د. ناصر حاج منصور*
ملاحظة المحرر: يُنشر هذا البحث بالتزامن مع نشره على الموقع الرسمي للمركز السوري للدراسات والحوار.
في المنظومات المعقدة التي تتداخل فيها الكثير من العوامل والمفاعيل، ويتحرك فيها الزمان والمكان،وتحديدا في هذا “الزمن السائل” بحسب ما يعرفه عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان، وهو الزمن الذي لا يمنح فيه التحول السريع وغياب الاستقرار، الفرصة لتصلب المؤسسات والبنى الفكرية والإيديولوجية والاجتماعية والسياسية، وحتى المفاهيم والقيم السياسية والاجتماعية والمصطلحات. الزمن الذي يصفه “باومان” بطريقة أشبه بحالة ما بعد الحداثة حسب تعريفات الكثيرين، يستحيل فيه الحديث بحتمية أو قطعية عن سير تطورات الأحداث وتحولاتها، ويصعب تحديد الاحتمالات والتوجهات أو حصرها،بقدر ما يصعب التفريق بين العامل الحاسم والعوامل المؤثرة حيث تتداخل وتتبادل الأدوار، لنكون حقيقة في زمن اللا يقين وعدم التعيين، ولكن نتعامل معه مهما كان صعبا لأنه رغم كل شيء، فهو حقيقي وموجود، حتى وإن لم نفهمه كليا أو شككنا به، وهذا لأن التطور العلمي وصل إلى حدود عالية ولا بد أن تظهر انعكاساته على العلوم الاجتماعية والسياسية ومختلف الحقل الثقافي.
الكتابة عن شمال وشرق سوريا في هذه الظروف أشبه بالمغامرة، ومحاولة قراءة مستقبلها مغامرة أكبر وأخطر، رغم أن الصورة في هذه المنطقة -من بعض الجوانب- أوضح من باقي الجغرافيا السورية التي دخلت في دوامات ومتاهات لا تبعث على الاطمئنانوتهدد الوجود السوري كوطن وكشعب، ولهذا -رغم كل شيء- لا بد من البحث عن الحقيقة والخلاص والتخلص من الكسل الفكري والمماطلة والتهاون واللامبالة والرهاب، والانطلاق عبر نسق فكري صحيح وشامل يتجاوز الذاتية نحو الموضوعية، ومن الجهالة إلى العلمية، وعلينا أن ندرك من خلالها أننا في واقع صراعي متحول في ذاته بشدة نوعيا وكمياً.. واقع متحرك متحول متغير في كل لحظة، قابل للسيلان في كل الاتجاهات، لا يتجمد ولا يتصلب ولا يتوقف عن التحول بسرعة، لأن ديناميكياته الذاتية ومفاعيل المؤثرات الخارجية بنتيجتها تخلق هذا الواقع الذي يصعب فهمه رغم أنه واقع وحقيقة.
الوضع السوري أشبه بالحلقة المفرغة، أو بشكل أصح بات نوعا من الحلقة المعيبة والتي يسميها البعض أيضا بـ”المريضة”، ولهذا، فإن كل الجهود تذهب سدى وحتى ما سُمي بالمفاوضات صار أشبه بحوار الطرشان وتحول المتفاوضون المفترضون إلى نوع من لعبة القرود الثلاثة (لا أسمع.. لا أرى.. لا أعرف) عن سبق الإصرار والترصد، ووسط غياب الأطروحات الصحيحة للحل، وكذلك غياب الإرادة والقرار الدولي الحقيقي الراغب في الحل والانتظار، فإن هذا كان ثمنه الدمار والموت والتشظي والانهيار والفوضى والعدمية والرحيل والموت والهجرة، ورغم ذلك لم يتوقف النهش والفتك بالبشر والحجر والشجر، ولا تزال الدوامة في سوريا مستمرة بإصرار، ولم تلح علامات الخروج الفعلي منها حتى الآن، بدليل غياب أي طرح جدي للحل.
الوضع في شمال وشرق سوريا مختلف بعض الشيء على كل المستويات، لكن نظرا إلى وحدة الحال والإصرار على وحدة الحل، فإن تبادل التاثير يفعل فعله، ناهيك عن أن حالة عدم التعيين واللا تحديد والغموض والمجهول في المنطقة نفسها، موجودة بفعل عوامل كثيرة تتعلق بها حالة عدم الاستقرار.
لكن رغم كل هذا، فقد تمكنت إدارات وقيادات شمال وشرق سوريا -عبر جهود نوعية ومستمرة ومكلفة- من التقدم تجاه بر الأمان نحو حالة أكثر أمانا واستقرارا -ولو نسبيا- تبدو معها ومن خلال أطروحاتها الفكرية والسياسية النظرية والعملية، أنها تتجه أو على الأقل تتقدم بالاتجاه الصحيح. وهذه بالطبع مسألة وقضية معقدة جداً تستند أساسا إلى المنظومة الفلسفية والفكرية والثقافية المنسجمة والمتناسقة مع أنماط التفكير الصحيحة والميراث الفكري الإنساني، وكذلك دمجها بالحقائق العلمية المجتمعية والسياسية والفكرية التي أنتجتها العلوم والنظريات العلمية الحديثة، بدءًا من النسبية والكمومية وحتى نظرية الفوضى، في عملية تداخل عظيمة تستند إلى كل المخزون الفكري البشري، باعتباره جزء من رحلة الإنسان في البحث عن الحقيقة.
إن مواقف الدول الفاعلة في الساحة السورية تعج بالتخبط والضبابية، لدرجة أنه ناهيك عن مسؤولية النظام عن تدهور الأوضاع في سوريا، فإن هذه القوى دولا ومنظمات وحتى أفراد، هم المسؤولين الفعليين عن هذا السقوط المريع والمشين لسوريا في هذه الأزمة الوجودية. سياسات واستراتيجيات وتكتيكات مبنية على مقدمات خاطئة اتبعتها الدول، وفقا لتوجهات متمايزة وخاصة وذاتية تصارعت فيما بينها، فكانت النتيجة أشبه بالقيامة، وكل ما قيل عن جهود ودعم دولي أو حتى تحرك داخلي في هذه الجبهة أو تلك..مع هذا المحور أو ذاك، لم يكن إلا صراعا أنانيا حول المصالح وتقسيم الكعكة، وكل التحركات التي ادعت أنها تبحث عن حل، بما فيها مواقف أغلب الدول العظمى والاتحاد الأوروبي والمواقف الإقليمية، وحتى عبر جنيف أو أستانا أو سوتشي، كانت جميعها تجسيدا لمصالحها واستمرارا لصراعاتها المصلحية الذرائعية المقيتة.
لا بد من الخروج من هذه الدوامة ومن بين هذا الضباب القائم، لكن في النهاية سينجح فقط من يستطيع رسم معالم طريق الخلاص بشكل صحيح، ويدرك مخاطر استمرار الوضع الراهن، ويتدبر له بالشكل الأنسب والأدق والأصح، بفكر منفتح وذهنية بعيدة عن الانغلاق في الاعتماد على المطلق والحتمي في فهم ديناميكيات تطور الأحداث.
الجميع يطرح السؤال.. سوريا إلى أين؟ شمال وشرق سوريا إلى أين؟ ولا يمكن لأحد أن يحدد الجوابالواضح والصريح والأكيد، ومن يظن أنه وحده يمتلك ناصية الحقيقة، وأن نسخته من الحقيقة وحيدة ولا حقيقة سواها، وأنه وحده توصل إلى الجواب الصحيحوغيره مخطيء، هو بالتأكيد يخدع نفسه قبل أن يخدعالآخرين، لأنه في مثل هذه الأوضاع، ناهيك عن صعوبة تحديد احتمال وحيد بذاته، فالاحتمالات بالأساس غير محدودة العدد والاتجاه، ويصعب التحكم بالعوامل المؤثرة في معادلات الحل المعقدة في المعادلة المعقدة، كما أن كم من الأمور والتحولات التي بدت صغيرة يوما ما، لعبت دورا حاسما في تحديد توجهات شعب أو حتى شعوب باكملها.
العوامل الداخلة في التفاعل السوري
كل القضايا والفواعل والتكوينات المجتمعية والسياسية الرئيسة والأساسية في سوريا، كما هي في الكثير من بلدان الشرق الأوسط إن لم نقل جميعها، تتجاوز بطبيعتها الحدود الجغرافية للدولة، ربما لأن هذه الدول بالأساس لم تتشكل كنتاج لتطور طبيعي حر للأوضاع، بل صُنعت وفُصِّلت وفق رؤى سياسية معينة، وربما أبرز مظاهر هذه الحالة هي نتاجات اتفاقية “سايكس–بيكو”، التي يصفها الكثيرين بأنها لم تقسم المنطقة فقط بل تركت لهذه الدول الشعوب أرضيات خصبة لمشاكل قوية تهدد الاستقرار في المنطقة لقرون طويلة، خصوصا أن تداخلات الشعوب والأقوام والمجتمعات في منطقة الشرق الأوسط -وتحديدا في مناطق الهلال الخصيب- تختلف تماما عن الجغرافية المجتمعية التي ظهرت فيها الدول القومية في أوروبا، والملاحظ الجيد لديموغرافيات وجغرافيات هذه الدول، يدرك أن الواقع المصطنع بحد ذاته، هوواقع يهدد الشعوب والدول الموجودة على حد سواء، لأنه بُني أصلا بشكل يهدد كل هذه الدول بالانفجار، لأنه لا يراعي الحقائق التاريخية والاجتماعية للمنطقة، وهذا الوضع في سوريا مثله مثل الدول الأخرى -تركيا والعراق وإيران ولبنان وفلسطين- فما من مكون مجتمعي في بلد ما، إلا وله امتدادات في البلاد المجاورة، ولأن الدولة القومية الأحادية التي ظهرت في هذه المناطق اتسمت غالبا بالإنكار والإقصاء، ترتب على ذلك خلق أعداء لها في الداخل والخارج معا. من هنا، لا يمكن حقيقة في هذه الجغرافيا حصر أي من القضايا الحقيقية الكبيرة في إطار دولة معينة، ولا يعود معها الإصرار على كلمة أن المشكلة داخلية إلا نوعا من تكرارٍ لجملة لا تعبر عن الواقع والحقيقة، فكل المشاكل الرئيسة في هذه البلدان، تنتقل لأن تكون عامة بحكم المجتمع والتاريخ، وتناقضه مع الواقع.
وحينها، فإن المشاكل والصدامات لا يمكن خنقها فيالمحلية تحت شعار حدود الدولة، لأنه هناك حقائق أقوى وأكثر تجذرا ورسوخا من الدولة نفسها، وحينها لن تكون الأخيرة قادرة على الضبط الكامل، حصوصا في زمن التطورات العلمية التقنية الهائلة.
العرب.. الكرد.. السريان.. التركمان.. الدروز.. العلويون.. الشيعة.. الإيزيديين.. المسيحين والمسلمين في سوريا، كلهم مكونات عابرة للحدود.. قضاياهم ومشاكلهم الرئيسة تعبر الحدود بهذا الشكل أو ذاك، وهذا يعني أن أي قضية في بلد من هذه البلدان ستؤثر وتتأثر -نتيجة للامتدادات- بالحالة والنظام في بلدانها والبلدان الأخرى سلبا أو إيجابا، وستكون قضية إقليمية ودولية لأن ظروف وأرضية وإمكانات التدخل والتأثير تكون كبيرة، وحينها يسهل الانتقال من الإقليمية إلى الدولية بشكل عام، وغالبا ما تتعولم القضايا نتيجة التدخلات بسرعة البرق.
المشكلة السورية بطبيعتها -بعد أن تجاوزت حدودا معينة- هي مشكلة دولية وإقليمية تعقدت حلولها على كل المستويات. ومحاولات طرح الحلول المحلية وحتى الإقليمية لن تنجح وقد لا تلاقي النور، وربما الإصرار عليها سيعقدها أكثر.
إنها قضية دولية بامتياز، ولهذا نجد قوى دولية هائلة العدد مشتركة في هذه الأزمة أو متدخلة فيه بهذه الدرجة أو تلك، وهذا يعني أنه لا بد من تسويات وتوافقات دولية وإقليمية ومحلية، ليصبح إنهاء الأزمة ممكنا، وهنا لا يمكن لأحد أن يفرض محاولاته وحلوله الصفرية.
لكن هذا لا ينفي أن بعض القوى أكثر فاعلية وتأثيرا من الأخرى الآن على الساحة السورية، وهي تستطيع أن تساهم في الحل واللاحل على حد سواء، دون إمكانية أي منها منفردة على الحل، وهنا يكون صراع المصالح والتنازلات والتنازلات المقابلة، هي اللعبة التي يمكن من خلالها التقدم باتجاه الحل وفق معادلات الرابح–الرابح.
المعادلات الصفرية في سوريا تعقد الحل
المعادلة الصفرية في السياسة هي “ربح كل شيء مقابل جعل الخصم يخسر كل شيء”، وهذه مع الأسف هي المعادلة الحاكمة الرئيسة والمتحكمة في العلاقات بين الكثير من الأطراف الداخلة في المعادلة السورية، خصوصا الطرف أو الأطراف الشعبية، بما فيها الكرد. النظام السوري -رغم كل شيء- يتحرك ويتصرف وكأن شيئا لم يحدث في سوريا، وكأنه لم يكن على الأقل أحد المتسببين بدمار سوريا وقتل من قتل وتشريد من تشرد. يطرح النظام معادلته الصفرية ويريد فرضها على الجميع في سوريا، ويتجاهل كل التقاليد والأعراف والقوانين الدولية، ويتمسك ببعض الخيوط الدولتية ومسألة السيادة والدولة والشرعية، ويظن أو يتظاهر –ربما- أنه قد يقنع العالم بالمماطلة الدبلوماسية أو بالتلاعب على الوقت أو بمعادلاته التنازلية كليا لحلفائه. ولهذا، بدأ النظام منذ أمد يعلن أنه لا حل عنده، سوى الاستسلام تحت مسمى المصالحات.
تعد تركيا إحدى أبرز الدول اللاعبة على الساحة السورية، فقد طرحت هي الأخرى معادلتها الصفرية ودفعت بأزلامها والفصائل التابعة لها إلى تبني نفس الطرح، والآن ربما سترتد بشكل معاكس، لكن تركيا يبدو أنها تخلت عن معادلتها الصفرية مع النظام لتطرحها هذه المرة مع الكرد، خصوصا في شمال وشرق سوريا عموما، وربما ظنت أنه باحتلالها”عفرين” عبر تواطؤ دولي واضح المعالم، ستنجح مع حلفائها في فرض معادلتها، رغم أنها -ولو لفترة قليلة-تعرضت لنتاج هذه المعادلة مع الروس إثر إسقاط الطائرة الروسية. لا تزال تركيا تطرح معادلتها تلك بالنسبة لشمال وشرق سوريا واحيانا للكرد مباشرة،وربما تظن أنها قادرة على أن تحقق مطالبها ورغباتها بعد أن حققت شيئا منها في “عفرين”، ونسيت المعادلة الصفرية التي فرضتها عليها روسيا بعد سقوط الطائرة الروسية، وأدى ذلك لقيام روسيا بإخراج تركيا كليا من الداخل السوري آنذاك.
لا يمكن إغفال أو تجاهل الدور التركي السلبي والسيئ في الساحة السورية عموما، والشمالية والشرقية والمناطق الكردية والشعب الكردي خصوصا،حيث قدمت الدعم والمساندة لكل الفصائل التي هاجمت الكرد، وكان آخرها “داعش” في “كوباني”. وعندما لم ينجح حلفاؤها من الفصائل الإرهابية في إبادة الكرد أو ردعهم، بدأت هي بشكل مباشر التدخل بهدف القضاء على الطموح الكردي، أو بشكل أدق القضاء على الكرد واحتلال أجزاء من سوريا، بحجةالتصدي للطموح الكردي والتذرع بأن “قسد” تشكل تهديدا للأمن القومي التركي.
من ناحية أخرى، تركيا دولة كبيرة المساحة والسكان،وتمتلك موقعا جيو-استراتيجيا مهما، وتعرف كيف تساوم وتبتز الدول. ولهذا، استفادت من الصراع بين روسيا وامريكا لتمرير مشاريعها بموافقة الأولى تارة ومساندة الأخيرة تارة أخرى. استغلت تركيا علاقاتها مع المنظمات الإرهابية، وكذلك قضية المهاجرين،كعنصر تهديد وابتزاز ضد الغرب كله. ونظرا إلى علاقتها مع الفصائل الإسلامية المتطرفة الأخرى كجبهة النصرة وأحرار الشام وغيرها، فقد تحولت إلى قوة قادرة على نسف كل الحلول المطروحة من خلالها،وبذلك استخدمت كل نفوذها وقوتها المباشرة وغير المباشرة، بما فيها علاقاتها الدولية والدبلوماسية كـ”ورقة فيتو” مؤثرة ضد الكرد ومشاركتهم في الحلول السياسية، وكذلك في منع المنظمات والدول من تقديم أي مساعدة دولية لمناطق شمال وشرق سوريا. كانت تلك هي المعادلة الصفرية التركية أيضا ضد الكرد،وكلا الموقفين السوري والتركي -في الحقيقة- غير قادران على الإنتاج، ما دام الوجود الكردي المقاوم أو غير المستسلم مستمرا، ولهذا فلا مناص من أن تغير هذه الدول من مواقفها، وهو ما سيحصل مع استمرار المقاومة والبقاء وتطوير العلاقات الدولية، من أجل إيقاعها في حالة إحباط وفقدان للأمل في النجاح في فرض هذا الواقع على الكرد. يبدو أن علامات ذلك ستبدأ قريبا بشكل أوضح، خصوصا اذا انتهت إمكانات تركيا في ابتزاز كل من أمريكا وروسيا في هذا الوضع التنافسي الصراعي.
المعارضات تأخذ ألوان حكوماتها، ولهذا فإن “المعارضة السورية” التي كانت متمثلة بالمجلس الوطني السوري ومن ثم بالائتلاف، وكذلك معارضة الداخل بما فيها “معارضة النظام” ومن يتبعون تركيا، لا يتوانون عن طرح معادلاتهم الشبيهة المنسوخة والرافضة للحل. أما إسرائيل وإيران، فإن كل منهم يحاول فرض معادلته الصفرية على الوضع في سوريا.
كل هذه المعادلات ربما هي نتاج وجهات نظر إنكارية إقصائية أكل الدهر عليها وشرب، واستمرار للسياسات التقليدية القديمة، وبالتأكيد لن تلق نجاحا،لأن ذلك لن يقنع ولن يرضي كل الأطراف المتصارعة، لذلك سيظل الصراع محتدما، حتى إن خسر طرف ما أو رضخ، فلن يكون ذلك إلا بشكل مؤقت، وسرعان ما سينتفض مع أول فرصة سانحة.
لم تجلب المعادلات الصفرية الشهيرة التي حكمت الغرب كثيرا، وكان آخرها تجربة “هتلر” و”موسوليني”و”فرانكو”، سوى الدمار. وكان الخلاص من هذا النمط من المعادلات هو الاندفاع تجاه معادلات “الربح للجميع” التي خلقت تطورات هائلة دفعت باوروبا نحو التطور والسلام، ودخلت بذلك مرحلة جديدة مختلفة كليا.
رغم كل شيء ورغم المجازر التي ارتكبت ورغم تغير خارطة السيطرة ورغم الصفقات التآمرية والمقايضات،لم تنجح كل تلك المعادلات في الحل لأنها كانت صفرية، وما عاد ممكنا إلغاء الآخر أو لنقُل تصفيره.ولا تزال تظن بعض الأطراف التي حققت مكاسب مما ذكرنا، ومنها النظام وتركيا، أنه بإمكانها المضي في إجراءاتها وممارساتها ومواقفها لأبعد من ذلك وتتأمل تحقيق النجاح. وما إصرار النظام السوري على المصالحات كحل، إلا تأكيدا على غرقه في هذا الواقع، وأعتقد جازما أن هذه القوى ستظل تحاول فرض سياساتها وفق هذه المعادلة، لحين إحساسها بالإحباط وحينها قد تعود لرشدها، وتدرك استحالة ذلك وضرورة التغيير.
هذه المنطقة باتت أكثر المناطق حساسية في سوريا وأكثرها ترشيحا لتشهد تطورات وتحولات وصراعات وربما حلول، وهذه الحلول قد تكون فاتحة ومقدمة لحل شامل في الوضع السوري، إذ أن غالبية القوى المتواجدة في الساحة السورية تتواجد فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، ولنأخذ مثلا بلدة “العريمة”الواقعة غرب “منبج” بحوالي عشرة كيلومترات ويسيطر عليها مجلس الباب العسكري، ففي دائرة لا يصل نصف قطرها إلى 5 كيلومترات تجد انتشارا أو تمركزا لغالبية القوى المتواجدة على الأرض.. قوات مجلس الباب العسكري.. القوات السورية النظامية.. القوات الامريكية.. القوات الروسية.. فصائل المعارضة التابعة لتركيا، بالإضافة إلى تواجد إيراني رسمي وفصائلي مع القوى الفصائلية للنظام. وبمقدار ما يمثل هذا الأمر عقدة عصية، فإنه يحمل في ذاته نوعا من إمكانية الحل.
مناطق الإدارة الذاتية.. الصراعات والحلول
لنبتعد قليلا عن إدلب التي سيكون حلها في النهاية عبر “المصالحات” من خلال “الوسيط” الروسي، وهذا قد يترافق مع انزلاق جبهة النصرة وأخواتها اللاطوعي نحو تركيا، ولو بعد القليل من المعارك والمناوشات التي ستحاول جبهة النصرة بها تبرير استسلامها، خصوصا بعد أن بات الاستسلام مقبولا لها بعداستسلام “داعش” لقوات “قسد”، وستجد فيهم تركيا قوة منظمة قادرة على مواجهة خصومها الكرد، في أماكن أخرى كدرع الفرات أو حتى في الداخل التركي.
تبقى مناطق الإدارة الذاتية التي تمثل خزانة سوريا الاقتصادية هي موضوع نقاشنا في هذا الطرح، بما تمثلها من تعددية الثقافات واللغات والإثنيات والأديان والطرائق، وكذلك الصراعات والامتدادات داخل وخارج سوريا.
ليس سرا إن قلنا إن هذه المنطقة باتت مطلب الجميعن لكنها الآن تحت سيطرة “قسد” والإدارة الذاتية المدعومة من التحالف الدولي ضد “داعش”، وخاصة أمريكا، وهي تمثل بموقعها وخيراتها ومكوناتها وقوتها واستقرارها النسبي، محط أنظار الجميع، وخصوصا النظام السوري الذي يدعم رغبته الروس والإيرانيين تحت شعارات فرض الشرعية وإعادة المنطقة لحضن الوطن بكل الطرائق الممكنة، وإن كان دائما يلوح بالعنف. كذلك النظام التركي الذي يتذرع بقضية أمنه القومي ويستند إلى مجموعات من المرتزقة المدعومة من جيشه الرسمي، له أطماع في المنطقة، ولسان حاله يقول إنه قادر -إن سنحت له الفرصة- أن يكرر ما فعله في “عفرين”. إن تركيا بذلك، تتجاهل الفوارق بين الحالتين، مستندة فقط إلى استخدامها موقعها الجيو-استراتيجي، وابتزاز كل من أمريكا وروسيا على حد سواء، للاستجابة لمطالبها.
أمام هذا الوضع المعقد، كانت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا عبر تكويناتها السياسية منفتحة على الطرفين، ولهذا عملت على فتح قنوات الحوار مع النظام في “دمشق” علنا بشكل مباشر وكذلك عبر الوسيط الروسي، كما استمرت في مواقفها الراسخة بالعمل مع القوات الأمريكية والتحالف الدولي، على أمل تغيير معادلة الانسحاب التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للاستناد إليها والدخول في المفاوضات مع الجانب السوري من موقع أقوى. ومع التهديدات التركية باقتحام “منبج” وشرق الفرات، ظهر جليا أن موقف النظام -ومن ورائه روسيا وكذلك إيران- يحمل نوعا من الخبث والاستغلال الجشع لقرار الرئيس الأمريكي، من خلال محاولة استغلال الوضع والتهديد التركي باقتحام “منبج” وشرقي الفرات، لإعادة سيطرة النظام على هذه المنطقة وإن كان بوساطة روسية. كذلك، بدا واضحا أنه لا مانع لدى كل هذه القوى من السماح لتركيا بالتقدم إلى شرق الفرات و”منبج”، لإجبار “قسد” على التنازل لها عن هذه المناطق دون أي ضمانات. وبدأت تلك القوى تلوح بما جرى في “عفرين” وتحاول اللعب على الوقت واستخدام الورقة التركية للحصول على تنازلات دون مقابل عن كل المنطقة، والترويج لمعادلة أنه ليس لهذه المناطق إلا المصالحات و”العودة لحضن الوطن”.
وجدت “قسد” نفسها -في الحقيقة- أمام خيارين صعبين، حتى مع تبين أن الانسحاب الأمريكي لن يكون سريعا وقد يطول وقد يكون جزئيا وليس كاملا،حيث إن الخيار الأول هو التوجه نحو الحل السوري عبر التفاوض مع النظام بشكل مباشر أو عبر روسيا،بينما الآخر هو الاستمرار مع التحالف الدوليوأمريكا، وربما تتمكن الأخيرة من التوصل إلى نوع من الحل مع تركيا يمنعها من التقدم نحو هذه المناطق. وهنا كانت التصريحات الأمريكية غير واضحة المعالم تتكرر من قبيل أنهم لن يتركوا حلفاءهم عُرضة للهجمات أو أنهم سيحمون شركاءهم في الحرب ضد “داعش”، وأن المعركة ضد “داعش” ستستمر، إلى أن بدأت أمريكا بنوع من المحاولات مع تركيا على أساس تبديد هواجسها وإزالة حجج تركيا حول التهديدات الواقعة على أمنها القومي.
الطريق الأول -وأعتقد أنه نتيجة حسابات خاطئة جدا- هو إصرار كبير من النظام بمباركة إيرانية روسية اعتمادا على قراءات لاحتمالات تطور الأحداث والمواقف وحساب أن عامل الزمن في صالح النظام وأنه لا مانع من ترك المنطقة لنوع من الاجتياح التركي المشروط أو المحدود، سيدفع بالإدارة الذاتية إلى الهرولة نحو قبول كامل ومذل لشروط النظام بمعادلة صفرية استغلالية دنيئة، وهو ما دفع هذا الطريق نحو انسداد وتوقف التفاوض. ورغم أن الإدارة الذاتية لاتزال تصر على مقولاتها وأطروحاتها ورغبتها في الحل السوري-السوري، وأبقت الأبواب مفتوحة على أي نوع من التفاوض قد يفضي إلى حل -وإن كان بمساندة روسية عبر الضغط على النظام- إلا أن الحقيقة والواقع يقولان إن هذا الطريق الآن بات شبه مغلقا أمام حل يرضي الجميع، وإن هذا الحل ممكن فقط إذا غيَّر النظام من أطروحاته أو تم إرغامه عليها، وهو ما لا يلوح في الأفق، أو إذا فقد الأمل بقدرته على إدارة الأمور كما يريد.
أما الطريق الثاني، فقد كان عبر الاستمرار مع أمريكا التي لم تكن تملك أي مشروع في سوريا باستثناء مشروع القضاء على “داعش”. ورغم كل العلاقات الإيجابية والدعم العسكري الأمريكي ومن التحالف لقوات سوريا الديمقراطية، ورغم أن وزير الدفاع السابق جيم ماتيس، وكذلك مبعوث الرئيس الأمريكي السابق للتحالف الدولي بريت ماكغورك استقالا ردا على قرار “ترامب” المفاجئ بالانسحاب من سوريا، فإن الولايات المتحدة لم تكن تطرح أي مشروع واضح أو معتمد للحل في سوريا ولا لشمال وشرق سوريا،ولهذا فإنه كثيرا ما عبر المسؤولين الأمريكيين للإدارة بخجل عن مواقفهم وعن إمكانية تفاهمهم مع النظام وروسيا، على خلفية أن لا رؤية أمريكية واضحة وأن الانسحاب حاصل لا محالة.
ممثل الرئيس الأمريكي في التحالف الدولي خلفا لـ”ماكغورك” جيمس جيفري، جاء مسلحا بصلاحيات أكبر، وبدا منذ البداية أنه يملك مشروعا سياسيا ما، وإن لم يكن متبلورا بعد بشكل كامل، وإذا كان قرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب صادما له ولمشروعهأيضا، لكنه ما لبث أن تماسك من جديد وأعاد لمشروعه الحياة بعد أن تبين أن الانسحاب لن يكون سريعا وأن أمريكا لن تترك الحبل على غاربها شرق الفرات، وأن الانسحاب سيكون جزئيا وقد يطول كثيرا، وغير ذلك من التصريحات والتأكيدات الأمريكية بأن أمريكا لا تزال تحتفظ بنفس قائمة أهدافها التي دخلت من أجلها إلى سوريا، ولهذا فإن تأجيل الانسحاب أو جزئيته أعادا الأمور -ولو جزئيا- إلى نصابها الأول.
لا يمكن لعاقل أن ينتظر من جيمس جيفري أن يعادي تركيا لأسباب كثيرة لسنا بصدد سردها، وكذلك بدا أن خطته ليست مبنية على التخلى عن قوات سوريا الديمقراطية التي عرفها السفير الأمريكي في شمال سوريا، بأنها “على الأقل علاقة شراكة قوية ومميزة ومتعددة الجوانب والأطر”. ولهذا، اتجه “جيفري” نحو محاولة احتواء الطرفين التركي، وكذلك قسد، عبر تدوير الزوايا بمشروع شكَّك ويشكك الكثيرين حتى من الأمريكيين وغير الأمريكيين، بإمكانية نجاحه رغم إصراره عبر محاولاته المتعددة.
خارطة الطريق في “منبج” كانت قد بدأت في عهد”ماكغورك”، أما المنطقة الآمنة فقد طرحها السفير الأمريكي جيمس جيفري، بعد نقاش مع قيادات قوات سوريا الديمقراطية، وهذا المشروع بالطبع منفصل ومختلف كليا عن المنطقة الآمنة التي طرحتها سابقا تركيا للسيطرة على الشمال السوري كله.
لقضية “منبج” سياق تاريخي يمتد إلى عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الذي وافق على تحرير “منبج”، ومنع تركيا من التدخل فعليا في معركة “منبج” والسماح لوحدات حماية الشعب بدعم قوات مجلس “منبج” العسكري لوجستيا واستشاريا.ووقتها، وعد “أوباما” تركيا بانسحاب وحدات حماية الشعب من “منبج” بعد تحريرها، وفعلا انسحب قسم كبير من الوحدات من المدينة وتم تسليم مهمة الدفاع عنها لمجلس منبج العسكري، وسلمت إدارتها إلى مجلس منبج المدني، ولم تبق إلا شخصيات على مستوى المستشارين، لحين تمكين مجلسي “منبج” من الاكتفاء الذاتي.
من هذا الإصرار التركي على إفشال نجاح نموذج”منبج”، والذي لم يكن متوقعا في مستواه حتى من قبل الأمريكان- تولد الضغط التركي الذي كان يجد أن النظام والروس الذين قبلوا بتقدم تركيا لمناطق درع الفرات، ومن ثم “عفرين”، لن يعترضوا على التقدم التركي باتجاه “منبج” وتلقين قوات سوريا الديمقراطية درسا كما كانوا يتصورون، لكن الوجود الأمريكي المستمر وتوفير الأمن والاستقرار في “منبج” من قبل المجالس المدنية والعسكرية في المدينة، حال دون قدرة تركيا على التقدم نحوها، ولهذا عادت إلى الإصرار على ضرورة التزام أمريكا بوعود “أوباما” لهم.
من هنا كانت خارطة الطريق التي بدأت في عهد”ماكغورك”، واستمرت حتى الآن، وهي على العموم كانت من عدة مراحل تم تنفيذ قسم منها، ولم يتبق إلا المرحلة الأخيرة.
جوهر خارطة الطريق تلك، يتمثل في انسحاب وحدات حماية الشعب إلى شرق الفرات شرط عدم التقليل من الاستقرار والأمن في “منبج”. كانت المرحلة الأولى هي دوريات أمريكية-تركية متقابلة على الحدود الفاصلة بين قوات مجلس منبج العسكري والقوات التركية، على أن تكون الدورية التركية في الجانب التركي والأمريكية في الجانب السوري، وبعدد محدد سلفا وبعلم مجلس منبج العسكري وموافقته.
أما المرحلة الثانية، فقد كانت الدوريات الأمريكية-التركية المشتركة، في مسار واحد معين على الجانب الآخر من نهر الساجور. وكانت المرحلة الثالثة تتمثلبانسحاب ما تبقى من عناصر وحدات حماية الشعب العاملين كمستشارين ومدربين.
كل هذه المراحل انتهت وبقيت المرحلة أو الخطوةالرابعة، وهي تطعيم المجلس المدني لـ”منبج” بعناصر يوافق عليها المجلس المدني الحالي لـ”منبج”، شرط ألا يكون ممن تورطوا بالانضمام إلى “داعش” أو بسرقة أموال المدنيين أو الاعتداء عليهم، وأعتقد أن هذه الخطوة ستستمر بسلاسة، خصوصا بعد بيان الانتهاء من دولة الخلافة وهزيمة “داعش”، حيث أشار القائد العام لـ”قسد” مظلوم كوباني، في خطابه، إلى أن إحدى المهام الرئيسة التي تنتظر قوات سوريا الديمقراطية، هي تهيئة الأجواء لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة لتطوير الإدارة والحوكمة في المناطق المحررة.
أما المشروع الثاني لـ”جيفري”، فهو العمل على تهدئة الأوضاع بين الإدارة الذاتية و”قسد” من جهة وبين الحكومة التركية من جهة أخرى، ليس فقط لمنعها من التدخل العسكري المباشر في شرق الفرات، بل في محاولة منه للوصول إلى حلول تمنع ذلك مطلقا، وربما تكون أرضية لتحسين العلاقة بين الاثنين من خلال تبديد الهواجس التي تنتاب الجانبين.
من هنا، فإن المنطقة الآمنة كانت مشروعا أمريكيا أراد “جيفري” من خلاله أن يقول لتركيا “إننا كحلفاء في الناتو مستعدون لتقديم ضمانات وإجراء خطوات تخرج الشمال السوري وشرق الفرات وحتى قوات سوريا الديمقراطية من كونها تهديدا للأمن القومي التركي”، وهذا سيخلق أجواء تهدئة قد تفهم الأطراف المعنية معها أن الصدام ليس لصالحها.
تزامنت هذه الخطوات مع القرارات الأمريكية بالإبقاء على جزء من قواتها في سوريا وإدراك تركيا أنه لا يمكنها أن تتدخل بوجود قوات أمريكية، وهي أصلا كانت غير مهيأة لتدخل كهذا في نفس الفترة بسبب الحملات الانتخابية، وأعتقد أيضا أن تركيا في اقتنعت في النهاية وأدركت أن تدخلها بهذا الشكل في شرق الفرات حتى بانسحاب القوات الأمريكية لن يكون لصالحها، لأن التحرك هناك لن يكون كما حدث في “عفرين”، كما أن هناك مستجدات جرت، بما فيها ما يتعلق بـ”إدلب” وتحالف أستانا وسوتشي، وهذا ما قد نأتي على تناوله في موضع آخر.
حصل لغط كثير حول المنطقة الآمنة وتباينت التصريحات من كل جانب، وبعيدا عن الخوض في كل ما قيل ويقال وهو كثير وكثير جدا، سأحاول الدخول إلى صلب هذا الموضوع وتفصيلات وحيثيات هذا المشروع الذي جاء أصلا انسجاما مع السياسة الأمريكية الباحثة عن حل يرضي طرفي الصراع، وهما تركيا وقسد، وكذلك مع تصريحات الرئيس الأمريكي”ترامب” حول إمكانية إنشاء منطقة آمنة شمال سوريا. لم تطبق المنطقة الآمنة، حتى الآن، ولا تزال قيد التداول والنقاش بالأساس في حوار بين أمريكا وتركيا، لكن هذا سيكون بموافقة “قسد” من خلال أمريكا.
لا تزال الأمور عالقة والتعليقات والمواقف من الأطراف صاحبة العلاقة وغير صاحبة العلاقة كثيرة وكثيرة جدا، لكن أغلبها مجرد أقاويل أو تحليلات عن بعد أو حتىمجرد تخمينات.
هناك نقاط رئيسة محورية تصر عليها قوات سوريا الديمقراطية، كخطوط حمراء لا تقبل التأويل والمس بها، وهي:
1- هذه المنطقة لن تكون برعاية تركية ولن تدخل إليها القوات التركية.
2- هذه المنطقة ستدار من قبل إدارات محلية منتخبة من أهل المنطقة.
3- هذه المنطقة ستحميها قوات محلية بالإضافة إلى قوات الأمن الداخلي.
4- لن تكون فيها أي قوات أخرى، بل إن النقاش حتى حول وجود قوى تم الزج باسمها أحيانا في المشروع، غير وارد البتة، بما فيها البيشمركة وقوات النخبة.
5- ستكون المنطقة تحت الرعاية الدولية أو الأمريكية عبر دوريات أو نقاط محددة.
6- يجري ذلك بالتوافق مع قيادة قوات سوريا الديمقراطية وموافقتها.
7- عمقها الأقصى لن يتجاوز خمسة كيلومترات، وقد يتقلص في بعض المناطق نحو الصفر.
8- ستقوم قيادة وحدات حماية الشعب بسحب وحداتها مع أسلحتها الثقيلة خارج المنطقة الآمنة.
لا يزال هذا المشروع مجرد مشروع، وأعلن عنه “جيفري” في مؤتمر صحفي، لكنه يحظى بموافقة قيادات قوات سوريا الديمقراطية، وينسجم مع رؤاهم في رغبتهم تجاوز الوضع الراهن. إذا مشروع المنطقة الآمنة يأتي بالأساس ردا أو -لنقل في أفضل الأحوال-استجابة أمريكية للمطالب التركية ولـ”المظالم” التي تدعيها بشأن أمنها القومي من شمال سوريا ومن الأكراد حسب قول تركيا دائما, لكن هذا المشروع وبهذا الشكل يخدم المنطقة برمتها، كما يخدم تركيا، ليس في إطار حمايتها من شمال سوريا أو من “قسد” كما تدعي، بل في تشكيل أرضية مشتركة لتفاهمات أكبر حول علاقات حسن الجوار، وهذا ليس مجرد حلم.
إضافة لهذين المشروعين الأمريكيين، فإن السياسات الأمريكية في سوريا بدأت تتوضح أو على الأقل بدأت مواقفها تأخذ شكلا من مشروع أو خطة سياسية يمكن إيجازها على الشكل التالي: أمريكا تعمل الآن على عزل النظام السوري ومنعه من العودة للجامعة العربية،وكلنا شاهد الزيارات السريعة لوزير الخارجية الأمريكي إلى دول الخليج والتي طلب خلالها منهم التوقف عن مسالة إعادة العلاقات الدبلوماسية، وكذلك ستستمر العقوبات الاقتصادية متعددة الابعاد بدءًا من فرض الحظر الاقتصادي على سوريا، وصولا إلى فرض العقوبات على من يخترق الحظر، كما أنها أصرت على منع أوروبا والخليج من المشاركة الآن في تثبيت الاستقرار وإعادة البناء، وتذرعت بحجة دخول سوريا إلى العملية السياسية الديمقراطية، ومرحلة التحول والتغيير الديمقراطي.
أمريكا واضحة جدا في أنها تعمل فعليا على خنق مساري أستانا وسوتشي، ولا تخفي رغبتها تلك،خصوصا أنهما ينتهيان فعلا بالتدريج وأنه أصلا مخطط روسي مشترك مع تركيا وإيران للاستحواذ على المبادرة، وإبعاد أمريكا.
يبقى الحل الوحيد هو المسار الأممي عبر “جنيف”والأمم المتحدة، ولا مانع من اصطحاب مشروع الدستور من “سوتشي” ونقله إلى “جنيف”. ولا تزال “جنيف” تنتظر -ويبدو أن التوافقات لا تزال بعيدة- ولا احد يعلم تداعيات الوضع السوري ولا امتدادات صفقة العصر وتداعياتها.
هزيمة “داعش” وانهيار دولة الخلافة.. ماذا بعد؟
انتهت دولة الخلافة على الأرض مع انتهاء معركة “الباغوز” لكن “داعش” كتنظيم لم ينته بعد، وقد يستمر طويلا، لأن أسباب وعوامل وظروف ظهور “داعش” و”القاعدة” وغيرها من التنظيمات الإرهابية لاتزال كلها قائمة، وهي أصلا كانت تدرك في وقت قبل الآن بكثير -حتى قبل تحرير الرقة- أنها ستفقد سيطرتها المكانية الجغرافية، بل إن إصدارات داعشية صدرت ونشرت قبل ذلك بكثير، أكدت أنه لا يمكن لهم الاحتفاظ بالسيطرة على الأرض وأنه لا بد من التوجه نحو الحالة التنظيمية التي تسبق إعلان دولة الخلافة، لأن الدولة وإعلانها يلقيان على التنظيم أثقالا مالية وإدارية لا يمكن تحملها، خصوصا أن التنظيم الجهادي أو البقاء في حالة مجرد تنظيم جهادي سيتركه في حل من التزاماته المالية والخدمية للشعب،وهو ما سيعني الاحتفاظ بالكثير من الأموال لخدمة المستقبل.
اكتملت الهزيمة في “الباغوز”، ولم تبدأ بها، وهذا يجعلنا ندرك أن تنظيما متمرسا مثلا “داعش”، لا بد أن يأخذ التدابير اللازمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التنظيم لصالح المرحلة القادمة، ولا مانع من الانكفاء والانسحاب مرة أخرى إلى معاقلها الأصلية في أعماق الصحراء وكذلك بين الناس، أو كما تقول نحو أرض التمكين.
تدل المؤشرات على أن “داعش” فعلا ينظم نفسه من جديد بالانسحاب من أمكنة المواجهة الحامية نحو المناطق التي تمكنه من لملمة صفوفه من جديد لإعادة تنظيم قواته والبدء بانطلاقة جديدة. ليس هذا فحسب، بل إنه انتشر أيضا مكانيا نحو بؤر التوتر السابقة ونحو ساحات “الجهاد” الجديدة المنتجة، بعد أن تحدث زعيم جبهة النصرة محمد الجولاني، منذ زمن طويل، ودعا جهادييه إلى التوجه نحو أرض خصبة للنضال، بعد أن باتت “هذه الأرض قاحلة للجهاد”،على حد قوله.
انتقل “داعش” في بعض المناطق من الحالة العسكرية إلى الحالة الأمنية، وسيعتمد على مفارز قليلة العدد وسريعة الحركة وبتنظيم سري يمكنه من الضرب، حيث يشاء بهدف التشتيت وإعادة الأمل لمناصريه، ناهيك عن الخلايا النائمة وإحياء الخلايا النائمة والذئاب المنفردة وغيرها.
يجب أن ندرك أن الأرضية التي أنتجت “داعش” لاتزال موجودة، والسجون والمعتقلات لا تنهي تنظيمات من هذا النوع حتى لو كان عددهم بعشرات الآلاف،والصراع مع هذه المفاهيم ونتاجاتها سيستمر طويلا.
بات “داعش” الآن –بعد هزيمته- مرشحا للانقسام بين التوجهات الأكثر راديكالية وبين أصحاب المفاهيم والتوجهات القاعدية، وهو ما لوحظت بوادره في المراحل الأخيرة بالفعل.
الإدارة الذاتية والمهمات الصعبة
رغم هزيمة “داعش”، فإنه لا بد أن نتذكر أن القوى المعادية والهادفة إلى زعزعة المنطقة عبر استهدافها وأمنها والتآمر عليها، لا تزال كثيرة وقوية ومدعومة، وأننا بالمقابل لا نزال نعاني من الكثير من الممارسات والمواقف الإقصائية الإنكارية، وأن المتربصين الخارجيين والداخليين بالإدارة كُثُر، وعلى درجة كبيرة من الخطورة والقوة والسوء وحتى الدناءة، ولهذا نجد أنفسنا وجها لوجه منذ اللحظة الأولى أمام مهام الدفاع والحماية.
قد يخال البعض أن هزيمة “داعش” الجزئية قد تعني المهادنة أو التساهل في أمور الدفاع والأمن والحماية،بل على العكس، حيث إن هذا الواقع الإيجابي يجعل هذه المناطق أكثر عرضة للاستهداف المباشر وغير المباشر وعلى كل المستويات من كل القوى التي تعادي الإدارة والمشروع الديمقراطي وكل المكونات المشاركة في هذا المشروع، لذا فإن “قسد” ستعمل بالتأكيد -وهذا ما ظهر أيضا خلال بياناتها في المرحلة السابقة القريبة- على تحقيق التطوير نوعا وكما وتسليحا وقوة، وكذلك ستعمل قوات الآسايش هي الأخرى على التطور عددا وعدة وتدريبا واحترافية.
إن الإدارة الذاتية الديمقراطية أو الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ومجالسها المدنية والمحلية ومجلس سويا الديمقراطية وكل التكوينات السياسية، كلهم مدعوين –وبقوة- للعمل جنبا إلى جنب كخلية نحل، لحل المشاكل والقضايا العالقة، وهي قضايا لا تزال كثيرة وكثيرة جدا. ويمكن القول إن هزيمة “داعش” قد وضعت المؤسسات الإدارية والعسكرية والأمنية أمام مهمات إضافية تحتاج إلى القوة والعدد والعُدة بقدر ما تحتاج للنوع والكم والمهنية والاحترافية.
إنها مسؤولية تحقيق الانتصار الكامل للثورة الحقيقية في سوريا التي تمثلها الثورة في هذه المناطق، لكنها أيضا مهمة بناء وطن يتجاوز مساحته ثلاثة أضعاف لبنان، ويبلغ عدد سكانه أكثر من 5 ملايين نسمة.. وطنتعرض للتدمير وتعرض شعبه للتهجير والقتل والمجازر. إنها مهمة بناء وطن دُمر فيه الحجر والشجر والبشر،وليس هذا فحسب، بل الدفاع عنه وحمايته وتثبيت الأمن والاستقرار فيه وتأمين حياته وإدارة شؤونه على كافة الأصعدة والاتجاهات، وهذا يستلزم الخوض في الجيش والأمن والسياسة والدبلوماسية والافتصاد والمالية والإدارة والصحة والعدالة والتعليم.. إلخ.
إذا، فالإدارة أو الإدارات -قبل كل شيء- مدعوة لإعادة النظر في تركيبتها وتكويناتها، للوصول إلى هيكلية بنيوية واضحة المعالم ووظيفية تمتاز بالمهنية والاحترافية، وتحقق مبادئ الحوكمة الرشيدة،كالشفافية ومحاربة الفساد والتخطيط والمحاسبة وتطوير المؤهلات والتشاركية الحقيقية، ويتحقق فيها نسبيا منطق الإنسان المناسب في المكان المناسب، أي أنه لا بد من التوصل إلى هيكل جامع وشامل بمؤسسات قادرة على الأداء والإنتاج، وتكون قادرة على أن تدير الأمور بانسيابية تحقق لها إنتاجية كبيرة تعود على الشعب بالخير في نتائجه.
لا بد من الاعتماد على الكفاءات المتوفرة، وتوفير ما يلزم منها، عبر آليات ومؤسسات تنمية الموارد البشرية.
سيتصاعد العمل الدبلوماسي بوتيرة أكبر، وكذلك بإنتاجية أفضل وانتشار أوسع وحرفية أدق، من خلال استيعاب الكفاءات الموجودة وتهيئة الظروف لإعداد كفاءات أخرى وإنقاذ دبلوماسية الإدارة من السطحية والمزاجية واللا إنتاجية.
لا بد من التخلص من الضجيج التنظيمي المؤسساتي الفائض غير المبرر وغير المنتج، والذي يشكل عبئا ثقيلا على الإدارة ماليا وماديا ومعنويا، ويشكل نوعا من البطالة المقنعة، ناهيك عن الأمراض الأخرى كالوصولية والمحسوبية.
إن مرض السلطة المبكر يظهر بكل تداعياته وآثاره السلبية، بدءًا من ضعف الخبرة وخطأ التعامل، وصولا إلى الذرائعية والمنفعة والتسيب والتسلط والانحلال.. إلخ.
إن الإدارات الديمقراطية هي تلك التي تعتمد على البلديات أكثر من الوزارات، وتكون الحصة الكبيرة من الخدمات ملك للبلدية وعائدة لها، وهذا يستوجب بالتالي الاهتمام الكبير بالبلديات وتوزيع المهام فيها وانتخاب الكفاءات وتسليم المهام لأهلها، وإنقاذها من الترهل والتسيب وفقدان الرقابة والمحاسبة.
لا بد من تطوير آليات التعليم، فما يتم استثماره في التعليم هائل وهائل جدا، لكن هل يمكن لنا الادعاء بأن الإنتاجية تعادل الاستثمار أو على مستوى الاستثمار؟بالتأكيد لا، والقضية هنا فنية واختصاصية وعلمية، أكثر من مجرد رغبات أو إصرار أو أمانة أو صدق.
ليس لأحد أن يناقش أهمية القضاء والحقوق أو يشكك في دوره في تطوير المجتمعات واستقرارها، لكن الاستقرار في العدليين والهياكل العدلية والقضاء والقضاة وترسيخ القوانين، هي الخطوات التي تخلق استقرار الحقوق والعدالة، مع العلم بأن القضاء والحقوق هي مسائل اختصاصية علمية احترافية،وتستلزم مهنيين في هذا المنحى، لكن مع الأسف لايمكن الحديث عموما عن قضاء مقبول بنسبة جيدة.
باختصار، الإدارة مطالبة بأن تكون إدارة فاعلة مهنية أقرب إلى الاحتراف وتستقطب الكفاءات وتؤمنها وتصنعها، لأنها مطالبة ببناء وطن مدمر وشعب مشتت ومنهار، وسط ضعف الإمكانات وكثرة الهجمات المعادية من كل صوب.
إن المهمة التي أمام الإدارة هي مهمة استثنائية في زمن استثنائي، تتطلب قادة وإداريين استثنائيين وبجهود استثنائية.
*د. ناصر حاج منصور: مدير المركز السوري للدراسات والحوار.