روبرت فيسك يكتب: دروس مستفادة من التاريخ لحل الأزمة السورية

روبرت فيسك

عندما استعاد جنود الحكومة السورية لأول مرة قرية “دير الحافر” الصغيرة من تنظيم “داعش” في عام 2017، وجدوا “محكمة” إسلامية هجرت شؤونها على عجل، ممتلئة بأكوام من الوثائق. هذه المئات من الصفحات تحتوي على دليل رهيب على كيفية تصرف المدنيين السوريين هناك خلال ثلاث سنوات على الأقل من احتلال “داعش”.

وصلت إلى القرية برفقة الجيش السوري بعد أن قصفت طائرة روسية “داعش” وطردتهم من شوارعها، وكان الإسلاميون لا يزالون يطلقون القذائف وهم يتراجعون، ما أدى إلى مقتل قائد سوري كبير، ووصلنا إلى مبنى المحكمة الشرعية المحلي، وهو مبنى خرساني محصن، تجاوره ثلاثة صلبان حديدية متساوية أعلى منصة فوق الطريق، لكن الأوراق الموجودة على أرض الساحة، كانت هي القصة الحقيقية لـ”دير الحافر”.

كان القضاة في تلك المحكمة من المصريين، وقد امتدت ولايتهم القضائية إلى “عاصمة داعش” في سوريا في مدينة “الرقة”. وقد كشفت الوثائق أن أهل القرية استخدموا “العدالة” الإسلامية لخيانة جيرانهم، ففي إحدى الحالات تمت تسمية أبناء العمومة كجواسيس محتملين، وفي قضية أخرى اتهام لشاب بمقابلة صديقته سراً في وقت كان من المفترض أن يحضر الصلاة في المساء. اتهم الجيران الآخرون بعضهم البعض بالسرقة. وقضية أخرى لرجل من المفترض أنه يجمع الأموال لتشغيل مولد كهربائي، قد استولى على الأموال لنفسه. وفي قضية أخرى، تم تسليم عميل محتمل -ربما للحكومة السورية- لتطبيق “العدالة” عليه من قبل “محكمة الشرطة الإسلامية الثورية”.

تم توثيق أسماء شهود الادعاء والمدعى عليهم، وأحياناً حراسهم “الإسلاميين”، بدقة في هذه الأرشيفات. ولم يكن مفاجئًا أن وصلت مجموعة كبيرة من المواطنين يبتسمون بحذر، من 27 قرية حول “دير الحافر” إلى الطريق السريع الرئيسي عبر القرية، بعد ساعة من وصولي إلى مئات الوثائق على أرضية “المحكمة”، بينما كانوا يرتدون ألبسة بنية طويلة، للبحث عن ضباط الجيش السوري. أحضروا معهم عريضة مشتركة موقعة من مختارهم وقادة القرية يسعون إلى “المصالحة” مع الحكومة السورية. الجنود لم يكونوا مهتمين بهذا الأمر، وقبلوا العريضة بلا مبالاة واخبروا الرجال، الذين كانوا في حالة خضوع تام، بالتواصل مع السلطات في حلب ودمشق إذا كانوا يرغبون في الغفران.

فهم الجانبان الواقع. عندما يحتل منزلك جيش آخر -عندما تكون قريتك محتلة من قبل قوة منافسة- يجب أن تتعاون من أجل البقاء. أو، على الأقل، تعاون. لأن لحظة الاحتلال تصبح لحظة تعاون. إن النظام السوري، بعد أن فاز بحربه فعليًا، بات غارقا في “لجان المصالحة”، التي يتوسل إليها القرويون حول “دير الحافر” طلبا للرحمة. لكن إنهاء الحروب شيء؛ وإنهاء الحروب الأهلية التي يعارض فيها شعب حكومته وكذلك بعضهما البعض هو أمر مختلف تماما. وإذا لم تكن هناك مصالحة -أو قرار- فسيكون من الأفضل لنا الاستعداد للجزء الثاني من الصراع نفسه.

لنأخذ يوغوسلافيا مثالا.. نعلم جميعًا أن الحرب الأهلية التي شهدناها في التسعينيات كانت لها سوابق تاريخية. كإثبات لذلك، اقرأوا رواية “The Bridge on Driena” للأديب الحائز على جائزة “نوبل” إيفور آندريك. لكن المجازر المدنية الحقيقية والشريرة في يوغوسلافيا التي أثبتت أنها حجر الأساس للنزاع العرقي الذي بدأ في عام 1991، وقعت في الحرب العالمية الثانية، عندما أنتج غزو ألمانيا عام 1941 دولة كرواتيا الفاشية التي كانت معسكراتها للإبادة -للصرب اليوغوسلاف واليهود و المسلمون- في بعض الأحيان أكثر فاحشة من النازية. كان معسكر “جاسينوفاتش” يحتوي على غرفة للغاز. وكان لدى كرواتيا أيضًا فرق من قوات الـ”أوستاش”، المدربة على إعدام ضحاياها، على غرار “داعش”، بالسكاكين والمناشير.

انقسمت المقاومة المناهضة لألمانيا إلى “تشيتنيك” صربي – ملكي مشترك وحزبيين شيوعيين، وسرعان ما تعاونت الأولى مع المحتلين الألمان والإيطاليين ضد الشيوعيين، والثانية عملت -بدعم من الحلفاء والروس- ضد النازيين والإيطاليين والـ”تشيتنيك”. في النزاع البوسني في التسعينيات، سُجن مجرمو الحرب إلى حد كبير بناءً على أدلة شهود العيان، ونادراً ما كان ذلك على دلائل أرشيفية حقيقية. لكن الحرب الأهلية اليوغوسلافية الأصلية، كانت مليئة بالأوامر المكتوبة وروايات الفظائع التي وقعها الجناة. لم يبد أنصار “تيتو” رحمة تجاه أعدائهم الصرب أو الكروات أو المسلمين بعد التحرير. وهكذا، عندما وضعوا الزعيم درازا ميهايلوفيتش على ذمة التحقيق في بليدج 1946، أصدر الشيوعيون سجلاته العسكرية الخاصة بالحرب من أجل إدانته.

كان هناك العديد من الروايات المثيرة للاهتمام حول التعاون البريطاني الأولي مع “ميهايلوفيتش”، وقد أدرك “تشرشل” لاحقًا أن “تيتو” كان أكثر كفاءة في قتل الألمان، ولكن تم نشر إجراءات المحكمة الرسمية دوليًا، حيث تضمنت الكثير من المواد الوثائقية؛ ولدي نسخة أصلية باللغة الإنجليزية، نشرتها السلطات الشيوعية في “بلغراد” عام 1946. وهنا، على سبيل المثال، الوثيقة 370 وهي تقرير من نهر درينا في البوسنة إلى “ميهايلوفيتش”، من أحد مساعديه يدعى بافل ديوريسيتش، يقول فيه:

“وصلت فصائلنا إلى درينا خلال الليل… ثم بدأت عملية تطهير الأراضي المحررة… تم إحراق جميع القرى المسلمة تمامًا، حتى لا يبقى أحد في منزله… خلال العمليات التي قمنا بها نفذنا إبادة كاملة للسكان المسلمين، بغض النظر عن جنسهم وعمرهم… فقدنا ما مجموعه 22… بين المسلمين كان هناك 1200 مقاتل، وما يقرب من 8000 ضحية أخرى، نساء وكبار سن وأطفال… كانت معنويات وحداتنا مرتفعة للغاية. أظهرت بعض الوحدات، مع قادتها، بسالة بارزة في كل موقف، وتستحق كل الثناء “.

ربما كان هذا تقريرًا صربيًا من البوسنة في عام 1992. ومما لا يثير الدهشة، أجاب ميهايلوفيتش أنه “لم يعتقد أبدًا” أن بافل ديوريسيتش “سيوضح الأمر بهذه الطريقة”. كانت هذه، بالطبع، محاكمة الخاسرين من قبل المنتصرين وقوانين “نورنبيرغ” التي نادراً ما كانت تعمل في “بلغراد” الشيوعية في فترة ما بعد الحرب، لكن “ميهايلوفيتش” -وهو “ميلوشيفيتش” عصره- أُدين بفعل الوثائق التي خلفتها قواته ورائها. كعدو لـ”تيتو” –وهي خطيئته الحقيقية- أُعدم في 17 يوليو 1946. لكن كل ما فعله “تيتو” للتمويه على جرائم الحرب هذه -وتلك التي ارتكبها الحزبيون الذين ألقوا رجال ونساء وأطفال كرواتيين في حفر الموت بعد تسليمهم (من قبل البريطانيين) في نهاية الحرب- كان لوضع يوغوسلافيا في ثلاجة الديكتاتورية الشيوعية.

لم يتم إخماد الحرائق، ولم يخمد الرماد لما يقرب من نصف قرن، ثم وجدنا مرة أخرى أن التشيتنيك الصرب يتقدمون إلى وادي درينا لتدمير المسلمين، في نفس القرى التي قام فيها رجال “ميهايلوفيتش” “بإبادة” هؤلاء بنفس قدر ما قالوا إنه “بسالة” خلال الحرب العالمية الثانية.

إن قتل قادة الجانب الخاسر في حرب أهلية يمثل هدنة لإطلاق النار في نزاع عرقي، وليس نهاية نهائية. يمكنك وضع الكرب في صندوق ثلج، ولكن في اللحظة التي ينتهي فيها مالك الثلاجة، يتم إيقاف التيار وتعود كائنات الماضي إلى الحياة. قبل بدء حرب 1991، بدأ الصرب والكروات في فتح مقابر جماعية تعود للحرب العالمية الثانية. “لماذا يفعلون هذا؟”.. سألتني المترجمة الصربية المسنّة، فأجبتها: “لسفك المزيد من الدماء”.

لقد كافح اللبنانيون مع نفس الأشباح منذ انتهاء الحرب الأهلية العرقية التي دامت 15 عامًا -بمساعدة من مجموعة من الدول الغربية وإسرائيل وسوريا- في عام 1990. عمد قانون ما بعد الحرب في عام 1991 إلى العفو الفعلي عن كل زعيم سياسي لبناني وعن قتلهم لعشرات الآلاف في جرائم الحرب التي ارتكبوها ضد رجال ونساء وأطفال، بمن فيهم رجال الميليشيات المسيحيين الذين ذبحوا في عام 1982، وما يصل إلى 1700 لاجئ فلسطيني في صبرا وشاتيلا تحت أعين القوات الإسرائيلية.

لكن لا يزال هناك حوالي 18000 لبناني “اختفوا”، في مقابر جماعية حفرت من قبل كل من المسيحيين والمسلمين، أو في السجون السورية. ولا تزال عشرات الآلاف من العائلات اللبنانية، حتى اليوم، تبقي أحبائهم “أحياء” من خلال طلب دليل على ما حدث لهم وموقع رفاتهم. تواصل صحيفة L’Orient Le Jour المسيحية الناطقة باللغة الفرنسية، بشجاعة، إعادة إحياء ذكرى هذه الأرواح المفقودة والمميتة بوضوح من خلال السماح لها، في شكل خيالي، بالتحدث عن نفسها في سلسلة منتظمة بعنوان “الإبقاء على الأمل”.هنا “تتحدث” راية الداوري، أرملة وأم لطفلتين، عبير البالغة من العمر 6 سنوات ونسرين البالغة من العمر 5 سنوات، في طبعة الصحيفة التي صدرت في 22 مارس 2017، والتي نشرت بعد ما يقرب من 40 عامًا على “اختفائها”:

“كنت في طريقي نحو سوق الغرب، لتسجيل عبير ونسرين لتعليمهم، عندما تم اختطافي مع أربعة ركاب آخرين عند نقطة تفتيش أسفل متحف بيروت. كانت سامية ومنى وحنان ويونس من الطلاب الشباب العائدين إلى سوريا.. لقد اختفينا جميعًا.. فقط سائقنا أطلق سراحه. علاوة على ذلك، كان هو الذي نقل الأخبار السيئة لعائلاتنا… لا تدع قصتي تنتهي هنا”.

قد تكون تلك الكلمات خيالية، بالطبع، لكن من المؤكد أن “رايا” كانت لتقول ذلك إذا كانت تستطيع التحدث إلينا. ونظرًا لكونهم من الأشخاص الذين يتسمون بالذكاء والتأمل، فقد تساءل اللبنانيون عن مشاعرهم مرات عديدة، وسألوا أنفسهم كيف يمكن لمثل هذه الموهوبين -بالمعنى الحرفي للكلمة- والمجتمعات المتعلمة، أن تنتج عن هذه الأعمال الوحشية.

استكشف الأكاديمي والمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي الصراع الأهلي في كل من الأدب والفن -في أعمال الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط، الذي عارض الظلم والديكتاتوريين؛ وفي أعمال بيكاسو وكارافاجيو؛ وأعمال المخرج البوسني أديمير كينوفيتش. كان على “طرابلسي” اكتشاف تداخل مستمر بين شخصيات الجلاد والضحايا، ونقل عن وليد جنبلاط  الزعيم الدرزي اللبناني والمفكر السياسي الكبير الوحيد في لبنان، الذي قال خلال الحرب الأهلية في عام 1986، إن “العدو موجود الآن داخل كل من واحد منا”.

يعتقد “طرابلسي” أن الرسم والمسرح والسينما أكثر قدرة على التعبير عن “جوهر النزاع المدني” من التحليل السياسي أو التاريخي، ولهذا بدأ دراسته للحرب اللبنانية من خلال البحث في الحرب الأهلية الإسبانية -غير المدرك في الوقت الذي كانت فيه الحجج البائسة لإبقاء الديكتاتور فرانكو في وادي السقوط الشنيع- وأشار إلى عدد الفنانين الذين ألهمتهم لوحة “غرونيكا” لتمثيل أهوال العنف في العراق والجزائر ولبنان وفلسطين وسوريا.

وقال “طرابلسي”: “لكنني سألت نفسي بنفس القدر، إذا كان لا يزال غرونيكا قادرًا على التعبير عن رجس حروب القرن الحادي والعشرين”. على الرغم من قلة من الناس يقدرون الحقيقة، كانت هذه واحدة من الأعمال الفنية الأولى التي تصور نتيجة القصف الجوي.

إذا، من سيحاكم قتلة الحرب السورية، سواء النظام أم أعداءه؟ يعتزم اللاجئون السوريون، على نطاق واسع، تقديم تهم بارتكاب جرائم حرب ضد بشار الأسد، باستخدام سابقة يحاول من خلالها لاجئوا الروهينجا المسلمون استخدام المحكمة الجنائية الدولية لاتهام قادة ميانمار بالاضطهاد.

لكن الإدارة الأمريكية أعلنت بالفعل أنها سترفض منح تأشيرات إلى محامي المحكمة الجنائية الدولية الذين يحققون في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان أو العراق، وسيشمل ذلك محاولات لتوجيه الاتهام إلى الإسرائيليين أو التحقيق معهم. إذا كان هذا يدل على مدى التحالف الوثيق بين “واشنطن” والدفاع عن مذابح إسرائيل في غزة، فمن المحتمل أن يثبت أيضًا عدد الإسرائيليين الذين يحملون الجنسية الأمريكية. لكن كيف يمكن للمحكمة الجنائية الدولية مقاضاة جرائم الحرب العربية، ومع ذلك، فقد فشلت في التحقيق مع مرتكبي هذه الجرائم على أيدي القوات العسكرية الغربية.

سعت محكمة “لاهاي” لجرائم الحرب إلى توفير العدالة لضحايا حروب الخلافة اليوغوسلافية في فترة التسعينيات. تم سجن مجرمي الحرب، وفي كثير من الأحيان قتلوا أنفسهم في السجن. ومع ذلك، فإن الكراهية والفساد –مهما كان عدد المرات التي يجتمعان فيها- في البوسنة الحالية وصربيا وكوسوفو، لا يشيران إلى أن “العدالة” الدولية تنهي الحروب.

بالنسبة لأولئك الذين يعتقدون أنه على الدول أن تحاكم وحوشها -كما فعلت يوغوسلافيا في عام 1946- انظروا إلى ما حدث عندما طالبت مجموعة من الناشطين اللبنانيين المستقلين في عام 2011 بإلغاء قانون العفو لعام 1991، ودعت إلى “محاكمة مجرمي الحرب اللبنانيين” حتى لو كان هذا يعني تقديمهم إلى العدالة في المحاكم الأوروبية. تلقت صفحتهم على موقع “فيس بوك” على الفور تهديدات من قادة كل حزب سياسي تقريبًا في لبنان -أظهروا من هم “المجرمون” المزعومون فقط- لكنهم تلقوا الدعم من “هيومن رايتس ووتش”، التي تحدثت عن “ثقافة الإفلات من العقاب” التي نص عليها قانون العفو اللبناني الأصلي، والذي فشل في التئام جراح الحرب الأهلية.

اقترح البعض أن “المسؤولين” عن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية في لبنان يجب “عزلهم” عن مجتمعاتهم، وهي خطوة غير مرجحة لأنهم على الأرجح سيُؤمنون أنفسهم، وسيدفعون تعويضات مالية لضحاياهم.

بعد كل احتلال، تصبح “العدالة” ضرورة وإلحاح واستحالة. أعطى “دي جول” الفرنسيين فترة راحة قصيرة من القانون القضائي “قانون التنقية” الخاص بهم بعد التحرير، حيث تم إعدام الآلاف من ميليشيا”Milice” وآلاف من المتعاونين الأبرياء نسبيًا والكثير من الأفراد الأبرياء كليًا الذين استهدفهم خصومهم لأغراض شخصية الأسباب، أو إطلاق النار عليهم أو رميهم في مقابر جماعية. لقد وصف “دي جول” حزنه عندما اضطر، كل ليلة، إلى أن يقرأ من خلال اتهامات قضائية بالتعاون وجرائم الحرب التي يفترض أن يكون ارتكبها مواطنون فرنسيون، وأن يقرر من يجب أن يواجه فرقة إطلاق النار، ومن ينبغي عليه فقط أن يفقد حقوقه المدنية.

لكن عندما نقف إلى جانب القتلة والضحايا، نواجه مشاعر أخرى: الحاجة إلى الانتقام، والرغبة في المصالحة، والافتراض المدقع بأنه لا يمكن إلا لعقود من الزمن حل أعمال القسوة والسادية. يبدو أن النزاع الأهلي، مثله مثل جميع النزاعات الأخوية، يحتوي على وحشية خاصة حيث يغفر الضحايا -إن أمكن اكتشاف كلماتهم الأخيرة- أحيانًا لأولئك الذين على وشك تدمير حياتهم.

كما هو الحال في الجزائر، حيث صدر قانون عفو آخر بعد حمام الدم في الفترة 1992-1998، حيث تم العفو عن الجميع، وعلاوة على ذلك، فقد منع أي نقاش حول الجرائم الفظيعة والانتهاكات المرتكبة في هذا الفترة من الدم. لن يكون مفاجئًا أن نعرف أن هذا التشريع المشين تم وضعه -في أيامه الأولى التي لم يكن يعاني فيها من غيبوبة- من قبل عبدالعزيز بوتفليقة الرئيس الذي حاول التشبث بالسلطة في الجزائر ضد رغبات ملايين المحتجين ضده. هل تجلب الحرية الغفران؟ وإلى متى يجب علينا الانتظار؟ بعد انتهاء الحرب اللبنانية، كنت حاضراً في حفل قهوة في بيروت حضره زعيم طائفي بارز. في إحدى زوايا الغرفة كانت سيدة في منتصف العمر قد اختُطف ابنها -و”اختفى” على خط المواجهة- على أيدي ميليشيا الزعيم الطائفي.

وقفت لبعض الوقت، تمتمت بغضبها ضده. وبعد ذلك، وبينما شاهدنا ذهولًا، واجهت الرجل وطالبت بمعرفة ما فعله مع ولدها، وهي تصرخ وتصرخ وتصرخ تعبيرا عن حبها لابنها الميت بلا شك. حاول الرجل التفكير معها، وقال إنه سيحاول معرفة ذلك وكان آسفًا عليها؛ لكنها سريعا ما تم إخراجها من الغرفة بقوة. كانت والدة الضحية هي التي يجب عليها أن تغادر، وليس القاتل!

في عام 2017، كان محافظ حمص السوري يحاول إقناع المواطنين السنة بالبقاء في منازلهم وعدم المغادرة على متن حافلات المتمردين إلى محافظة إدلب. كنت أقف بجانبه وهو يتسلق الباصات ويتوسل إليهم بلا جدوى. قال لي لاحقًا: “هناك الكثير من الناس يريدون عودة أحبائهم.. كان هناك العديد من عمليات الاختطاف في بداية الحرب ولا يعتقدون أنني لا أستطيع إعادتهم. لقد مضى وقت طويل نحن لا نعرف أي جانب مسؤول”.

ولكن يمكننا التخمين، ونحن كمراسلين نعرف عادة -كما تعلم عائلات الضحايا- من الذي ربما قتل من عند نقطة تفتيش لبنانية أو سورية أو بوسنية. قبل كل شيء، كنا نعرف من قتل 8373 من البشر في سريبرينيتسا. لقد رأينا الجنرال راتكو ملاديتش على شرائط الفيديو. ولكن هل هذا عن الأفراد؟ أو عن أولئك الذين أطاعوا -على الرغم من عدم حماسهم- أوامرهم؟ أو من، مثل القرويين المحيطين بـ”دير الحافر”، تعاونوا ثم تعاونوا ثم وجدوا أنفسهم، بعد ثلاث سنوات، في الجانب الخطأ من الحرب؟

أولئك الذين ظنوا أنهم كانوا على الجانب “الأيمن” -في تونس، على سبيل المثال، حتى أثبتت الثورة ضد “بن علي” أنهم مخطئون- باتوا يعانون من كوابيسهم الخاصة، وهي ظاهرة تستحق الاستكشاف. في تونس، على الأقل، كانت هناك جلسات استماع “الحقيقة والكرامة” بعد سقوط الديكتاتور، وأقنعت تلك المجلة الفرنسية الصغيرة المشاكسة “جون أفريك” شرطي سابق بالغ من العمر 68 عامًا بالاعتراف بجرائمه في ظل النظام. وصف “رضا” (تم تغيير الاسم، بالطبع) كيف يعمل هو ورفاقه. كانت مهمتهم الأولى هي إذلال السجناء الإسلاميين وتجريدهم من ملابسهم وضربهم بأنابيب حديدية وسياط. “ثم كانت هناك تقنيات أكثر تطورا”، يقول رضا، مضيفا: “مثل الدجاج المشوي، المُعلق من عمود حديدي وأقدام ومعصمين مربوطين، وتعريض السجين لصدمات كهربائية على الأجزاء الأكثر حساسية من جسده… لم تكن هذه مسؤوليتنا، ولكن وقعنا في النظام “.

وعندما سُئل عن سبب استمراره في ممارسة التعذيب، أوضح “رضا” أن “حياتي كانت مريحة، وكنت أقوم ببناء منزلي، وكنت أتلقى تدريبًا للشرطة في فرنسا والمملكة المتحدة وفي بلدان شمال إفريقيا، وأعمل في مخابرات مكافحة الإرهاب”، لكنه أدرك أنه كان يطيع الأوامر ليس من خلال احترام رؤسائه ولكن من خلال الخوف. رغم أنه أقسم أنه لم يمس أي سجينات، إلا أنه كان يسمع صراخهن. وعندما أتيحت له فرصة الاستقالة، غادر “بمشاعر الخجل بشأن نظام يلتهم أبنائه. عندما صادفت لاحقاً سجيناً سابقاً، كنت أدعي أنني لم أعرفه. سوف يفعل الشيء نفسه”.

هنا، ربما، كانت صورة “طرابلسي” عن الجلاد والضحية التي أصبحت واحدة. وخلص رضا إلى القول: “لكن كل الأسف الذي يمكنني التعبير عنه لن يمحو أي شيء حدث.. التفتت إلى الله، ولكن عاري يخذلني ويتبعني… لا أعتقد أنني تعرضت للخيانة، ولكني أخشى أن يتم إلقائي في السجن عقابا على ما قمت به لأشخاص آخرين. قد أكون جبانا، لكنني لست وحشًا”.

الحروب الأهلية -وهذه هي حالة المجتمع داخل الديكتاتوريات- تجعل منا جميعا وحوش. وُلد نصف تنظيم القاعدة في غرف التعذيب التابعة للشرطة السرية المصرية. عمر سليمان، أكبر جاسوس وشرطي في عهد “مبارك” والمسؤول عن العلاقات المصرية الإسرائيلية والرجل الذي رتب عمليات الترحيل السري لتعذيب سجناء أمريكا في القاهرة، سافر شخصيًا إلى تونس لتقديم المشورة لرؤساء “رضا” في عام 2006.

كيف ينفصل الضحايا عن هذا العالم؟ كيف تغلق الباب على المعاناة؟ المصالحة كلمة سهلة. والحقيقة كذلك أيضا. كيف نطفئ آلة الحرب الأهلية؟ بالأعذار؟ بالاعترافات؟ أم يجب أن ننتظر حتى يمر كل من أخطأ -ويخطئ- طوال حياته الطبيعية على الأرض؟ حتى لو ماتوا في سنوات العذاب السابقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد