فقهاء العنف!

شيرين صالح | جريدة النهار اللبنانية

كأن هواء الشتاء بات صخوراً حادة تلطم وجهي قلقاً حين تاهت السيارة التي تقلّني مع فريق التصوير، تسير في كل الاتجاهات وكالهذيان؛ كنا في الطريق لإجراء ريبورتاج أثناء حملة الشدادي التي قامت بها قوات سوريا الديموقراطية ضد داعش عام 2016؛ لم نعثر على أي أثر في الخلاء الشبيه بالعدم إلا قرية قريبة، نلفّ بأنظارنا علّنا نقع على نقاط لقوات سوريا الديموقراطية، لكن دون جدوى؛ حتى أننا بحثنا عن علب فارغة لمشروب الطاقة وأعقاب سجائر الآردن الدالة على وجودهم، أي أثر هو عنوان، لكن تلاشت الإشارات في الفراغ؛ أثناء عودتنا من الاتجاه نفسه لمحنا طفلاً وسألناه عن القرية، رد بنعومة: “الدولة هنا”، رافعاً سبّابته الغضّة، وهي عادةٌ تدلّ على أنه نطق الشهادتين، أي القرية تحت سيطرة داعش؛ رفعُ الإصبعين، أي علامة النصر، تعني أنها تحت سيطرة قوات سوريا الديموقراطية، الفرق بين العلامتين كبرزخ بين نقلتين. ابتعدنا عن المكان على وجه السرعة. لا يعلم الطفل أنه انتشلني بإصبعه من مشهد لم يفارق مخيلتي؛ أسير وأنا أسمع صليل السلاسل في يديَّ وعنقي، معلَّقاً في الهواء وأفصل نهاياتها بأشكال لا منتهية للموت.

تنفسنا الصعداء، كعائدين من الردى. وصلنا إلى طريق معبّد. بعد لحظات استوقفتنا سيارة لقوات قسد وأخبرونا أن وجهتنا خاطئة، هي الطريق إلى مناطق داعش. تشابهت ملامح أصدقائي في الخوف. شعرت أن الموت بات ظلاً يعود ويختبئ. في اليوم ذاته أضاع الظلام القاتم طريقنا، ذهبنا لتغطية أحداث الجبهة في جبل كزوان جنوب غربي مدينة الحسكة. ليل يشبه بخاراً أسود مكثفاً. لم نعلم خطورة المكان. كان فاصلاً مستهدفاً لأي حركة أو مرور بين داعش وقوات سوريا الديموقراطية. الهواتف النقالة باتت معطلة في الخلاء. أُطلِقَت رصاصتان على السيارة دون أن نعرف مصدرها. عثرنا على ضوء بعيد كان يكبر كلما اقتربنا. خاطرنا ونزلنا عند النقطة دون معرفةٍ منا عن جهتها، ليتبين أنها لقوات قسد وننجو من الموت للمرة الثالثة.

تجربتي الأولى في عالم الصحافة كانت عام 2015. كنت مراسل فضائية روناهي الكردية. ذهبت لتغطية الأخبار بسيارة إسعاف، لشدة حماسي، غالباً هذا النوع يكون مستهدفاً. أثناء القصف المتبادل شعرت أن الأرض تأرجحت، للحظات سألت نفسي: “هوشنك ما الذي أتى بك إلى هنا؟!”. كمن سقط في صحوة، لكنني تناسيت وقمت بعملي.

بعد أيام، أخبروني أنه عليَّ تصوير جثة لرجل داعشي وتغطية الخبر، لثوان مرت في مخيلتي فيديوات إصداراتهم المليئة بالقتل والدمار في سوريا والعراق التي انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي في كل العالم، كفزِع يكاد يبتلع الكون، حين رأيت جثته، تحطمت مرآة خوفي وأنا أحدق فيه، أيقنت أن أساطير الشر كغيرها تُهزم وتتحول إلى نقطة عابرة في صفحات التاريخ.

أثناء تغطيتي لهجوم داعش على مدينتي الحسكة عام ٢٠١٥، كنت أشعر بالفخر كلما قامت قسد بتحرير المناطق المحتلة بدءاً من حي الغويران بعد انسحاب قوات النظام السوري، تحرير جمع الكردي والعربي والمسيحي بطمأنينة سكنت قلوبهم، ونبضت بدفء من جديد. حين رأيت تلفازاً مهشماً أثناء تصويري الخراب الذي خلفه الهجوم، انتابني التوتر، تخيلت أنه انتقم من عملي أو صورتي التي قد تكون على الشاشة أثناء قيامي بنقل الأخبار.

