تختلف عواقب أزمة البيئة التي تجتاح العالم نتيجة ارتفاع الاحتباس الحراري على المجتمع من منطقة إلى أخرى، بينما تكون المجتمعات في البلدان الغربية والصناعية المتطورة أمام عواقب ارتفاع الحرارة، يجد المجتمع نفسه في الشرق الأوسط وتلك البلدان التي تزعم بأنها تسير في الطور الصناعي، بين فكي كماشة الأنظمة العنصرية والعواقب الطبيعية معاً، وتشكل تركيا نموذجاً مثالياً للحالة الأخيرة.
ففي الوقت الذي كان العالم منشغلاً في متابعة أخبار الحرائق التي تلتهم سلسلة الغابات المطلة على السواحل الغربية والجنوبية- وهو أشرس حريق يتعرض له البلاد منذ سنوات- كانت مدينة قونيا تشهد بالتوازي مجزرة مروعة بحق عائلة ديدي أوغلو الكردية والتي راح ضحيتها سبعة أفراد بدوافع عنصرية. حيث تداول النشطاء مقطع فيديو الحادثة على وسائل التواصل الاجتماعي بكثرة، الذي يتضمن عبارات عنصرية على لسان جيران العائلة المغدورة مثل:” لا نريد الكرد هنا، ليس مسموح لهم العيش هنا”.
في حين كانت للسلطة القائمة حسابات مغايرة، حيث حاولت مع قاعدتها الاجتماعية المتطرفة إخراج الحدث من سياقه وتوجيه مسار البوصلة بطريقة مضادة، التي تجلت في إطلاق تصريحات عنصرية في خضم انتشار حرائق الغابات التي تضرب عدة ولايات جنوب وجنوب غربي البلاد بعدما وصلت درجة حرارة السطح في تركيا إلى 50%. إذ تقدم أردوغان مع الجهات المحلية مثل مؤسسة الشؤون الدينية والصحف الموالية لحكومته بتعزيز خطاب الكراهية، وذلك حينما أكد بدون أي دليل ملموس بأن ” أبناء العائلات الكردية من تقف وراء الحريق“.
وعلى إثر تهيج خطاب الكراهية من قبل رأس الدولة، نقلت بعض المصادر الإعلامية من المواقع التي دمرت فيها الغابات والقرى بسبب الحرائق في الأيام الماضية، بأن السكان المحليون” القوميون والإسلاميون المتشددون” شكلوا حشود غير شرعية لملاحقة أي شخص يمت صلة بالهوية الكردية،. في حين كان عراب الدولة العميقة وحليف أردوغان، دوغو بيرنجيك، يطلق تصريحات على شاكلة “أفضل استجابة لحرائق الغابات هو إغلاق حزب الشعوب الديمقراطي”.
ثمة خيط مشترك بين الحدثين السابقين، ويقدم لنا مفردة ” التسمم” – بالمعنى الحرفي وليس المجازي- لوحة المناخ الاجتماعي والبيئي السائد في تركيا، بحيث تكمن وراء خطورة عواقب الكارثة الطبيعية الحالية كما يقول صلاح دمرتاش في تغريدة نشرت له على تويتر «الكارثة السياسية في البلاد».
وعليه، هل بالمقدور القول إن تركيا بقيادة السلطة الاستبدادية القائمة باتت مهددة للبيئة الاجتماعية والطبيعة وجودياً؟ وهل إيديولوجية الدولة الحاكمة تقرّ أساساً بأزمة البيئة؟ الإجابة على الشطر الأول ستكون غالباً بـ بنعم! وفي الشطر الثاني: لا!. ومن أجل إيضاح هذه العملية بصورة متداخلة ينبغي أخذ عاملين في الاعتبار: أولاً، مساعي حكومة اليمين المتطرف( أردوغان- باهجلي- برنجيك) بوجوب تأسيس قواعد جديدة للبلاد بحلول 2023، وهو موعد سنوي لمئوية اتفاقية لوزان. ثانياً، النزعة المفرطة للنمو الاقتصادي الصناعي وتسخير الموارد الطبيعة بما في ذلك” الحرائق” بغرض اللحاق بركب الأمم المتقدمة، وهي عقيدة التقدم المستقيم التي صبغت بنية الجمهورية منذ تأسيسها.
النمو مموه بالعنف
ولفهم هذه المعضلة، يجدر تسليط الضوء على بعض المفاهيم والسياقات المرافقة. فإن كانت بداية تأسيس الجمهورية متوافقة حينها مع قواعد الدولة القومية في فلك النظام الدولي، غير أنّ إعادة استنساخ هذه الهيكلية مع اقترب اتفاقية لوزان دون قياس متغيرات النظام الدولي الغربي على وجه الخصوص، ستضع مكانة تركيا المتأملة في مخيلة عقيدة اليمين الحاكم في تناقض مفضوح، فثمة عائق اجتماعي وثقافي متنوع يقف حائلاً أمام إعادة هيكلية الدولة القومية، وثمة لوائح ومعايير دولية تخص البيئة تعرقل عجلة عملية التحديث المنشود.
تبعاً للمعطيات الراهنة، يبدو أن صنّاع القرار في أنقرة عقدوا العزم على المضي قدماً صوب أهدافهم بصرف النظر عن العوائق المرافقة. ومن أجل ذلك تبدو استراتيجية “صناعة الحرب” ضد التنوع الثقافي والقومي والديني والجنسوي ضرورة ملحة، كما أنّ الاستغلال الانتهازي لموارد البيئة خدمة للنزعة الربحية المفرطة تناسب تماماً سلة الأهداف المطروحة.
هذه المقاربة ليست حدثاً طارئاً في تاريخ الدولة وأيديولوجيتها، ففي ورقة بحثية بعنوان “سياسة المناخ في تركيا: موقف متناقض؟”. أوضح كل من فكرت أدمان ومراد أرسال نقاط ملفتة في بحثهما المشترك:” منذ استقلال تركيا تشكلت عقيدة الدولة على أنها فوق المجتمع وخارجه، وتحتاج إلى ترسيخ هيمنتها على المجتمع إما بالموافقة أو بالإكراه، كشرط مسبق لوجودها”. وأضافت الدراسة بأن:” إيديولوجية “التحديث والنمو” في تركيا، تُنظر إليها كترياق لجميع القضايا، ومن المتوقع أن تنقل الأمة من خلال معدلات النمو في الناتج المحلي والإجمالي- باعتباره الهدف الرئيسي والوحيد- من حالتها الحالية (المتخلفة) إلى نقطة مستقبلية محددة مسبقًا (نظرية التاريخ المستقيم) تحددها التجربة الغربية”. وخلصت الدراسة بأنّ:” الحقيقة الفجة تتجلى عندما تصبح البيئة هي العائق أمام قانون التراكم والنمو، بحيث تتنصل الدولة من كل التفاهمات مع الجهات الدولية والمحلية”. ومن أجل ذلك تحديداً، كانت علامات السعادة تزين ملامح أردوغان عندما انسحب دونالد ترامب من اتفاقية باريس عام 2017، حيث قال حينها:” يجعل هذا الانسحاب من تركيا أقل ميلًا للتصديق على الاتفاق في البرلمان“.
عندما يشتد الخناق على تحجيم النزعة الربحية، ويجري التنصل من التفاهمات الدولية في الوقت عينه، ستكون استجابة الدولة التركية حسب عقيدة اليمين المتطرف بوجوب إدراج “صناعة الحرب” على أجندتها. ولدى ذكر عبارة “صناعة الحرب وعلاقته بالنمو والثراء”، يستوجب أن نضعها في إطار رؤية سرّي ثريا أوندر، الذي أوضح في مقابلة له مع صحيفة “دوفار” التركية وترجم نصها المركز الكردي للدراسات في وقت سابق، إذ يشدد أوندر:” عندما نقول “صناعة الحرب” لا نعني تجار الأسلحة فقط لقطاع الحرب، بل أيضا وسائل الإعلام والسياسيين والأكاديميين والمنظمات غير الحكومية والمافيا وجماعات المصالح الخاصة به، بينما تزداد هذه الشرائح ثراءً خلال الحرب، يُحتجز المجتمع في السجن”
وعلى نفس المنوال، ولكن بنظرة أعمق من حيث إنارة المفاهيم، يسدل أوجلان الستار عن هذه العلاقة في مرافعته الخامسة وهو يتطرق إلى عقيدة الإبادة ضد الكرد، حيث يشير:” المال هو أحد أكثر أشكال العنف نقاوةً، حيث يموه نفسه من خلال لمسة إيديولوجية الدولة القومية، ويحقن المجتمع بالعنف بنسبة هائلة، ويشن الهجوم على البيئة الطبيعية( الهجوم التكنولوجي)“.
استناداً على هذه المفاهيم، ينبغي إعادة تفسير أحداث غازي بارك، وهو أول حدث اجتماعي احتجاجي شامل ضد حكومة أردوغان. فقد كانت هذه الاحتجاجات تقف ضد التوسع الحضري على حساب التلاعب بالمساحات الخضراء من قبل الشركات القابضة والموالية لرجب طيب أردوغان. ومنذ تلك الحادثة انعرج البلاد في حالة من العنف المسرطن سواء ضد مناصري البيئة أو مطالبين بالتحرر الاجتماعي عموماً. وشكل استلام حكومة ترامب سدة الحكم في واشنطن والمعروفة بمواقفها المضادة لسياسة المناخ بمثابة “هدية من الله” للسلطة القائمة، حيث استغلت أنقرة هذه الفرصة احسن الاستغلال لتدشن نظام( أردوغان- باهجلي- بيرنجيك)، وذلك عقب إعلان حالة الطوارئ وشن حروب داخلية وخارجية ضد المجتمع والطبيعة، والهيمنة على مؤسسات الدولة، وحقن المجتمع بالعنف مع تسعير عصب الاستقطاب السياسي.
عقب هذا التاريخ، باتت عقيدة النمو والتحديث من قبل حكومة اليمين المتطرف تصون نفسها من خلال العنف العاري، حيث تدرج استخدام العنف عبر مستويات متنوعة ضد المجتمع – من قمع الاحتجاجات والاعتقالات المستمرة ضد نشطاء البيئة والمعارضين والحركة النسوية، والتحكم في شكل القانون والبرلمان والبلديات ومنظمات المجتمع المدني، وصولاً إلى حملة التصفية المستمرة ضد المقاومة الكردية، مجتمعاً وطبيعةً(هذه الأخيرة ستناول تفاصليها في المادة القادمة).
ويلات قطاعيّ البناء والطاقة
تتمركز عقيدة التحديث والنمو بصورة خاصة في قطاعيّ البناء والطاقة، وهما من أهم الأعمدة لرصف النظام النيوليبرالي في تركيا منذ الثمانينيات القرن المنصرم. إذ أصبح الاستثمار الخاص والعام في العقارات (الجسور- الإسكان- المطارات- الموانئ- الطرقات) ساحة تثير لعاب المستثمرين، وخاصة عندما استغلت “هيئة الإسكان” كارثة زلزال 1999 المدمر كذريعة لتشريع المناطق الحضرية الجديدة عبر تحرير الاستثمار. إذ تزعم هذه الهيئة بأنها مملوكة من قبل الدولة وتعمل لصالح الخير العام، لكن في حقيقة الأمر، حسب ما يكشف الاقتصاد التركي المعروف مصطفى سونمز، بأنها ثاني أكبر شركة احتكارية لعملية الخصخصة في تركيا، بحيث تملك صلاحيات مطلقة في بيع الأملاك العامة وتحويلها إلى مشاريع استثمارية موزعة بين الرأسمال الدولي والمحلي، وذلك من خلال سوق الاوراق المالية. في حين تم تحرير الاستثمار في قطاع الطاقة منذ عام 2005، وتحديداً في قطاع الفحم الذي يستغل موارد الغابات من الخشب والفحم.
ويعتبر قطاع الفحم، الذي يدعم محطات الطاقة الحرارية، من الأسباب الرئيسية للانبعاثات الغازية في تركيا حسب الدراسات الدولية المختصة، حيث تنطلق ثلث انبعاثات الكربون من مناجم الفحم. وبذلك تعتبر تركيا من بين أكبر الدول المصدرة للانبعاثات في العالم، والتي ساهمت بدرجة كبيرة في زيادة الانبعاثات العالمية بين عامي 2008 -2020. كما وصُفت تركيا من قبل بعض الباحثين بأنها “مأوى التلوث” في العالم، وهذه المقولة عادةً تشير إلى السياسة الاستثمارية التي تبحث عن أرخص خيار من حيث استغلال الموارد والعمالة التي توفره الطبيعة والمجتمع بغية الوصول إلى أرباح سريعة.
أمام هذه اللوحة السوداوية تتالت تحذيرات من قبل الهيئات التابعة للأمم المتحدة والمراكز المعنية في حماية المناخ، إذ أشارت بأن تركيا لم تلتزم بخفض انبعاث غازات الاحتباس الحراري بنسبة محددة بحلول عام 2030، على الرغم من أنها إحدى الدول الموقعة على اتفاقية باريس، إلا أنّ البرلمان لم يصدق عليها إلى هذه اللحظة. علاوة على أن تركيا واحدة من بين عدد قليل من البلدان التي لا تجلس في أي من الكتل التفاوضية الرسمية في محادثات المناخ الدولية التي تشرف عليها اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ. فالممثل الدائم لتركيا لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كريم ألكين، يقود حملة معارضة بشأن التصديق على اتفاقية باريس، نظراً أن تركيا -حسب ألكين- تعتبر في طور الدول الصاعدة صناعياً، وتحتاج إلى الطاقة الأحفورية ” الفحم والنفط والغاز” والتي تصل نسبتها حوالي 88% من الطاقة الاجمالية في البلاد.
وتكشف بضعة أمثلة من قبل نشطاء البيئة عن مدى الاضرار البيئية الناجمة عن قطاع البناء المدار من قبل هيئة الإسكان لوحده (التي تشمل الانبعاثات الناجمة عن طريق صناعة الإسمنت وزيادة النقل أثناء مرحلة البناء أو قطع الأشجار، أو الاستخدام الموسع للتدفئة في المنازل الجديدة). وحسب بعض الأرقام أن ما يصل إلى أربعة ملايين شجرة تم قطعها خلال بناء الجسر الرئيسي الثالث في اسطنبول، بينما تؤكد احصائيات أخرى أنه تم قطع ما يصل إلى 13 مليون شجرة لإحداث مطار في اسطنبول والذي افتتح عام 2018.
وقبل أشهر، شكل افتتاح قناة اسطنبول الواقعة في غرب البوسفور صدمة مروعة وسط المعارضة ونشطاء البيئة. فالمشروع حسب النقاد الذي يصل تكلفته حوالي 15 مليار من الرأسمال الاجنبي، سيربط بحر مرمرة بالبحر الأسود على بعد حوالي أربعين كيلومترًا، وستكون العواقب البيئية والاجتماعية على ستة عشر مليونًا من سكان إسطنبول ومنطقة مرمرة كارثية للغاية. بحيث سيدمر أولاً مساحات شاسعة من غابات إسطنبول المدمرة مسبقاً، مع بناء المزيد من المدن على طول القناة، فضلاً على أنه سيتم تغطية جميع المناطق الطبيعية في اسطنبول عمليًا بالمباني وستنمو المدينة من ثلاثة إلى أربعة ملايين شخص، وستصبح إسطنبول (وحشًا عملاقًا) حسب بعض التعليقات.
وحسب المراقبين، لم يكن من الممكن تمرير مناقصة المشروع لولا تلاعب حكومة أردوغان في تحجيم آلية قوانين بلدية اسطنبول. حيث وصف الرئيس الحالي لبلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، المحسوب على حزب الشعب الجمهوري، بأن تدشين المشروع “خيانة لإسطنبول” نظراً أن 40% من تزويد المدينة بالماء تأتي من هذه الغابات التي تقع في الجانب الاوربي، كما أن 60% ممن شملهم استطلاع الرأي في اسطنبول رفضوا المشروع.
ومع ذلك، لم يأبه أردوغان لسخط الرأي العام وتحذيرات العلماء والمختصين، حيث يدافع أردوغان بشراسة عن المصارف الأجنبية المستعدة للمساهمة فيه، وقد تم توقيف مؤخراً عشرة ضباط سابقين على خلفية رسالة مفتوحة تعارض إقامة ” قناة إسطنبول”، وقد هاجم الرئيس التركي هؤلاء الضباط متهماً إياهم بالتلميح إلى “انقلاب سياسي”.
ومن المفارقة، لم يسلم حتى معقل أردوغان نفسه، مقاطعة ريزه، من الهجوم على الطبيعة. ففي مقربة من منزله دشنت شركة جنكيز القابضة مقلع حجري في نيسان الماضي. وتخطط الشركة استخراج 20 مليون طن من الحجر من مقلع في بلدة إيكيزدير في قلب الغابة المطلة على البحر الأسود. علماً أن شركة جنكيز من أكبر شركات الإنشاءات في تركيا والموالية للرئيس التركي، وهي نفس الشركة التي تساهم حالياً في انشاء مطار دهوك في كردستان العراق بعد مشاركتها في تأسيس مطار هولير الدولي.
مجدداً تشق هذه المشاريع المهددة للبيئة طريقها من خلال العنف الذي يفرضها الدولة، حيث قامت السلطات المحلية بقمع الاحتجاجات التي اندلعت بين السكان المحليين في البلدة، وفرضت حظراً شاملاً على السكان. وقد علق مهندس مختص في شؤون البيئة على هذه الحادثة بأن أردغان يفتتح مشاريع من خلال خطابات منمقة إلاّ أنهم:” يحبون اللون الأخضر للدولار أكثر من خضرة الأشجار“. وعلق خسرو أوزكارا، نائب رئيس جمعية الغابات:” الأمر لا يتعلق فقط بقطع شجرة واحدة، فالضرر الفعلي يهدد النظام البيئي برمته”.
وتنطبق هذه المقاربة على محطة الطاقة الحرارية التي تعمل على الفحم وتبلغ تكلفتها 1.7 مليار دولار والتي يتم بناؤها على الساحل الجنوبي لتركيا بالقرب من أضنة، وهو أكبر مشروع استثماري صيني مباشر في تركيا. حيث تمتلك شركة (Shanghai Electric Power) الصينية 78.21 بالمائة من أسهم المشروع. وقد أثار المشروع معارضة محلية ووطنية قوية للغاية بسبب آثاره الملوثة للصحة والبيئة والمناخ. والأمر يسري أيضاً على استثمار المناجم الواقعة في غابات مانيسا التي تتعرض إلى الحريق حالياً.
وتشير الأخبار المتداولة في الأيام القليلة الماضية بأن النيران الناجمة عن حرائق الغابات اقتربت بشكل خطير من محطة الطاقة الحرارية في كيميركوي بمدينة موغلا الواقعة على السواحل الجنوبية الغربية، حيث يوجد في المحطة 40 الف طن فحم، وإذا ما تعرضت المحطة إلى الحريق حسب الخبراء، ستنتشر الغازات السامة في الغلاف الجوي نتيجة احتراق الفحم داخل المصنع بطريقة قد تخرج عن السيطرة.
ففي كل هذه المشاريع نجح عنف الدولة في قمع أصوات النشطاء البيئيين والمجتمع المحلي والمعارضة بغية مواصلة طريق الربح والنمو بصرف النظر عن التكاليف البيئة والاجتماعية الناجمة.
استغلال حريق الغابات
ولعل طريقة تعامل حكومة أردوغان- باهجلي مع اندلاع الحرائق الحالية في جنوب غربي البلاد، تقدم لنا نموذج شفاف حول كيفية استغلال الكوارث الطبيعية لصالح النزعة الربحية المفرطة. إذ تروج دعاية الدولة – التي لا تعترف بسياسة التغير المناخي- بوجود نظرية المؤامرة التي تقف خلف الحرائق بغية إمعان حملة التطهير والقمع ضد الخصوم. وبنفس الوقت تستغل هذه الكوارث لتمرير المزيد من مشاريع التمدن الجنوني خدمة للمستثمرين العاملين في دائرة تحالف أردوغان – باهجلي- بيرنجيك.
ففي 17 تموز/يوليو الماضي، أقر البرلمان التركي عبر الضغط والتنسيق بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية قانوناً جديداً يسمح بتدشين البناء لأغراض “السياحة” في أراضي الغابات. وحسب نص القانون، سيتم تحديد المناطق التي تحدد للبناء من قبل أردوغان حصراً. هنا علينا أن نستعين بالكاتب الاقتصادي التركي، مصطفى سونمز، الذي كشف وظيفة مؤسسة هيئة الإسكان على أنها تقوم بترتيب هيكلية المؤسسات مثل البلديات وتمرير قوانين داخل البرلمان والحكومة انسجاماً مع النزعة الربحية المحضة. واستناداً لذلك، يبدو مفهوماً من كان يقف وراء هذا القرار في البرلمان. سيما أن ذات المؤسسة استغلت الحرائق المندلعة في الوقت الحالي، لتطلق حملتها الدعاية بغرض تدشين المنازل على انقاض القرى والغابات التي ما تزال تتعرض إلى الحريق.
وجاءت تصريحات رئيس بلدية غوندوغموش في أنطاليا، محمد أوزيرين، وهو عضو في حزب العدالة والتنمية، لتبرهن صحة حيثيات استغلال كارثة الحريق خدمة للأرباح والمنافع المتوقعة بين حكومة أردوغان ومؤسسات الإسكان، إذ أشار:” منازل مواطنينا أصبحت غير صالحة للاستعمال، ستقوم هيئة الإسكان في تركيا (TOKİ) ببناء منازل لهم بالطريقة التي يريدونها، مع فترة سداد تصل إلى 20 عامًا“. وقال أوزيرين الذي أثار أقواله غضباً عارماً على مواقع التواصل الاجتماعي:” إن المواطنين، التي أصبحت منازلهم قديمة جدًا، سيقولون نتمنى أن تكون منازلنا قد احترقت أيضًا”. وعلينا أن نسأل بصورة مباشرة: لخدمة من تصب حريق الغابات المندلعة في السواحل التركية الغربية والجنوبية؟
ينبغي أن نضيف إلى هذه الاعتبارات حمولة التحذيرات المرسلة من قبل الجهات الدولية المعنية إلى حكومة أردوغان حول الاضرار المتوقعة من التغير المناخي، حينها ستضح ملامح سياسة النفاق القائمة في البلاد دون لبس. إذ أرسلت تلك الجهات إنذارت دورية مبكرة تفيد بأن:” تركيا التي تقع في الطرف الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط، من المتوقع أن تتضرر بشكل كبير من الجفاف بسبب تغير المناخ. كما ستواجه درجات حرارة قصوى في الصيف. ويحدد بلاغ من قبل الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ عن مدى تعرض تركيا إلى مستويات متزايدة من الإجهاد المائي والتصحر في الغابات والآثار الصحية والحرائق التي قد تنجم من تغير المناخ“.
مثل هذه الوقائع والتقارير تكشف لنا أمرين: أولاً، إن سياسة البلاد لا تأبه بالدراسات العلمية المنزهة من الأهداف الربحية، بل تؤمن مثل أنصار اليمين المتطرف في العالم بالذهنية العلمية الدوغمائية (العلموية المتطرفة) التي تدعم النزعة الربحية دون اعتبارات اجتماعية وبيئة محتملة. ثانياً تفند نظرية المؤامرة التي تروج لها السلطة الحالية حيال الحرائق القائمة في البلاد، بل تحمل المسؤولية بصورة مباشرة على كاهل الحكومة المتطرفة، وتسدل القناع عن علاقة السلطة والمال في استغلال الكوارث الطبيعية والبشرية.
الأموال الساخنة
تركيا التي تعيش في أزمة اقتصادية مستشرية منذ سنوات لا يمكن لوحدها تبني مشاريع النمو والتحديث. ومن أجل ذلك، تتخذ من الاستثمارات برأس المال الأجنبي / أو قروض أجنبية عبر الشراكة مع الشركات القابضة القريبة من السلطة السياسية في البلاد. لأن لا الدولة ولا الشركات الخاصة المحلية لديها الرأس المال الكافي لهذه المشاريع الكبيرة. إذ تبلغ حجم ديون الدولة حوالي 450 مليار يورو مع البنوك الأجنبية، والتي بالكاد تستطيع سدادها. وتدرك الشركات الدولية كيفية استغلال الوضع بدعم نشط من حكوماتهم ومن خلال تسخير الشركات القابضة المحلية أو الهيئات التابعة للدولة( مثل شركة جنكيز العقارية- ومؤسسة الاسكان).
وحسب المعارضة، فإن المناقصات الممنوحة للشركات القابضة “العصابة الخماسية” وفق زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال قليجدار أوغلو، هي وسيلة لإبقاء أصدقاء أردوغان في قطاعي البناء والطاقة سعداء بدلاً من تلبية حاجة حقيقية للبنية التحتية. علماً أن نسبة البطالة حسب بعض الارقام الواقعية قد تصل إلى 30% بالمئة مع الانهيار المستمر للعملة الوطنية. في حين يضيف كل من فكرت أدمان ومراد أرسال في الدراسة المذكورة أعلاه بأن :” تركيا شهدت تحت حكم حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة معدلات نمو عالية من انبعاثات الغازات، يغذيها بشكل أساسي قطاعي الطاقة والبناء – التي تم تمويلها إلى حد كبير من خلال دخول الأموال الساخنة (الاستثمارات السريعة التي تعطي انطباعات وهمية عن النمو الاقتصادي).
في دولة ديكتاتورية مثل تركيا، حيث يتم تفكيك المعايير الاجتماعية والبيئية الضعيفة بشكل متزايد، تؤدي الاستثمارات السريعة إلى تدمير شديد للطبيعة والناس. علاوة على ذلك، لا يتم احترام اللوائح والقوانين القائمة عمداً إذا كانت تقف في طريق الاستثمار المعني.
وعلى سبيل المفارقة، يحدد قانون البلديات الصادر عام 1932، من بين العديد من اللوائح التفصيلية المشابهة، المعايير الخاصة بكيفية نقل ديوك إلى الأسواق المحلية! ومن ثم، إذا كانت البيئة ستتم حمايتها، فسيتم تحقيق ذلك من خلال جهاز الدولة نفسه، دون ترك مجال لأية وكالات أخرى، وخاصة إذا كانت تلك الدولة تسخر عقيدة النمو والتحديث واستغلال الكوارث الطبيعية بغية شق طريقها في قلب المجتمع والطبيعة عبر صناعة الحرب والعنف. والسؤال القائم: هل تستطيع هذه السياسة الاستبدادية أن تعقد الوفاق مع النظام الدولي القائم؟