سودي أكغوندو، أيكان إردمير
استجوبت الشرطة التركية في 3 يوليو/ تموز 28 من رجال الدين المسلمين الكرد، واعتقلت تسعة بينهم، ولك بسبب إلقاء خطب باللغة الكردية في المساجد. وأثناء استجواب الأئمة، أصرت السلطات على أن مجرد استخدام الكلمات الكردية يتناسب مع “الخطاب التنظيمي” لحزب العمال الكردستاني. وعلق أحد الأئمة المحتجزين أن الضباط عرضوا صوراً للصلاة في المساجد كدليل على جرائمهم.
وتأتي حملة الاعتقالات التعسفية بحق الأئمة في وقت تتصاعد فيه وتيرة أعمال العنف التي تستهدف الكرد في تركيا، ففي شهر تَمُّوز / يُوليُو تعرض الكرد لأربعة هجمات عنصرية والتي تعد إنعكاساً لتحيز السلطات التركية ضد اللغة الكردية. فقد هاجمت جماعة عنصرية بولاية أفيون التي تقع في غرب تركيا، مجموعة من العمال الكرد لتحدثهم اللغة الكردية، متهمة إياهم بأنهم على صلة بحزب العُمّال الكُردستاني .
إن الإجحاف بحق اللغة الكردية وبالأماكن الدينية في تركيا ليس بجديد، فهذه الأماكن تخضع لرقابة رئاسة الشؤون الدينية أو ما تُعرف باسم ” ديانات” وهي هيئة حكومية تقوم بإصدار توجيهات تنظم الصلاة والوعظ والعبادات للمسلمين من خلال 130 ألف إمام موزعين في البلاد. لقد أدى التجريم المستمر للغة الكردية عبر إلصاق تهمة الإنتساب لحزب العُمّال الكُردستاني لكل من يتحدث بها، ليس فقط إلى حرمان الكرد من حقوقهم داخل تركيا وعدم مساواتهم ببقية الأتراك، بل أيضا عدم تمكن الكرد من ممارسة الشعائر الدينية بما يروه مناسباً.
لم تفسح رئاسة الشؤون الدينية أو ما تُعرف باسم ” ديانات” السماح بإلقاء الخطب باللغة الكردية، باستثناء حالات قليلة، وتقوم السلطات التركية بحملات أمنية ممنهجة بين فترة وأخرى ضد الأئمة الذين يتحدثون باللغة الكردية خلال أداء العبادات أو إلقاء الخطب وذلك باعتقالهم أو نفيهم أو إعفائهم من الوظائف.
في العام 2008 لم تقبل ” ديانات” بإلتماس تقدمت به جماعة كردية تطالب فيه بإلقاء الخطب باللغة الكردية، بحجة مخالفته للمادة الثالثة من الدستور التركي والتي تنص على أن اللغة التركية هي لغة الدولة، حيث اتخذتها رئاسة الشؤون الدينية ذريعة لرفضها للإلتماس ولم تسمح لأئمة المساجد سوى التحدث باللغة التركية. وقد أدى ذلك إلى صعوبة في فهم الخطب التي تُلقى باللغة التركية بالنسبة للكرد الذين يتحدثون بلغة واحدة في البلاد.
أدى رفض ” ديانات” لاستخدام اللغة الكردية في الأمور الدينية موجة غضب عارمة، أعقبها حدوث إحتجاجات في العام 2011 بقيادة حزب السلام الديمقراطي الموالي للكرد، والذي تم إغلاقه في وقت لاحق، حيث نظم الحزب” صلاة جمعة مدنية” في الولايات ذات الغالبيّة الكردية، فيما خطب أئمة متطوعون بجموع المصلين باللغة الكردية، ولقيت هذه الخطوة تفاعلاً ودعماً كبيراً من قبل الكرد، حيث قال مواطن من آمد جنوب شرق تركيا :” يلقي أئمة المساجد الحكومية الخطب بالتركية بيد أننا نفهم باللغة الكردية أفضل منها ولا نستوعب ما يقال باللغة التركية”.
وعلى الرغم من القاعدة الشعبية الكبيرة التي حظيت به هذه الخدمات الدينية والتي وصل عدد المشاركين والمتطوعين فيها إلى نحو خمسة آلاف شخص ( 5000)، إلا أن السلطات التركية لم تكترث للأمر، ولم تخفف من إجراءاتها المجحفة فيما يتعلق بالحرية الدينية. ففي أيار /مايو عام 2018 إعتقلت السلطات التركية إماماً متطوعاً بأحد مساجد آمد بسبب إلقائه خطبة الجمعة باللغة الكردية، وفي أثناء التحقيق سأل المحققون الإمام فيما إذا كان قد قام بإدلاء كلام ضد الحكومة من على منبره وهو يخطب بالجموع بالكردية. وبعد فترة ليست بالبعيدة من إطلاق سراح الإمام قام مسؤولون محليون بـِ ” ديانات” بمنع الإمام من مزاولة مهامه كإمام وخطيب للمسجد.
وبعد نحو عام من هذا التاريخ، أصدرت محكمة في آمد حكماً بالسجن لمدة سبعة أعوام على ” إمام مدني” وهو لقب يطلق على الأئمة الذين يؤدون صلاة الجمعة باللغة الكردية خارج إطار هيئة ” ديانات” الحكومية، ووجهت عريضة الدعوى (قرار الاتهام) للإمام بأنه على صلة بـ”منظمة إرهابية”. وفي قضية شبيهة بقضية الإمام وتحديداً في شهر أيلول /سبتمبر عام 2020 فقد لفظ كردي طاعن بالسن الذي كان يبلغ 80 عاماً، آخر أنفاسه بالسجن، بينما كان يقضي عقوبة كانت تصل إلى سبعة أعوام، وذلك تحت ذريعة إقامته حفل تأبيني باللغة الكردية.
ولم يدخر الأئمة جهداً في تقديم خدماتهم التطوعية باللغة الكردية حتى في فترة الوباء. وفي آب /أَغُسْطُس الماضي داهمت ضباط من الجندرمة التركية (الشرطة) حي سور في ديار بكر، بسبب تجمع كان تقام مراسم تأبين باللغة الكردية، وتم التحقيق مع الإمام لمعرفة فيما إذا كان عضواً بحزب العُمّال الكُردستاني من عدمه، كونه استخدم اللغة الكردية في عملية التأبين.
غالبية الكرد في تركيا هم من المسلمين، وهناك فقط 5000 ألف منهم اعتنقوا البروتستانتية (مذهب مسيحي) والذين هم أيضا لم يسلموا من بطش السلطات التركية، حيث وجدوا أنفسهم في مأزق بعد توجيه تهم ملفقة للقس الأمريكي أندرو برونسون والذي تم زجه بالسجن لمدة عامين في تركيا بعد أن وجهت له تهم تتعلق بالإرهاب والمشاركة في محاولة الانقلاب والتجسس. لقد قامت الدولة التركية بتجريم مذهبه وإلصاق تهمة الإرهاب بأتباعه كونهم يتحدثون اللغة الكردية.
وحسب إفادة شاهد مجهول فيما يخص قضية القس برونسون، فإن أعضاء هذه الجماعة كانوا يؤدون طقوسهم الدينية باللغة الكردية، وإعتبر ذلك دليل إلى سعي القس برونسون إلى إقامة دولة كردية مسيحية عن طريق تحويل حزب العُمّال الكُردستاني إلى اعتناق الدين المسيحي. وتبنت وكالة إخبارية شبه رسمية في تلك الفترة هذه المزاعم التي لا أساس لها من الصحة كجزء من حملة تشهير ممنهجة ضد القس برونسون.
وأشارت عريضة الدعوى ( لائحة الإتهام) إلى قيام برونسون بطباعة كتب إنجيل باللغة الكردية لبرهنة وإثبات صلاته مع حزب العُمّال الكُردستاني، كما واجه برونسون إتهام آخر غريب ألا وهو الإدعاء بأن أحد عناصر حزب العُمّال الكُردستاني _ والذي كان يدعوه برونسون بشكل دوري للحضور للكنيسة وإلقاء قداس و ترانيم الكنيسة _ كان يقوم كل أسبوع بتقطيع كعكة ” مرسوم عليها علم حزب العُمّال الكُردستاني مع وجود صليب عليه” _ وهو إتهام باطل لا أساس له من الصحة، حيث أحتل حيزاً كبيراً في عناوين الصحف التركية وتم تداوله على نطاق واسع.
تعد مدينة أسطنبول أكبر المدن التركية ومعلماً سياحياً حيوياً، وتحتضن عن ما يزيد ثلاثة ملايين كردي، حيث تتكلم أكثر من مائتي ألف شخص باللغة الكردية بصورة ثابتة، بيد أن (إسطنبول) لم تعط الكرد حقهم، حيث لم تقدم خدماتها للكرد بلغتهم الأم، وعلى نقيض ذلك، فإن بلدية إسطنبول تقوم بخدمات إعلامية بعشرين لغة أخرى. ولم يقتصر إقصاء الكرد في الحياة العامة بل تعداه للخاص، حيث لا تمنح شركتا مزود خدمة الإتصالات _ واللتان تعدان من أكبر ثلاثة شركات لمزودي خدمة الإتصالات والإنترنت على مستوى تركيا _ خدماتهما للكرد بلغتهم على الرغم من إن البلاد تضم ما يزيد عن عشرين مليون كردي.
إن بغض الحكومة التركية للغة الكردية يعود إلى الإجراءات القمعية والتعسفية المناوئة للكرد في الفترة الماضية، وخاصة بين الأعوام 1983 – 1991، حيث تم حظر التحدث باللغة الكردية في الأماكن العامة، ولم تكن خدمات البث سواء الراديو او التلفزيون مسموحة باللغة الكردية حتى عام 2002. علاوة على ذلك لم تكن الأسر قادرة على تسمية أبنائها بأسماء كردية حتى عام 2003. وعلى الرغم من رفع هذه اللوائح العنصرية إلا أن الكراهية تجاه اللغة الكردية والتفسير الخاطئ المتعصب لها كلغة حزب العُمّال الكُردستاني لاتزال متجذرة ليومنا هذا داخل تركيا.
وبالنظر إلى سجل تركيا الحافل بالإنتهاكات بحق الأقليّات الدينية ونهجها العدائي المتزايد ضد القضية الكردية، فإن الحرية الدينية للكرد في تركيا أضحت في خطر. وفي حال صدور حكم قضائي بإغلاق حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للكرد، وهو ثاني أكبر حزب معارض في البلاد، فإن الكرد سيفقدون الحزب الوحيد الذي يمثلهم و يدافع باستمرار عن حقوقهم بما في ذلك حرياتهم الدينية.
وقد أظهرت التقارير السنوية للجنة الأمريكية للحرية الدينية الدولية تقييمات مفصلة للقيود المفروضة على حرية الدين أو المعتقد في تركيا، حيث أوصت اللجنة الحكومة الأمريكية بإدراج تركيا ضمن قائمة “المراقبة الخاصة” لوزارة الخارجية، وذلك لمشاركتها في إنتهاكات جسيمة للحرية الدينية أو التساهل معها. ولكن لم تتم إحاطة الدور السلبي من قبل اللجنة للقيود الصارمة المفروضة على اللغة الكردية والإجحاف الذي يتعرض له الكرد المسلمين والمسيحيين.
لذا ينبغي على اللجنة الأمريكية للحرية الدينية الدولية، إرسال بعثة لتقصي الحقائق إلى تركيا لإحاطة هذه القضية الملحة، ويجب على الدبلوماسيين الأمريكيين الذين يراقبون قضايا الحرية الدينية في تركيا توثيق مثل هكذا إنتهاكات بشمولية أدق. وفي الوقت الذي تتناغم إدارة بايدن مع أنقرة، ينبغي على هذه الإدارة تذكير نظرائهم الأتراك بأن رفع القيود المجحفة المفروضة على اللغة الكردية لا يقل أهمية عن ضرورة إحترام الحريات الدينية للكرد في تركيا ومنحهم مزيداً من الحقوق والحريات.
المصدر: بروفيدنس(PROVIDENCE)