أيام عصيبة أثقلت ذاتي حزناً كانت أثناء حملة قسد ضد داعش في مدينة منبج عام ٢٠١٦ حين قمتُ بتغطية الأحداث بدلاً من صديقي مصطفى الذي توفي بلغم زرعه أولئك الوحوش، كان قلقي يزداد على غير العادة كلما أخبرني أحدهم بتوخي الحذر. شكل الموت كان مفزعاً، أثناء استراحتي ذات يوم، أحسست بجسم غريب يشبه اللغم تحت قدمي بضوء مشتعل. حامت الوجوه التي طلبت مني أخذ الحيطة أمام أنظاري، تجمدت كتمثال مرتعب، ليتبين أنه مجرد هاتف نقال ضائع.

حلّقت بأجنحة من ذكريات آلمتني عندما رأيت حطام بيتي الذي استأجرته أثناء دراستي للهندسة المدنية، بحثت بناظري على مسطرتي الهندسية ومخدتي بين الدمار كمن يبحث عن ظله في العتمة، كان ذلك بعد تحرير المدينة من عنف داعش أثناء الحملة التي قامت قسد ضده في مدينة الرقة عام ٢٠١٨، لم أرَ مكاني المعتاد في قاعة المحاضرات لأنها كانت مقفلة، حرقوا كليتي بالكامل، بحثت عن مفاتيحها في مخيلتي، يبدو أنها ضاعت في سواد عماماتهم القاتمة، مدينة باتت كل اتجاهاتها ركاماً، تمنيت أن أكون مخلوقاً من هواء لأعبر الأزقة التي يعلوها الردم لأصوّر التفاصيل أكثر.

كنت أشعر بالعجز أمام الناس التي كانت تسألني: “أنت الصحافي هوشنك حسن تعرف ما قد يحدث، هل ستتحرَّر عفرين قبل موسم الزيتون؟ لن نتأخر عن ميعاد قطفها أليس كذلك؟”، كان ذلك أثناء هجوم الفصائل المسلحة المدعومة من الجيش التركي في عملية ما يسمى “غصن الزيتون” عام ٢٠١٨، احتلت المدينة خلال شهرين بعد مقاومة قسد المميتة تحت ظل قذائف الطيران ونيرانها. رُفِعَ العلم التركي على المباني الرسمية، ومعها طُبِعت وثائق ملكية مزيفة لمحتلين جدد مرت بشكل بيروقراطي على الدوائر الرسمية التي رتّبوها خلال أشهر، منصّبين أنفسهم شهود عيان ليُفقدوا الاحتلال معناه. كنت أرى في وجوه العفرينيين الهاربين من الموت عناق وداع لزيتونهم وصراخاً مبحوحاً، وقوانين دولية خانت آمالهم التي باتت معلقة في المجهول، لا منفذ على الأرض ولا ممسك في الهواء.

خلال احتلال الجيش الوطني المدعوم من الجيش التركي في عملية ما تسمى “نبع السلام” في مدينة سري كانيه، رأيت عدالة العالم بحقيقتها العارية، وجدها في حقائب الأهالي التي حملوها وهم يهربون من القصف، لاحظتها في دموع الأطفال المذعورة، عدالة لوّنت الأخبار العاجلة بالأحمر أمام مجتمعات دولية عمياء خانها البصر، قاومت قسد لصد الهجوم لكن الطائرات التركية جعلت من المدينة دائرة من النيران يغلب مفهوم الجحيم. أثناء تغطيتي بدت ملامح الناس غريبة، لا تعرف سبب هذا الهجوم الذي حوّل مدينتهم المكتظة بالطيبين في غضون دقائق إلى لهيب، وفوق كل هذا نشيد تركيٌّ وأعلامهم.

لن أنسى المقاتِلة فيان التي واجهت داعش بروحها، باتت أمنية أبتسم لها لأحيا من جديد، لن أنسى المقاتل الذي واجه داعش في مياه الخابور في الحسكة وقدمه الاصطناعية طفت على الماء من الجهة الأخرى. أتذكر جيداً المرأة المختبئة خلف الصليب وهي تهرب من عنف داعش. الحرب في عفرين وتل أبيض وسري كانيه هو استعمار محلي وجنون مقصود ليثبتوا للعالم أنهم يحطّمون الآتي على أنه آثم، وأنهم فقهاء فوق كلّ القوانين.

ستنتهي الحرب، لأنّ الوطن في روح المهجّرين والراحلين أوسع من البيوت التي سكنوها، أعظم من بلدانهم التي عاشوها، لذلك ستعود ذكرياتهم تتجسد من جديد.

—-

*للاطلاع على النص الأصلي.. اضغط هنا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد