رودي عثمان
بمراسيم عسكرية وحضور رسمي وشعبي، وفرقة نحاسية تعزف أناشيد النصر، ومع ترقب عالمي وإقليمي ومحلي للإعلان التاريخي عن نهاية تنظيم أرهب العالم بأفعاله الشنيعة وممارساته اللاإنسانية واللاأخلاقية، في ظل هذه الأجواء -وعلى وقع أنغام أنشودة النصر- تكشف الستار عن النصب التذكاري لنهاية هذا الجيل من الفكر الإرهابي المتطرف من قبل القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، والقائد العام لوحدات المرأة نوروز أحمد، ومستشار وزارة الخارجية الأمريكية ممثلا عن التحالف الدولي السفير ويليام روباك.
تلت هذه الأجواء الاحتفالية التي غطتها وسائل الإعلام، كلمة القائد العام لـ”قسد” التي أعلن فيها نهاية تنظيم “داعش” الإرهابي. (باسم القيادة العامة لقوات سوريا الديمقراطية وجميع مقاتليها ومقاتلاتها، ونيابة عن كل حلفائنا الذين حاربوا معنا في نفس الخندق، نعلن اليوم عن تدمير ما كان يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية وإنهاء سيطرتها الميدانية في آخر جيوبها في منطقة الباغوز). نهاية تتطلب المزيد من العمل المتواصل لسد الطريق أمام أجيال أخرى من هكذا تنظيمات، تعيد إنتاج نفسها وتغذي الحقد والكراهية بين المجتمعات.
“داعش”.. طفرة من رحم الإرهاب
بعيد إسقاط نظام صدام حسين في العراق عام 2003، ظهرت العديد من التنظيمات والأحزاب وتنوعت في أهوائها وتوجهاتها الفكرية، وأصبح العراق ساحة مفتوحة أمام جميع الدول الإقليمية والتنظيمات غير المحلية والمتطرفة أيضا. وقد استغل تنظيم “القاعدة” ذلك الفراغ والبيئة المهيئة لنشر تنظيمه وتمديده داخل العراق، وبشكل خاص ضمن المناطق السنية، وقد قام أبومصعب الزرقاوي بتأسيس بتنظيم “التوحيد والجهاد” في سبتمبر/أيلول 2003. وبعد أقل من عام في أغسطس/آب 2004، بايع “الزرقاوي” أمير تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وتحول اسم الجماعة إلى “تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”. بعد مقتل “الزرقاوي” عام 2006، جرى انتخاب “أبي حمزة المهاجر” زعيما لتنظيم القاعدة في العراق، وحاول جمع شتات المتطرفين من خلال إعلان هيكلية جديدة ضمت جماعات متطرفة تحت مسمى “مجلس شورى المجاهدين في العراق” في 15 يناير/كانون الثاني 2006، وتم اختيار عبدالله رشيد البغدادي لإمارة المجلس، وضم المجلس كلا من “تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، جيش أهل السنة والجماعة، جيش الطائفة المنصورة، سرايا أنصار التوحيد، سرايا الجهاد الإسلامي، سرايا الغرباء، وكتائب الأهوال”. قُتل “الزرقاوي” في الشهر ذاته من إعلان المجلس، وعين أبوحمزة المهاجر زعيما للتنظيم في العراق. وفي نهاية عام 2006، تم تشكيل تنظيم عسكري يضم كل تلك التنظيمات الأصولية المتطرفة والمنتشرة على الأراضي العراقية من خلال تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” بزعامة أبوعمر البغدادي. وقد جمعت أبي بكر البغدادي مؤسس تنظيم “جيش أهل السنة والجماعة”، علاقة وثيقة بأبي عمر البغدادي، وصلت إلى حد أن الأخير أوصى بأن يكون أبي بكر البغدادي خليفته في زعامة الدولة الإسلامية في العراق، وهذا ما حدث في 16 مايو/آيار 2010، حيث اختير أبوبكر البغدادي أميراً للدولة الإسلامية في العراق بعد مقتل أبوعمر البغدادي وأبوحمزة المهاجر في 19 أبريل/نيسان 2010، في عملية خاصة قامت بها القوات الأمريكية في منطقة “الثرثار”، مستهدفة منزلا كانا بداخله.
وفي أبريل/نيسان 2013، تم الإعلان عن إقامة “الدولة الاسلامية في العراق والشام”، وانضم إليها أغلب المقاتلين الأجانب في جبهة النصرة، وهو ما شكل افتراقا علنيا بين “القاعدة” والتنظيم، حيث طارد التنظيم جميع الكتائب والفصائل المعارضة الأخرى، وعلى رأسها جبهة النصرة، وأحكم سيطرته على كل المناطق الممتدة من الحدود السورية العراقية حتى أطراف مدينة حلب شمال سوريا.
لقد اتسمت مسيرة التنظيمات الإرهابية التي كانت محصلتها “داعش”، بالدموية والطائفية والتكفير، فلم تسلم منهم المراقد والمزارات الدينية، كما استهدفوا الأسواق والمدنيين وخيم العزاء ونفذوا عمليات الاغتيالات، فضلا عن التفنن في القتل لتصل مع “داعش” إلى ذروة بشاعتها وعدم تصور العقل البشري لأفعالهم التي تجاوزت كل حد كحرق الضحايا وهم أحياء أو إغراقهم أو رميهم من أماكن مرتفعة، وغيرها من الأفعال السادية. إن الإرهاب والمغالاة في الممارسات التي تبعث على الرهبة والخوف في نفوس المدنيين، كانا السمة الأبرز لعهد “داعش”، وقد استندوا في ذلك إلى تفاسير للقرآن الكريم تتوافق مع توجهاتهم المتطرفة، التي ترى أن الشعوب الإسلامية “الأمة الإسلامية” ابتعدت عن الإسلام، وأنهم هم من سيقومون بإصلاح حالة تلك الشعوب من خلال الشدة والترهيب لتلك الشعوب وللكفرة وكل من عاداهم أو لم يقبلهم، مستندين في ذلك إلى سور من القرآن، كما جاء في سورة الأنفال في الآية 60: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}. إذا، استند “داعش” أساسا إلى فكرة تكفير كل من واجههم من جانب، واتباع سياسة الترهيب لإقامة نظام حكم متطرف يتستر بالدين الإسلامي ويعمل على استقطاب الراغبين في الجهاد -حسب تصورهم- إلى دولتهم. ولتأمين وصول الإرهابين من أصقاع العالم إلى سوريا والعراق، استخدموا الدعاية الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي والدعم اللوجستي وممرات الوصول إلى سوريا والعراق، عبر شبكات وخلايا متخفية ومنتشرة في العالم.
“داعش” وتركيا
منذ أن استلم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الحكم في تركيا، وهو يطمح لإعادة إحياء أحلامه في بناء سلطنة عثمانية جديدة، كما عمل في الداخل على تعزيز صورته كمخلص للأمة الإسلامية ورافع لمكانة الدولة التركية، وقد اختزل الدولة في شخصه من خلال النظام الرئاسي الذي دعا إليه، وقام بإضعاف وتصفية الخصوم داخل تركيا وإزكاء العداء تجاه الكرد. بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، استغل “أردوغان” الأوضاع من خلال العلاقة التي تجمعه مع التيارات الإسلامية في الدول التي شهدت ثورات شعبية، فدخل على الخط مستغلا الفرصة لدعم الإخوان والتيارات الإسلامية المتطرفة الأخرى، في كلا من تونس وليبيا ومصر وسوريا. وتحدث صراحة عن أحلامه وأطماعه في المنطقة من خلال التلميح إلى أن معاهدة لوزان 1923، قد ظلمت الأتراك، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2016، قال “أردوغان”: (لقد هددونا بمعاهدة سيفر، وأقنعونا بقبول لوزان.. لقد ضُغط علينا كي نقبل بتلك المعاهدة، لقد سلّمنا جُزرا قريبة منا إلى حد أننا لو نادينا على سكانها من أراضينا لسمعونا، والعجيب أنها صورت على أنها انتصار للجمهورية التركية). وقال في مناسبة أخرى من ذات الشهر بأنه: (يجب فهم أن كركوك كانت لنا، وأن الموصل كانت لنا.. لماذا هذا الكلام لا يعجبهم).
هذا الكلام لم يأت من فراغ، وإنما بعد أن احتل مناطق في سوريا تمتد من “جرابلس” إلى “إعزاز”، وصولا إلى مدينة الباب و”عفرين”، وفرض هيمنته على “إدلب”، كما نشر قواته في مخيم “بعشيقة” بمحافظة الموصل لتدريب قوات البيشمركة ظاهريا، وتثبيت الوجود التركي عمليا. استفاد “أردوغان” ونظام حكمه من الأحداث الجارية في كلا من العراق وسوريا، استفادة وصلت إلى حد التنسيق أو التعاون بين أطراف تجمعهم قواسم مشتركة كالتطرف الديني، ومن هنا بدأت الصورة تتوضح وتنكشف للعالم عن الدور التركي في دعم التنظيمات المتطرف وعلى رأسها “داعش” و”النصرة”، حيث لم يقتصر دورها على ممر آمن، وإنما كانت مسرحا للتخطيط والدعم اللوجستي لهكذا تنظيمات متطرفة. وقد عرضت قناة “بي.بي.سي” البريطانية تحقيقا مصورا في 7 ديسمبر/كانون الأول 2013، تضمن استخدام الإرهابيين الأجانب منازل في جنوبي تركيا كمركز لعبور الحدود إلى سوريا. وأوضح أحد أصحاب المنازل أن الإرهابيين عادة ما يقضون يوما أو اثنين في المنزل قبل العبور إلى سوريا، وفي طريق العودة يستخدمون المنزل مرة أخرى انتظارا لرحلات العودة إلى أوطانهم. كما أكد هذه العلاقة ما اصطلح على تسميته في الاعلام بـ”سفير داعش لدى تركيا أبومنصور المغربي” الذي التقته مجلة “هوم لاند سيكيوريتي توداي” الأمريكية في فبراير/شباط 2019، حيث قال إن مهمته “كانت تنسيق علاقة داعش بالمخابرات التركية وإدارة شبكة من الأشخاص، الذين يتلقون أجوراً من داعش لتسهيل سفر المقاتلين الأجانب إلى المدن الحدود التركية، مثل ديلوك /عنتاب وأنطاكيا وروها/ أورفا، وغيرها، فضلا وجود شبكات لداعش داخل تركيا يؤمنون ويبايعون داعش كأفراد وجماعات، وتأمين العلاج لعناصر داعش الجرحى في المشافي التركية وإدخال المساعدات الغذائية بالتنسيق مع المخابرات التركية، فضلا عن عمليات بيع النفط إلى تركيا بشكل رئيسي، حيث بلغت وارداته أكثر من 14 مليون دولار شهرياً”. وقد قدر أبومنصور المغربي عدد الأجانب الذين دخلوا من تركيا إلى سوريا ما بين عامي 2014 – 2015، بـ35000 ألف مقاتل غالبيتهم من شمال إفريقيا، فيما وصل عدد الأوربيين إلى 4000 مقاتل.
ويرى “أبومنصور المغربي” أن سر العلاقة بين “داعش” وتركيا، يكمن في تحقق الفائدة للجانبين من خلال إحكام قبضتها على المناطق الشمالي الحدودية وتحقيق حلم الأتراك بالسيطرة على كل الشمال السوري، بداية من “كساب” في اللاذقية وصولاً إلى الموصل، و تدمير الأمة الكردية بالسيطرة على مناطقهم.
ورغم ذلك، فإن تركيا كانت تنظر إلى “داعش” على أنه تنظيم وظيفي يحقق لها أهدافها التي تم ذكرها، وعند انتهاء الحاجة إليهم، يتم فك الارتباط معهم أو خفضه.
الكرد والجماعات المتطرفة.. خطان لا يلتقيان
لم يحدث أي صدام أو مواجهة مباشرة بين الكرد والتنظيمات الإسلامية المتطرفة بحكم البعد الجغرافي وعدم وجود أرضية مناسبة لتنامي مثل هذه التنظيمات داخل المجتمع الكردي، باستثناء حالات قليلة ومحدودة كحزب الله التركي في تركيا خلال أعوام التسعينات، وفي إقليم كردستان كـ”جماعة أنصار الإسلام” بقيادة نجم الدين فرج المعروف بـ”ملا كريكار”، والتي تأسست في نهاية العام 2001، حيث بايعت تنظيم “داعش” في يوليو/تموز 2014. ورغم أن المجتمع الكردي بغالبيته مسلم ويتبع المذهب السني، فإنه بعيد عن الاندماج في التنظيمات الإسلامية المتطرفة، ولا تشكل الأفكار والتنظيمات المتطرفة المستندة إلى الدين ضمن المجتمع الكردي حالة مستعصية بسبب انعدام الانسجام على المستوى الاجتماعية مع تلك الجماعات. وكانت بدايات الصدام بين الكرد في سوريا و”داعش” قد بدأت مع أولى الخلايا التي تمركزت في مدينة “سري كانيه/رأس العين”، حيث لم تستقم حينها لها الأمور، وكانت لا تزال تبحث عن موطئ قدم لها، لكن حملة تحرير المدينة في 17 يوليو/تموز 2013، حرمت التنظيمات المتطرفة من التمدد داخل المناطق الكردية ونشر خلاياها. في تلك الأثناء، كان “داعش” قد أعلن عن دولته في أبريل/نيسان 2013 وحدث صدام بينه وبين “النُصرة”، ليشكل بذلك انشقاقا عن التنظيم الأم “القاعدة”، كما سيطر تنظيم “داعش” على مناطق سيطرة “النُصرة” والجيش الحر في المناطق الممتدة من الحدود السورية العراقية حتى أطراف مدينة حلب والبادية السورية. في 10 يونيو/حزيران 2014، قام التنظيم بالسيطرة على مدينة الموصل، حيث فر منها القيادات السياسية والأمنية والقوات الرسمية التي قدرت بثلاث فرق من الجيش والشرطة (ما بين 40-50 ألف مقاتل) مجهزة بالسلاح الأمريكي. وفي الثالث من أغسطس/آب، توجه “داعش” نحو “سنجار/شنكال” ليرتكب إبادة جماعية بحق الكرد الإيزيديين والتي لا تزال آثار أفعالهم تعاش يوميا من خلال ضحاياه الذين يتم تحريرهم. من هنا، بدأت بشكل فعلي المواجهة بين الكرد و”داعش”، حيث قامت وحدات حماية الشعب بالتوجه نحو الحدود وفتح معابر باتجاه “روج آفا”، لإنقاذ الفارين من المجزرة في الوقت الذي انسحبت من “شنكال” قوات البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني. يمكن اعتبار التوافق بين “داعش” وتركيا قد بدأ يأخذ شكلا أكثر وضوحا بإنشاء حزام متطرف حول المناطق الكردية والانقضاض عليها من خلال قضمها منطقة بعد أخرى، وقد كانت “كوباني” المنطقة الكردية اللاحقة بعد “شنكال”؛ على موعد مع الإرهاب الذي شن حربا غير متكافئة ضد الكرد في 15 سبتمبر/أيلول 2014، وقد استمرت المقاومة في “كوباني” إلى أن انكسر الهجوم الداعشي في 27 يناير/كانون الثاني 2015، حيث فتحت تلك المعركة آفاقا جديدة للتواصل والشراكة بين أمريكا والتحالف الدولي ضد “داعش” من جهة، والكرد في “روج آفا” من جهة أخرى، وتطورت تلك الشراكة في مكافحة الإرهاب من “كوباني”، لتليها حملات التحرير لـ”تل أبيض.. منبج.. الهول.. الشدادة.. الرقة، وآخرها في دير الزور”.
معركة الباغوز.. الفصل الأخير لدولة “داعش”
تحملت هذه البلدة الصغيرة النائية نهاية مسلسل مأساوي لطفرة متحولة من الفكر الإرهابي المتطرف، وتحملت معه ضريبة تدفق الإرهاب عليها وتجمعهم فيها بعد الهزائم المتتالية التي مُني بها التنظيم. في 9 يناير/كانون الثاني 2019، انحسرت المعارك بعد تلقيهم ضربات قاسية وأجبروا على التجمع في “الباغوز”، لتبدأ بذلك المعركة التي استمرت 73 يوما وانتهت بتحقيق انتصار تاريخي لقوات سوريا الديمقراطية وحلفائها على قوى الإرهاب العالمي. لكن ما صدم العالم، هو الحجم الكبير للمدنيين وعوائل “داعش” التي كانت متواجدة في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 2كم2، حيث حُشر فيها من المدنيين 37000 مدني، و29600 من عوائل الإرهابيين، بينهم أكثر من 5000 إرهابي. لقد كانت بمثابة معسكر مكتظ بالبشر، وهذا ما أخَّر ودفع قوات سوريا الديمقراطية وحلفائها إلى التريث وفتح ممرات إنسانية، وقنوات للتفاوض لتسليم الإرهابيين أنفسهم.
ومع إسدال الستار على الوجود العسكري والجغرافي لـ”داعش”، تبدأ مرحلة جديد إن لم يتم معالجة الأسباب بأبعادها المختلفة، ستكون بمثابة بيئة خصبة لإنتاج جيل جديد لما بعد “داعش”. ويمكننا القول إن القيادات والعناصر في “داعش”، ستقوم بمراجعة فكرية وتطرح أسباب الفشل أمامها وستدخل في مخاضات التحول والمراجعات لاستراتيجيتها. وفي هذه الحال، وكما هو الحال في أغلب التنظيمات الراديكالية، ستعود إلى المنبع الام، وهو تنظيم “القاعدة”، لإعادة ترتيب رؤاها وصياغة استراتيجية جديدة تستفيد من الأخطاء التي وقعت فيها، وقسم منهم سيعود إلى العراق ليجمع شتاته، وقسم ثالث سيعمل منفردا وسيتم استخدامه أو دمجه في هياكل متطرفة أخرى. لكن، من المحتمل أن ترجح القيادات والعناصر المتبقية والمنفلتة الالتفاف حول “القاعدة” ووريثها الشرعي في سوريا تنظيم جبهة النصرة (جبهة فتح الشام، حاليا). فـ”القاعدة” الموجود في شمالي سوريا، والمتمثل في جبهة فتح الشام، سيستقطب من ابتعد عن “داعش” ويعيد تنظيمهم من جديد، وهذا الدور لا يمكن فصله عن الدعم المقدم وبسخاء من قبل تركيا، التي يرتبط رئيسها (المجاهد) حسب ما يراه الإسلاميين المتطرفين، بهم، فـ”تركيا أردوغان” تحتضن هذا التنظيم الإرهابي علانية من خلال الاتفاق مع روسيا على نشر نقاط مراقبة تعد بمثابة درع يحميهم عبر توافقات دولية. وتستغل تركيا هذه الأوضاع وتضغط لكي يكون لها نموذجها الخاص من “القاعدة”، وتسير بإمرتها من خلال هالة شرعية يسعى “أردوغان” إلى إضفائها على نفسه.
إن الخوض في مسارات الحركات الجهادية وتكويناتها العقائدية معقد للغاية، ولا يمكن أن تتوحد أو تستقيم في تنظيم واحد، لكن يمكن لها أن تتلاحم من حيث القيادة والعناصر بالإكراه أو المبايعة، وهي لا تقبل القسمة والتنازع فيما بينها، لأن كل جهة ترى أنها تحمل صولجان الإسلام والحق وتكفر الآخرين. ومع هكذا تنظيمات تستخدم الترهيب والعنف لإنهاء الآخر المتفق معها عقائديا، فإنها لن تتوانى على ضرب المختلف معها فكريا ودينيا ومذهبيا، وستستخدم ضدهم كل أشكال القتل والتعذيب.
إن الترياق المناسب للحيلولة دون تسلل هكذا تنظيمات متطرفة وأفكارها إلى المجتمعات يمكن إيجازه في:
-تنمية ثقافة التآخي ونشر الوجه المتسامح للدين من خلال علماء دين يدعون إلى الاعتدال والتعايش ونبذ الكراهية والعنف، وهذه أولا المهام التي يجب أن تلي مرحلة ما بعد “داعش”، لسد الطريق أمامه.
-التنمية؛ وسد الطريق أمام الفقر والجهل، لأنها آفات تنال من الشعوب وتدفع شرائح واسعة منها إلى أحضان التنظيمات المتطرفة عقائديا؛ سواء أكانت دينية أم قومية أم مذهبية. والمعالجة تكون من خلال إعادة الإعمار وتأمين فرص العمل والتخطيط المنظم لسد الطريق أمام البطالة عبر مشاريع صغيرة ومتوسطة تجعل الإنسان يشعر بقيمته من خلال العمل الذي يقوم به ويؤمن له عيشا كريما. وبالتوازي مع ذلك، تستوجب المرحلة القادمة إقامة مشاريع استراتيجية تنموية تنهض بالمنطقة وتؤمن متطلبات المجتمع، بحيث لا تكون تحت وصاية أو رحمة أي جهة. كما يجب محاربة الجهل ووضعه في خانة خطورة التنظيمات الإرهابية، والجهل هنا لا يقتصر على الأمية في التعليم، وإنما تصويب التفكير نحو البناء وحب الحياة وتقبل الآخر وتنمية التفكير العلمي والمبدع، من خلال نظام تعليمي يحترم العقائد والقيم الإنسانية لمجتمعاتنا ويجرم العنف واستخدامه.
-نبذ التعصب؛ إن السياسات الخاطئة التي شهدتها سوريا بأقل تقدير منذ استلام “البعث” للسلطة رسخ التعصب وقام بتجميله على أنه حالة وطنية وقومية مُثلى وغاية يجب الوصول إليها. ولا يختلف التعصب الذي رسخه البعث عن التعصب الذي شهدناه خلال سنوات سيطرة “داعش”، فكلاهما يستند إلى ذات المنبع المتعصب لفكرة وفئة تطويع باقي المجتمع لخدمة تلك الفكرة بالفرض والإكراه. هذه الآفة يجب معالجتها مجتمعيا من خلال الإعلام والتعليم والوجهاء وشيوخ العشائر ورجال الدين ولجان الصلح المحلية والتنظيمات الشعبية التي تضم أشخاصا ينتمون لمكونات اجتماعية سورية متنوعة.
-الدفاع الذاتي؛ إن الاحتكام إلى السلاح لحل الخلافات لن يزيدها إلا تأزما وبعدا عن الحل، لذا يجب أن ينحصر السلاح واستخدامه في حدود الدفاع عن الذات مجتمعيا والاحتكام إلى القانون والهيئات الاجتماعية التي تتبنى الأخلاق المجتمعية أساسا، ويجب تطوير مفهوم الدفاع الذاتي من خلال إفساح المجال أمام المواطنين للتعبير عن رفضهم أو عدم قبولهم لأي حكم أو موقف من خلال إجراءات قانونية وحقوقية تضمن سير العدالة بشكل يريح المواطنين والشرائح الاجتماعية.
– النظام السياسي؛ إن الانكفاء والانغلاق من أحد السمات الأساسية التي تدفع إلى انهيار أي نظام أو تلقيه لهزات قوية تفقده توازنه، فأي نظام سياسي لا تشعر المكونات الاجتماعية بالانتماء إليه، سيكون معرضا لمثل هذه الهزات. لذا، يجب الابتعاد عن سياسة التعصب لفكرة أو قوم أو مذهب، والارتقاء إلى حالة وطنية ضمن أمة لا تعتمد على القومية أو الدين أو المذهب، وإنما أمة تحدد بوصلتها الديمقراطية والعيش المشترك وتآخي الشعوب.
-المجتمع الدولي؛ على المجتمع الدولي ألا يقف متفرجا أمام الكارثة الإنسانية، فالمخيمات المكتظة بالإرهابيين وعوائلهم تمثل قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أي وقت. ويجب أن توضع برامج وخطط ممنهجة للحيلولة أو الحد من تأثير هذه القنابل البشرية، من خلال تأمين محاكمة دولية، لأن “داعش” تنظيم عالمي، وكل دول العالم معنية بهذه القضية، ويجب المساعدة في تقديم الدعم للعمل على نزع الأفكار السوداوية من رؤوسهم، وإعادة دمج من لم يثبت تورطهم، وبشكل خاص الأطفال منهم.
-التنسيق الأمني؛ بعيد الإعلان عن انتهاء “داعش” في شرق الفرات، بدأت بعض العمليات في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. وهذا يعني أن “داعش” سيتبع سياسة الخلايا النائمة ونشر الرعب داخل المدن والتجمعات السكانية، وذلك يتطلب نوعا آخر موازٍ للقوة العسكرية، ألا وهو العمل الاستخباراتي الذي يتتبع خيوط خلاياهم ويمنعهم من تنفيذ عملياتهم التي لن تقتصر على سوريا، وإنما ستتجاوزها إلى دول العالم كالإرهابي الفرنسي “فابيان كلان”، الذي نفذ هجمات باريس في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وقُتل في “الباغوز”، وكتيبة “خراسان” التابعة لـ”داعش”، والتي نفذت هجمات في بروكسل وباريس، وكانت متواجدة في “الرقة”.
-تجفيف منابع الإرهاب؛ كتركيا التي تشكل رحم الإرهاب، والتي يبدو أن دول العالم تتحاشاها بسبب معرفتها نواياها وقدرتها على توجيه الإرهاب صوب أي دولة تواجهها. لا يمكن التحدث عن وقف موجة الإرهاب ما دامت تركيا موجودة ضمن الأراضي السورية وتقوم بحماية الإرهابيين، وتعمل على تطوير نموذجها الخاص، ولن يتم وقف مسلسل الخراب في سوريا ما دامت تركيا موجودة.
– دعم قوى التحول الديمقراطي؛ لقد كانت سنوات الصراع والثورة والأزمة في سوريا بمختلف مسمياتها بمثابة امتحان لكل القوى الموجودة على الجغرافيا السورية، لتثبت مدى قدرتها على إجراء تحول جذري في المجتمع رغم الحرب والحصار. في “روج آفا” وشمال سوريا، تم وضع حاجز اجتماعي يمنع الأفكار العنصرية من التسلل. تم إنشاء نظام سياسي يحتضن كافة المكونات الاجتماعية ونظام عدالة اجتماعية، وتم لأول مرة في الشرق الاوسط عموما تطبيق نظام الرئاسة المشتركة لكافة الهيئات والمؤسسات، وأُنشأت قوة عسكرية منظمة ضمن الظروف المتاحة تضم الكرد والعرب والسريان وغيرهم إلى صفوفها، كما قاومت الإرهاب وأقامت علاقات جيدة مع العالم الحر لمواجهة الإرهاب.. هكذا نموذج يرى الصورة المتكاملة للواقع السوري، يمكنه توجيه الفكر نحو البناء في سوريا وليس التدمير والخراب لسوريا وخارجها.
-الحل السياسي؛ للحيلولة دون إنتاج نموذج آخر من “داعش” أو الحد منه، يجب الإسراع في حل الأزمة السورية من خلال إشراف الأمم المتحدة بعيدا عن “أستانا” التي شوهت المبادرات الدولة لتختصرها بأطراف مشاركة بالحرب فعليا ولها أهدافها الخاصة. ويجب تثبيت الأوضاع وتحديد الجهات المتفق عليها دوليا على أنها جماعات إرهابية وطردها من سوريا، ويجب أن يكون هذا أولوية لبدء مسار الحل السياسي بإشراف دولي، لأن الثقة باتت مفقودة بين الأطراف المتصارعة، وسيستمر الصراع إلى ما لا نهاية بدون إشراف دولي على القضية السورية التي تتأزم بشكل متصاعد.
إن تنظيم “داعش” يستوجب، وبالضرورة القصوى، معالجة متكاملة تشمل جميع الجوانب، وفي مقدمتها الجانب الفكري من قبل المجتمع ودعاة يبرهنون لهؤلاء الضالين أنهم سلكوا طريقا ابتعدوا فيه عن الدين وليسوا بأي شكل من الأشكال الفرقة التي أشار إيها الرسول (ص)، في حديثه: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي). وبكل تأكيد، فإن من قتل وحرق وسبى ونهب ودمر وشرد وأفتى على هواه، لن يكون على مثل ما كان عليه النبي (ص) وأصحابه. هذه المهمة هي أساس سد الطريق أمام “داعش” والتيارات الراديكالية الأخرى، لأن “داعش” المهزوم سيصبح أداة طيعة في يد كل من لا يرغب الاستقرار لمنطقة شرق الفرات، وسيعمل من وراء الستار لدعمهم ومدهم بالمعلومات والتقنية وتأمين طرق التواصل، كي لا تنعم هذه المنطقة بالاستقرار وبناء نظامها الديمقراطي.
إن الصراع الذي خاضته شعوب منطقة شرق الفرات كان ضد توجه وفكر لا ينسجمان مع المجتمع السوري، ولم يكن ضد الدين الذي تم استثماره من قبل الإرهابيين كما يفعل “أردوغان”، الذي يقوم بتغذية ودعم التيارات المتطرفة. ويمكن لأي جهة أن ترى أن هناك إمكانية لتغيير نهج “أردوغان” أنها واهمة، لأن “أردوغان” يعلم جديدا أنه سار في طريق اختاره بقناعة ولا يمكنه الرجوع عنه، فهو سيستمر إلى النهاية، ولن يغير هدفه مهما تلون وغير من سياسته المرحلية.