عرب نيوز: مراهنات “أردوغان” أفقدته “إسطنبول وأنقرة”.. والغرب لن يساعده قبل “اعتدال سياساته”

د. عبدالعزيز العويشق | عرب نيوز

بثت الانتخابات المحلية في تركيا، والتي أجريت في 31 مارس/آذار المنصرم، رسائل لا لبس فيها إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه “العدالة والتنمية” الحاكم. وفقا للتقارير الصحفية نقلا عن النتائج الأولية، فإن حزب “العدالة والتنمية” قد فقد 9 مقاطعات في البلاد، ليصبح مسيطرا على 39 فقط من أصل 81، وهو ما يعني انخفاضا في نفوذه بنسبة 19%. وعلى النقيض من ذلك، حصل حزب المعارضة الرئيسي –حزب الشعب الجمهوري- على 7 محافظات جديدة، ليصبح مجموع المحافظات التي يسيطر عليها 21 محافظة، بزيادة قدرها 50% عن الانتخابات السابقة، بينما سجلت الأحزاب الكردية أيضا مكاسب كبيرة في تلك الانتخابات. من الواضح أن المعارضة سيطرت على أكبر مدن تركيا، إسطنبول وأنقرة، بالإضافة إلى “إزمير”.

يبدو أن الناخبين يدعون من خلال تصويتهم إلى عملية إعادة تقييم، إن لم يكن إعادة تعيين، لسياسات الحكومة، وبهذا، فقد أدلوا ببيان واضح حول الحاجة إلى وضع قيود على سلطات قادة البلاد.

تحديدا، كانت هناك استطلاع للرأي تمثل درسا في العلاقة الوثيقة بين السياسة والاقتصاد. وعلى الرغم من أن الانتخابات المحلية –بحكم تعريفها- تحركها قضايا اقتصادية، فقد تأثر أداء تركيا الاقتصادي إلى حد كبير سلبا، بعمليات القمع الأمني في الداخل، بالإضافة إلى السياسة الخارجية العدائية. لقد تركت المشاريع المكلفة المتمثلة في ملاحقة القوميين الأكراد دون قيود في سوريا وأماكن أخرى، والمواقف التي لا هوادة فيها تجاه الأكراد في الداخل، تركت انطباعًا واضحًا على المستثمرين. بالنسبة لهم، فإن كل تلك الإجراءات ما هي إلا مؤشرات على أن الاضطرابات قد تستمر على الحدود الجنوبية لتركيا، وفي المناطق ذات الأغلبية الكردية داخل تركيا.

هناك قدر كبير من عدم اليقين بين المستثمرين بسبب الحملة التي تشنها الحكومة على المعارضة السياسية منذ الانقلاب الفاشل في عام 2016، بما في ذلك احتجاز الآلاف من العاملين المدنيين ورجال القضاء والأمن. وقد أخافت حالة حرية الصحافة أيضا، المستثمرين الأجانب. وفقًا للجنة حماية الصحفيين، تواصل تركيا “سجن عدد أكبر من الصحفيين من أي دولة أخرى على هذا الكوكب”، حيث تم اعتقال 68 شخصًا على الأقل بسبب أعمالهم وكتاباتهم في نهاية العام الماضي. بالإضافة إلى ذلك، أغلقت الحكومة عشرات وسائل الإعلام واحتجزت الكتاب والناشطين السلميين.

كذلك، أثرت اتهامات المحسوبية والفساد والصفقات المشبوهة على مناخ الأعمال. كما أن التقارير في الولايات المتحدة حول فرض العقوبات على الكيانات القريبة من قيادة تركيا، كانت لها عواقب سلبية. إن الإعلان التركي عن أنها لن تلتزم بالعقوبات الأمريكية ضد إيران، قد جعل الشركات الدولية في حالة توتر، خشية أن تصبح مستهدفة من قبل الولايات المتحدة بسبب انتهاكها لتلك العقوبات.

إن المشاجرات الدبلوماسية مع حلفاء الناتو، مثل ألمانيا وهولندا، تجعل المستثمرين الأجانب يترددون في توسيع انكشافهم في تركيا. كما أن علاقات “أنقرة” المتنامية مع إيران وروسيا، تشكل مصدر قلق لهؤلاء المستثمرين، خاصة في ضوء المخاوف الأمريكية في حالة المضي قدماً في المشروع التركي لتثبيت نظام الصواريخ الروسية المتقدم (S400).

لقد أحدثت هذه التغييرات في مناخ الأعمال تأثيرًا واضحًا على الأداء الاقتصادي التركي. وعلى الرغم من أن التراجع الاقتصادي سبق الانقلاب الفاشل في عام 2016، إلا أنه تسارع منذ ذلك الحين. انخفض إجمالي الناتج المحلي، وهو المقياس الكلي للنشاط الاقتصادي، انخفاضًا حادًا وانخفض نصيب الفرد من الدخل للمواطنين العاديين بنحو 25% خلال السنوات الخمس الماضية، ووصلت نسبة التضخم والبطالة إلى رقم مزدوج. في الصيف الماضي، فقدت الليرة التركية 40% من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي، ما زاد من تكلفة الواردات، وبالتالي ارتفاع الأسعار المحلية. على الرغم من أن العملة التي تم تخفيض قيمتها كان من المفترض أن تعود بالفائدة على الصادرات، فإن العجز التجاري التركي آخذ في الاتساع، وليس في التقلص. كما انخفضت الاحتياطيات الدولية بنحو 25% خلال خمس سنوات.

إن الكثير من هذه الأضرار التي لحقت بالاقتصاد والمكانة الإقليمية والدولية لتركيا هي من صنع تركيا نفسها: خوض معارك مع الحلفاء المقربين، وإضعاف التحالف العسكري التركي مع (الناتو) والولايات المتحدة، ومساعدة إيران على تجنب العقوبات، والتغاضي عن أنشطة “طهران” الخبيثة في سوريا . وقد أدت العواقب الاقتصادية لهذه الخطوات المتهورة، على ما يبدو، إلى اضطراب مجتمع الأعمال الدولي، الذي يعتبر تقليديًا شديد الحساسية تجاه توقعات عدم اليقين والمخاطر السياسية.

كان من المحتم تقريباً مع هذه التغييرات أن تدخل تركيا في الركود الشهر الماضي، حيث شهدت أسوأ أداء لها منذ عام 2008 مع انخفاض إجمالي الناتج المحلي بنسبة 3% (سنويًا)، وتعاني الصناعة التركية من انخفاض شهري خامس على التوالي. حذر مسؤول في صندوق النقد الدولي (IMF) من أن “هناك تباطؤًا كبيرًا في الاقتصاد التركي والحكومة بحاجة إلى الاستجابة الفورية والدقة لهذه المشكلة”.

خلال الأسبوع الذي تلى الانتخابات المحلية، أفادت الصحافة التركية بأن هناك تقلبات كبيرة في أسعار الصرف وأسعار الفائدة وفي البورصة، خاصة بعد أن حصر البنك المركزي إمدادات الليرة التركية في الأسواق الخارجية لإحباط انخفاض فعلي آخر في العملة في أسواق المقايضة الخارجية.

وقد سعى وزير الخزانة والمالية التركي بيرات ألبيرق، الذي شعر بالقلق من هذه المخاوف، إلى طمأنة الجمهور، معلنا أن البلاد ستدخل “عملية تطبيع” بعد الانتخابات البلدية التي جرت في 31 مارس.

ربما تحتاج تركيا إلى عملية التطبيع هذه، ولكنها قد تحتاج إلى مساعدة خارجية. على الرغم من أن تركيا قد استبعدت في الماضي تدخل صندوق النقد الدولي، إلا أن أي خطة إنقاذ محتملة قد لا تتم دون دعم من الدول الرئيسية، مثل الولايات المتحدة وألمانيا. قد يرغب حلفاء تركيا في رؤية اعتدال في سياستها الخارجية قبل بذل الجهود اللازمة لمساعدتها على الخروج من الركود الاقتصادي الذي دخلت فيه للتو.

—-

*الدكتور عبدالعزيز العويشق: الأمين العام المساعد لمجلس التعاون الخليجي للشؤون السياسية والتفاوض. كاتب عمود في صحيفة “عرب نيوز”، والآراء الواردة في مقاله هي آرائه الشخصية ولا تمثل بالضرورة آراء دول مجلس التعاون الخليجي.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد