الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأميركية لمواجهة الصين

نشرت مؤسسة  الأبحاث والتطوير الأمريكية (راند) تحليلاً  بعنوان “سعي الصين للتفوق العالمي”. الدراسة جاءت في 253 صفحة، وشارك في إعدادها الدكتور تيموثي هيث، وهو باحث دولي بارز بالمؤسسة، وحاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة جورج مانسون، ودريك غروسمان، المحلل العسكري في “راند”، والذي عمل سابقا بجهاز الاستخبارات الأمريكية، وهو أستاذ مساعد بجامعة كاليفورنيا الجنوبية.

استعرض التحليل أدوات كل من الصين والولايات المتحدة في العالم، وإمكانيات كل دولة في تحقيق رؤيتها، مع ميل لدى الباحثين إلى قدرة الصين في التغلغل كونها بدأت منذ وقت طويل قبل أن تعد الولايات المتحدة العدة للمواجهة. والجدير بالذكر أن الدراسة نشرت مطلع شهر حزيران/ يونيو 2021، أي قبل الخطوة الأميركية الكبيرة في طرح مشروع البنية التحتية مع مجموعة دول السبع الكبرى في العالم، حيث من المرتقب ان يكون هذا المشروع هو المنافس الوحيد لمشروع الصين “الحزام والطريق” رغم ان الكثير من الغموض ما زال يحيط بآليات التنفيذ وتحديد الدول المؤهلة للاستفادة.

ومن ضمن التوصيات التي قدمتها الدراسة ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط. فمنذ الولاية الثانية للرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، بين عامي 2012 – 2016 ثم ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، بات مصطلح “الانسحاب” ثيمة السياسة الأميركية في المنطقة، وهو توجه لم يعلن الرئيس جو بايدن عن تبنيه حرفياً، لكن في الوقت نفسه لم يعمل على تقديم تصور بديل عن أطروحة الانسحاب. وقد أدت القناعة العامة بـ”صوابية” الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط إلى صعوبة مناقشة أفكار معاكسة في الإعلام تطالب بإبقاء الحضور الأميركي في المنطقة، وبات موضوعاً ذا حساسية اجتماعية عالية خصوصاً لدى عائلات الجنود الأميركيين.

غير ان هذا التوجه لم يمنع معدي الدراسة من التوصية بإبقاء الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، من دون توضيح صيغة هذا الحضور، لكن ما كررته الدراسة كل بعضة صفحات هو أن المسألة لا تتعلق بما الذي تستفيد منه أميركا بشكل مباشر من هذا الوجود أو تكاليفه، إنما ما الذي سيستفيد منه الخصوم الكبار (روسيا والصين) في حال انسحبت أميركا. وبالتالي انتقل النقاش من فكرة استعمارية تقليدية مرتبطة بـ”جني الفوائد”، وهو توجه لم تسعى له أميركا بالمعنى الاقتصادي رغم حضورها العسكري في الخارج، إلى فكرة منع الخصوم من الاستفادة. وفي هذا الانتقال الأخير من فكرة إلى أخرى يمكن إعادة النظر بفكرة “إخلاء الساحات” التي هيمنت على مقولات السياسة الأميركية طيلة العقد الماضي، وكان من نتائجها انهيار العراق خلال هجوم تنظيم داعش على الموصل والأنبار وصلاح الدين.

بالعودة إلى الدراسة التحليلية لمؤسسة “راند”، فإنها حددت استراتيجية الصين المبتكرة للتوسع في الشرق الأوسط، وذلك عبر بناء علاقات فردية، وليس تحديد استراتيجيات شاملة على غرار الولايات المتحدة. وقد قطعت بكين شوطاً في هذا الإطار عبر بناء علاقات إيجابية مع خمسة محاور (دول) في المنطقة، وهي:

1. المملكة العربية السعودية ، التي لديها مخزون كبير من النفط والولايات المتحدة كمستهلك آخذ في الانخفاض. تنظر الصين إلى هذا البلد باعتباره مجالًا هامًا للفرص. أقامت بكين علاقات مع المملكة العربية السعودية من خلال تقديم المساعدة لبرنامجها للطاقة النووية والاستمرار في شراء كميات كبيرة من إمدادات الطاقة . مع تزايد انتقادات الولايات المتحدة للملكة على خلفية ملفات حقوقية، باتت السعودية منفتحة على علاقات أقوى مع الصين.

2. الإمارات العربية المتحدة ، التي تعد الصين شريكها التجاري الأول في العالم، وتعمل بالشراكة مع الصين لمواصلة تطوير مبادرات مبادرة الحزام والطريق من موقعها الجغرافي المحوري. مع تصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين ، أصبحت الإمارات العربية المتحدة سوقًا مهمًا للتصدير.

3. مصر ذات الأهمية التجارية وموقعها الاستراتيجي مبادرة الحزام والطريق مع تحكمها بقناة السويس.

4. إسرائيل ، التي لا تزال حليفًا مهمًا للولايات المتحدة. تشمل اهتمامات الصين الأساسية في إسرائيل التكنولوجيا المتقدمة وموقعها الجغرافي كجزء من مبادرة الحزام والطريق. رحبت إسرائيل بعلاقة أوثق مع الصين، جزئيًا، لتنويع أسواقها الاستثمارية من الولايات المتحدة وأوروبا.

5- إيران ، التي تعتبرها الصين منتجًا مهمًا للطاقة وشريكًا خصمًا لواشنطن. في الواقع ، أبرمت الصين مؤخرًا صفقة استثمار وشراكة عسكرية كبيرة بقيمة 400 مليار دولار ، على الرغم من تحذيرات الولايات المتحدة ، ومن المحتمل أيضًا أن تفتح الاتفاقية الجديدة وصول الصين إلى العديد من الموانئ على طول الخليج وتفتح إمكانيات جديدة أمام الصين لمواجهة الولايات المتحدة وحلفائها.

على الرغم من أن الصين تسعى إلى الحفاظ على ميزة استراتيجية في جميع شراكاتها الخمس الرئيسية ، فإن القيادة الصينية تدرك تمامًا قدرتها على استعداء الولايات المتحدة في المنطقة ، لا سيما في تعاملاتها مع إيران. وتطرح الدراسة فرضية ان الصين ليست منفتحة على دفع شركاء لها إلى التخاصم مع الولايات المتحدة، إنما يهمها منطقة مستقرة تسمح بانسيابية تدفق البضائع ورأس المال. وبناء على ذلك، فإنه “يمكن لبكين أن تلعب دورًا أكثر نشاطًا في التوسط في التوترات بين إيران والدول السنية بقيادة المملكة العربية السعودية وإسرائيل. يمكن للصين تكثيف تكتيكات المصالحة والتقارب لتعزيز نفوذها في كل هذه البلدان”.

وتحذر الدراسة التحليلية من أن: “انخراط الصين العميق في الشرق الأوسط يثير احتمال أنها قد تؤكد ريادتها في منطقة تستمر في توفير إمدادات الطاقة الحيوية للاقتصاد العالمي والتي تمر من خلالها الكثير من التجارة البحرية العالمية. قد يؤدي الوجود الصيني الأقوى هنا إلى تداعيات تتجاوز الشرق الأوسط. قد تؤدي الشراكة الأقوى مع إيران إلى إضعاف موقف الهند الاستراتيجي بشكل كبير، على سبيل المثال، وربما يجعلها أقل استعدادًا لتحدي الصين على الرغم من العلاقات الدافئة بين نيودلهي وواشنطن. وقد تجد اليابان نفسها أكثر عرضة للخطر أيضًا. يلاحظ المراقبون أن هذه التطورات قد تضع الصين لتكون ذات كلمة أكثر أهمية في شؤون الشرق الأوسط من الولايات المتحدة.. على المدى الطويل، إذا نجحت الصين في استبدال الولايات المتحدة كحكم في شؤون الشرق الأوسط وحامي لممرات الشحن الرئيسية وإمدادات الطاقة من المنطقة، فإن مصداقية واشنطن كزعيم دولي قد تتضاءل أكثر”.

وتلفت الدراسة، تلميحاً، إلى أن لدى الولايات المتحدة خيار في التخلي عن توفير الأمن في مناطق استراتيجية تستفيد منها الصين. فقد استفادت الصين في الماضي من “الاستغلال المجاني” لاستعداد الولايات المتحدة لتوفير الأمن للتجارة العالمية. وتضيف الدراسة: “لكن واشنطن لا تحتاج إلى مواصلة ذلك. إذا اختارت الولايات المتحدة عدم مساعدة الصين على توفير الأمن والاستقرار في المناطق التي تستثمر فيها الصين، فلن يكون أمام بكين خيار سوى زيادة الاستثمارات والالتزامات بالموارد لحماية مصالحها الخارجية بشكل أفضل. إن حجب التعاون الأمريكي بشأن بعض التهديدات المشتركة، لا سيما في الشرق الأوسط وإفريقيا ، من شأنه أن يترك الصين أكثر عرضة للتهديدات العابرة للحدود. وبالمثل ، فإن الشراكة الوثيقة بين الولايات المتحدة والهند من شأنها أن تترك ممرات الشحن الصينية على طول المحيط الهندي عرضة للضغط”.

وتنتقل الدراسة إلى استعراض أهمية الشرق الأوسط التي ترى أنها منطقة تستحق التركيز رغم أن الولايات المتحدة تقوم بنقل مراكز القوة الاستراتيجية إلى المحيطين الهندي والهادي، ويحذر الباحثان من أن استثمار الصين في الدول الشريكة لها في الشرق الأوسط قد يؤثر على قدرة الولايات المتحدة على المنافسة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وعلى المستوى العالمي. وكمثال على ذلك ، قد يؤثر نجاح الصين في تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط على قدرة واستعداد دول مثل اليابان والهند لدعم الإجراءات التي تقيد القوة الصينية. قد تكون هناك حدود صعبة لمقدار ما تستطيع الولايات المتحدة تحمله لتحويل الموارد من الشرق الأوسط. على الأقل، سيكون التنسيق الوثيق بين الاستراتيجيات التنافسية، داخل وخارج منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ضروريًا. وهنا توصي الدراسة، على عكس الاتجاه السائد تحليلياً وسياسياً، وزارة الدفاع إلى “الاستثمار في الحفاظ على وجود كبير في الشرق الأوسط وأفريقيا لاستكمال المنافسة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”.

إن ما يعرقل استكمال المشروع الصيني هو إغلاق الطريق أمامها إلى البحر المتوسط، وأميركا تقوم بذلك بأقل التكاليف حتى الآن، وفي حال انسحابها من سوريا والعراق، فإنها ستشعل النار في منزلها. هذه المعادلة باتت تجد صدىً في بعض الدراسات والتحليلات الأميركية مؤخراً وذلك بعد سنوات من “القمع الأخلاقي” الذي ساد في فترة باراك أوباما، والحسابات الرأسمالية للمرابين في عهد دونالد ترامب.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد