عن الأميرة الأيوبية ضيفة خاتون.. دور تاريخي مميز

رستم عبدو

كان للمرأة المسلمة عبر التاريخ دور مميز بالرغم من اقتصاره في البداية على كيفية الحث على الجهاد والمشاركة في المعارك، وذلك في الصفوف الخلفية لمداواة الجرحى، وكذلك الاهتمام بالعلوم الشرعية. وأستطيع القول هنا أن المرأة الأيوبية كانت متفوقة عن سابقاتها ومتقدمة على غيرها في شتى المجالات، لا سيما في مجال تشجيع الحركة الفكرية والثقافية كإعداد الفقهاء والعلماء والخطباء والطلبة، وأيضا مشاركتها في تطوير الحركة العمرانية كبناء المدارس ودور العلم.

ومن بين العديد من الأميرات الأيوبيات، برزت شخصية الأميرة والملكة (صفية أو ضيفة خاتون) ابنة الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب شقيق صلاح الدين الأيوبي، وزوجة الملك الظاهر غازي “بن صلاح الدين الأيوبي” صاحب حلب، وأم “العزيز” صاحب حلب، وجدة “الناصر” صاحب الشام.

ولدت الأميرة في قلعة حلب عام 1185م وترعرعت فيها، وتمتعت بالحكمة ورجاحة العقل(1)، بالإضافة إلى امتلاكها للحزم والقوة. تقول عنها الكاتبة ناديا الغزي: “في داخل جينات ضيفة خاتون تعيش القوة الجبلية وهيبة الترحال وسطوة الغزو وحب السلطة، وفي إسلامها يتجلى الزهد والإيمان القوي المطلق، وفي عقلها تتجلى قوة الإبداع والهندسة وقدرة التصميم والرغبة في الإتقان”(2).

تزوجت من ابن عمها وزوج اختها “غازية” الملك الظاهر، وكان العقد بدمشق بوكالتين(3) على مبلغ وقدره خمسين ألف دينار ثم بعثت إلى حلب برفقة مائتي جارية(4)، مائة منهن مطربات والمائة الأخرى حرفيات(5)، وجهاز حمل على ثلاثمائة جمل وخمسين بغلا(6)، فلما أُدخلت على “الظاهر” مشى لها خطوات وقدم لها عقود جواهر قيمتها ثلاثمائة وخمسون ألف درهم، وأشياء نفيسة أخرى (خمسة عقود وعصابة مجوهرة وعشر قلائد من العنبر المذهب وخمسا غير مذهبة ومائة وسبعين قطعة من الذهب والفضة وعشرين تختا من الثياب المختلفة الألوان وعشرين جارية وعشر خدم)(7)، وقد حضر هذه المراسيم جملة من أمراء حلب وأكابرها(8)، وعندما أنجبت ولدها الأول، وهو محمد الظاهر، زينت له حلب وقدم له الكثير من القطع الثمينة من الذهب واللؤلؤ وغيرها(9).

أنشأت “خاتون” بحلب مدرسة الفردوس في عام 1235م لتكون مدرسة وتربة ورباطا(10)، وأوقفت عليها أوقاف كثيرة منها قرية كفر زيتا وثلث طاحون من النهريات(11)، ورتبت فيها القراء والفقهاء والصوفية.

تتألف مدرسة الفردوس الواقعة جنوبي باب المقام في محلة الفردوس، من صحن يتوسطه بركة مثمنة الشكل تتخللها تجاويف داخلية وتحيط بالصحن أروقة قائمة على أعمدة من ثلاث جهات باستثناء الجهة الرابعة التي يوجد فيها إيوان مسقوف بمجموعة من القباب القصيرة والمرتفعة، وتحتوي المدرسة كذلك على محراب مصنوع من الرخام المجزع متعدد الألوان المرصوف بأشكال هندسية متقنة الصنع تعد من أندر المحاريب في العالم الإسلامي(12)، وكذلك تحتوي على قاعات وغرف ومدفن ومئذنة.

تحمل المدرسة عدة زخارف و كتابات، منها ما هو مكتوب على بابها: “أمرت بإنشائه ضيفة خاتون في أيام السلطان الملك الناصر”، ومنها ما هو مكتوب على الجدار الشرقي: “هذا ما أمرت بإنشائه ذات الستر الرفيع والجناب المنيع الملكة الرحيمة عصمت الدنيا والدين ضيفة خاتون ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين…”. وكذلك على الجدار الشرقي من الخارج مكتوب: “يا عبادي لا خوف عليكم…”. للمدرسة شكل مستطيل بطول 55م وعرض 44م، ولها مدخل رئيسي موجود في الجهة الشرقية.

تعد هذه المدرسة أول مجمع في العالم الاسلامي(13)، حيث تضم بين أرجائها أبنية متعددة الوظائف (مدرسة- تربة- رباط- زاوية)، وبالتالي تعد من أهم آثار العمارة الإسلامية هندسة وتخطيطا.

أطلقت “خاتون” على هذه المدرسة اسم “الفردوس”، وكان يوجد فيها غرفة لها تصعد إليها بدرج، تأتي إليها كلما أرادت الاعتكاف والتوحد(14).

كما أنشأت “خاتون” خانقاه (مكان ينقطع فيه المتصوف للعبادة، اقتضت وظيفتها أن يكون لها تخطيط خاص، فهى تجمع بين تخطيط المسجد والمدرسة)، عام 1237م المشهور بمحراب حرمه البديع وإيوانه العظيم، لتكون رباطا لإيواء الفقراء والمحرومينن فكان هذا “الخانقاه” يقدم الطعام للفقراء والمحتاجين، وكان به جناحا مخصصا للنساء الوحيدات والغريبات والزاهدات، لتكون أشبه بدار للنساء المظلومات والضائعات تقدم لهم الطعام والمأوى وتحفظ حقوقهم.

يقع “الخانقاه” داخل باب الأربعين بمحلة الفرافرة وتسمى بالناصرية(15) لأن على بابها مكتوب: “أنشئت زمن الناصر يوسف بن أيوب وتعرف أيضا بخانقاه صفية خاتون أو خانقاه الفرافرة”.

بعد وفاة الظاهر “غازي” في عام 1216م، انتقل الحكم إلى ابنه العزيز محمد غياث الدين الذي حكم حتى سنة 1236م لتنتقل بعده السطلة ومقاليد الحكم إلى ابنه محمد، وهو الناصر يوسف الثاني، ولأنه كان صغيرا وغير مؤهلا لاستلام دفة الحكم، فقد استلمت عوضا عنه جدته ضيفة خاتون، وهي تملك من العمر 52 عاما، وتصرفت في الحكم على مدار ست سنوات تصرف السلاطين(16) وكان يساعدها في ذلك شمس الدين لؤلؤ(17)، إلى حين استلام حفيدها الحكم بعد بلوغه سن الثالثة عشر، وهي سنة وفاتها وهي تناهز الـ58عاما وكان ذلك في سنة 1242م، حيث دفنت في حلب، بعد أن أغلقت لأجلها أبواب حلب لمدة ثلاثة أيام(18) حدادا على رحيلها.

——

الهوامش:

(1) الزركلي، الإعلام (دار العلم للملاين. بيروت، ج3، ط15، 2002) صـ216.

(2) ناديا الغزي (مقالة منشورة في مجلة التراث العربي الصادرة عن اتحاد كتاب العرب)، صـ188-189.

(3) محمد خير رمضان يوسف، المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي (دار القادري، بيروت، ط1، 1992) صـ43.

(4) المرجع السابق، صـ43.

(5) ابن واصل، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، ج3، صـ214.

(6) محمد خير رمضان يوسف، المرجع السابق، صـ43.

(7) ابن واصل، المرجع السابق، صـ214.

(8) المرجع السابق، صـ214.

(9) النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس (دار الكتب العلمية، بيروت، ج1، ط1، 1990) صـ258.

(10) محمد كرد علي، خطط الشام (مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط2) صـ106.

(11) كحالة، أعلام النساء (مؤسسة الرسالة، ج2) صـ339.

(12) طارق سلطان/ أحمد أحمد، مدارس الخاتونات والأميرات الأيوبيات في بلاد الشام في العصر الأيوبي (مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، المجلد 7، العدد4، 2008) صـ208.

(13) المرجع السابق، صـ208.

(14) ناديا الغزي، المرجع السابق، صـ188.

 (15) محمد كرد علي، المرجع السابق، صـ143.

(16) الزركلي، المرجع السابق، صـ2016.

(17) شمس الدين لؤلؤ عتيق أمين الدولة: كان يقوم بتدبير شؤون الدولة حين انتقلت السلطة إلى الملك الناصر يوسف الثاني، قُتل عام 1250 خلال المواجهات بين عسكر الشام ومصر، له حمام في حلب يحمل اسمه. راجع كتاب: (الحمامات العامة بمدينة حلب منذ بداية العصر الأيوبي حتى نهاية العصر العثماني) لـ”منصور محمد عبد الرزاق عوض”، دار مكتبة العربي، مصر صـ169.

(18) محمد خير رمضان يوسف، المرجع السابق، صـ44.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد