ديفيد إغناتيوس* | واشنطن بوست
هل تريدون معرفة لمحة مخيفة لما قد يبدو عليه العالم في حقبة “ما بعد أمريكا”؟ فكروا في التمزق الذي نشأ على مدار ثلاث إدارات في العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا. لقد اعتقدت تركيا أن بإمكانها اتخاذ القرارات التي تريدها، بغض النظر عن المصالح الأمريكية.
كان المحرك الرئيسي لهذا الأمر هو الرئيس رجب طيب أردوغن. على مدار العقد الماضي، عدَّل “أردوغان” من الجغرافيا السياسية التركية، متخليا بذلك الجمهورية العلمانية التي تتخذ الغرب واجهة لها والتي أنشأها مصطفى كمال أتاتورك، وخلق تركيا عثمانية جديدة أكثر انسجاما مع جيرانها الشرقيين، بما في ذلك روسيا.
ويقول بولنت آليريزا، الذي يرأس مشروع تركيا في معهد الدراسات الدولة والاستراتيجية، إنه “منذ نهاية الحرب الباردة، كانت العلاقات بين البلدين تعاني من مشاكل، لأن التهديد المشترك وهو الاتحاد السوفيتي، قد اختفى”. وقد حاول الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين إجبار “أردوغان” على الرضوخ والخضوع، ولكن دون جدوى.
يتجه البلدان حاليا نحو المواجهة الأكثر خطورة حتى الآن، وقد حذرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، الاثنين الماضي، من أن تركيا ستواجه “عواقب وخيمة” إذا ما مضت في خطتها لشراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي “إس 400″، بدلا من نظام “باتريوت” الذي عرضته الولايات المتحدة على تركيا. وقد ناشد قائد قوات حلف شمال الأطلسي الجنرال كورتيس سكاباروتي، الثلاثاء الماضي، الحكومة التركية بـ”إعادة النظر”.
رد “أردوغان”، فعليا، بإدراة ظهره لتلك المناشدات. وقال “أردوغان”، ردا على صفقة شراء الصواريخ الروسية: “لقد تم الأمر بالفعل.. لا يمكن أن يكون هناك تراجعا. لن يكون هذا الأمر أخلاقيا.. سيكون غير أخلاقي تماما. لا ينبغي لأحد أن يطلب منا أن نلعق ما قمنا بالتعهد به”.
يأتي قرار “أردوغان” الصارم على الرغم من تحذيرات الولايات المتحدة من أن تركيا تهدد دورها كشريك في بناء المقاتلة الشبح من طرازF-35 ، وهي الطائرة التي تم تصميم منظومة “إس 400” الروسية من أجل إسقاطها. إن وجود أنظمة الأسلحة المتنافسة في نفس البلد يمكن أن يضر بأمن الطائرة F-35، بحسب ما يعتقد المسؤولون الأمريكيون. ويتدافع المسؤولون الأمريكيون الآن إلى شركة “لوكهيد مارتن”، المقاول الرئيسي، للعثور على مصادر بديلة لأجزاء جسم الطائرة ومئات من مكونات F-35 الأخرى التي كان من المقرر صنعها في تركيا.
ويقول مسؤول كبير في إدارة “ترامب”: “علينا أن نواجههم [الحكومة التركية] بسبب قرارهم.. لدينا مسؤولية من جانبنا لاتخاذ الخطوات الضرورية”.
ويقول إيريك إيدلمان، الذي عمل سفيراً للولايات المتحدة في “أنقرة” من عام 2003 إلى عام 2005: “تركيا حليف لا يمكن الاعتماد عليه بشكل كامل”. وكان “إيدلمان” يحذّر من “الاستبداد الوحشي الاستبدادي” لـ”أردوغان” في ذلك الوقت، وذلك في برقية في يناير/كانون الثاني 2004 كشف عنها “ويكيليكس”، قال فيها: “إن أردوغان يمتلك الصفات التي تجعله عرضة بشكل خطير لخطأ في حساب الديناميكية السياسية، وخاصة في الشؤون الخارجية”.
كان البندول التركي يتأرجح بعيداً عن الغرب، على الرغم من محاولات الرؤساء الأمريكيين الثلاثة السابقين طمأنة الزعيم التركي. ضغط الرئيسان جورج دبليو بوش وباراك أوباما أوروبا، من أجل قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي. تعامل “أوباما” مع “أردوغان” كقائد مسلم نموذجي خلال الربيع العربي، مغازلًا للزعيم التركي في أكثر من 20 مكالمة هاتفية شخصية. احتضن الرئيس “ترامب” نظيره التركي “أردوغان” واعتبره “روح طيبة وعطوفة”، وعرض في ديسمبر/كانون الأول سحب قوات الولايات المتحدة من شمال شرق سوريا وترك القوات التركية هناك، وهو موقف تراجع عنه منذ ذلك الحين.
إن الولايات المتحدة وحلف “ناتو” قويان بما يكفي للنجاة من ضائقة “أردوغان”. المأساة هي أن الزعيم التركي يخرب تقدم بلده، الذي كان واحدا من قصص النجاح العظيمة في العالم. لقد سحق “أردوغان” الصحافة الحرة المزدهرة، وقضى على الجيش القوي مرة واحدة، وسجن الآلاف من المعارضين، وقوض الاقتصاد التركي الذي كان جوهرة الأسواق الناشئة ذات يوم.
تتميز نسخة “أردوغان” من القومية الشعوبية بهجمات شديدة على حزب العمال الكردستاني، تقترب من حالة “فوبيا من الكرد”. قبل عقد من الزمان، كان يستكشف هدنة محتملة مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان. وهو الآن يهاجم الجماعة والجماعة السورية المرتبطة بها، وحدات حماية الشعب الكردية، ويعتبرهما منظمات إرهابية -على الرغم من أن وحدات حماية الشعب هي أفضل حليف لأمريكا ضد تنظيم “داعش”. هذا التعصب ضد حزب العمال الكردستاني تحرك خطوة أخرى هذا الأسبوع، عندما قال وزير الداخلية التركي إن تركيا وإيران تخططان لعمليات مشتركة ضد الجماعة.
كانت هناك سلسلة من التحركات المعادية لأمريكا من قبل “أردوغان” في السنوات الأخيرة: تقويض العقوبات الأمريكية ضد إيران، وحبس القس آندرو برونسون، وإلقاء اللوم على الولايات المتحدة في محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016؛ والسماح لحراس “أردوغان” الشخصيين بمهاجمة المتظاهرين في “واشنطن” عام 2017، وكذلك دعم الديكتاتور الفنزويلي نيكولاس مادورو في مكالمة هاتفية في يناير الماضي، قال فيها: “شقيقي مادورو، اصمد، تركيا تقف إلى جوارك”، بحسب ما قال إبراهيم كالن المتحدث باسم “أردوغان”.
في عالم اليوم الفوضوي، يبدو أن الولايات المتحدة هي هدف كل شخص، ويستغل القادة السلطويون الفرصة كذلك. وفي الوقت الحالي، للأسف، فإن “أردوغان” هو بمثابة الكرة المدمرة للجهود التركية لبناء ديمقراطية حديثة على النمط الغربي. لكن في النهاية، سيتأرجح البندول السياسي ليعود إلى طبيعته.
*ديفيد إغناتيوس: روائي وصحفي أمريكي من أصل أرمني، يعمل مساعدا لتحرير وكاتب عامود في صحيفة “واشنطن بوست”. كتب 10 روايات أشهرها رواية “كتلة أكاذيب”، والذي حولها لفيلم المخرج ريدلي سكوت إلى فيلم “كتلة أكاذيب”. وقد عمل محاضراً في كلية “كينيدي” بجامعة “هارفارد”.