .

 

المانيا – بوخوم – 23 حزيران 2016

المراجع والمصادر التي تم إعتمادها لكتابة هذا البحث هي :

مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية ، مطبعة أزادي ، الطبعة الثانية نيسان 2014

من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية .

مانيفستو الحضارة الديمقراطية . المجلد الأول ، عبد الله أوجلان . عصر الألهة المقنعة والملوك المتسترين . مطبعة أزادي أذار 2014 .

مانيفستو الحضارة الديمقراطية – المجلد الثاني (المدنية الرأسمالية) عبد الله أوجلان مطبعة أزادي . 2014

مانيفستو الحضارة الديمقراطية – المجلد الثالث (سوسيولوجيا الحرية) ز عبد الله أوجلان . مطبعة أزادي . 2014 .

مانيفستو الحضارة الديمقراطية – المجلد الرابع (أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط . عبد الله أوجلان ، مطبعة آزادي ، 2014.

قضايا الدمقرطة في تركيا، نماذج الحل في كردستان . عبد الله أوجلان . خارطة الطريق ، شباط 2012.

بالإضافة إلى مؤلفات أخرى جرى الإستئناس إليها .

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد