الانتخابات الأميركية والتداعيات المحتملة على سوريا وشرق الفرات

– من الأجدى البحث عن مصادر صناعة السياسة الأميركية بعيداً عن سوريا ومحيطها لمحاولة معرفة مواقع القوى على خريطة الصراع الكبير

– استراتيجية تفعيل المواجهة ضد الصين تتمثل في نقل الساحة الرئيسية للأولويات من الرقعة القارية الأوروبية والشرق أوسطية إلى شرق آسيا

– وثيقة الأمن القومي الأميركي حددت خصمين استراتيجيين، روسيا والصين، لكن في التطبيق حدد ترامب خصماً واحداً هي الصين

– الغموض في شرق الفرات سببه تطبيق سياسة “إخلاء الساحات” في سوريا والشرق الأوسط، وهذه الساحات يتم إخلاءها – كما في نموذج شرق سوريا – لصالح تركيا وروسيا

يجتمع حلفاء الولايات المتحدة في العالم، وتحديداً الشرق الأوسط، حول قاسم مشترك هو غياب الثقة في الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك فإن “الخطوة التالية” للأطراف المتحركة ضمن الفضاء السياسي الأميركي، مشوبة بالفوضى والتردد وعدم اليقين، لإدراكهم أن السياسة الأميركية تشهد نزاعاً داخلياً بين تيّارين، وقد توضّح هذا النزاع خلال الحملة العسكرية التركية في خريف 2019 لاحتلال تل أبيض وراس العين/ سري كانيه، وقطع الطريق الدولي الحيوي حيث جاء هذا الاحتلال نتيجة انتصار التيار المؤيد لتركيا في الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي لم يخفِ إعجابه بالقادة الطغاة، ومنهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

يحاول حلفاء في المنطقة أميركا شق طرق بديلة في الدبلوماسية، لكن الخيارات ليست متناسبة في ظل الوجهات البديلة السيئة.

لم يعد الأمر مهماً إذا ما أسفرت الانتخابات عن انتصار ترامب أو هزيمته. فالواقع الإقليمي الذي نتج عن قرارت ترامب، ضد مصالح حلفائه، وضد ما تمثله أميركا “قبل ترامب” لن تتغير بعد الانتخابات، لكن يمكن لصانعي القرارات التخفيف من التداعيات السلبية للقرارات السابقة، والاستعداد لما هو أسوأ مستقبلاً بغض النظر عن الفائز في البيت الأبيض، فوجهة السياسات الأميركية القادمة في العالم لا تتحدد بناء على ما يجري في الشرق الأوسط، ودولها المثقلة بالأزمات والحروب الأهلية، لذلك سيكون من الأجدى للأطراف المعنية بالتحرك الأميركي، البحث عن مصادر صناعة هذه السياسة الأميركية بعيداً عن سوريا ومحيطها، لمحاولة معرفة مواقعها على خريطة الصراع الكبير بين القوى العظمى المتنافسة.

سياسات “العالم القديم”

النقطة العليا في تشكيل السياسة الأميركية، الحالية والمقبلة، تكمن في المسار الذي يختاره سيد البيت الأبيض لتطبيق الاستراتيجية الأميركية. وهنا تكمن المعضلة الأولى. فالعالم اليوم في طور إعادة التشكل على أسس جديدة، من مظاهرها النافرة ازدراء ترامب للأمم المتحدة، وإهانة أردوغان لحلف الناتو وخرقه لثوابتها بشكل مستمر ودون رادع أو خوف من حساب.في أغسطس 2019، حين انسحبت الولايات المتحدة رسمياً من معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى التي كانت قد أبرمتها مع روسيا، كانت دوائر القرار الأمريكية تعيد تموضع استراتيجياتها بشكل يتناسب مع «العالم الجديد».

فالعالم القديم الذي تنتمي إليه المعاهدات النووية مع روسيا، يعود في جذوره إلى نظرة للعالم بمفاهيم الحرب الباردة، حيث كانت هناك قوتان رئيسيتان في العالم، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.

ضمن هذا الإطار يمكن وضع الانسحاب الأمريكي من معاهدة الحد من الأسلحة متوسطة المدى العام الماضي، وطلبها، بإلحاح، انضمام الصين إلى معاهدة «نيو ستارت» التي وقعها كل من الرئيسيين السابقين، باراك أوباما وديمتري مدفيديف، في أبريل 2010 في براغ.

وشيئاً فشيئاً، توسّع واشنطن نظرتها الاستراتيجية لمحور الأمن العالمي، بعد أن كانت القارة الأوروبية محور هذه الاستراتيجية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وباتت الآن تتطلع لتوسيع القيود على قوة جديدة، هي الصين، عبر ضمها للمعاهدات الاستراتيجية الثنائية بين واشنطن وموسكو.

ومن شأن بقاء الصين خارج المعاهدة أن يشكل عذراً للولايات المتحدة الانسحاب من هذه المعاهدة أيضاً، مما سيعني تآكل النظام العالمي القائم على تلك المعاهدات القديمة التي تقيّد قدرات البلدين مقابل إطلاق يد الصين في تطوير ترسانتها النووية والتقليدية.

القوة لا تحتمل مواجهة خصمين

لكن استراتيجية تفعيل المواجهة ضد الصين لم تكن ضمن توسيع نطاق حزام الحماية لتشمل بكين، بل تتمثل في بُعدٍ جديدٍ في السياسات الدولية العظمى، وهو نقل الساحة الرئيسية للأولويات من الرقعة القارية الأوروبية والشرق أوسطية، إلى شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي.

لم تعتمد دوائر القرار الأميركية على توسيع الرؤية الشاملة بحيث تصبح الصين أحد ركائز “العالم المعادي” إلى جانب روسيا، بل حلّت محل روسيا نفسها في أولوية المواجهة لدى فريق ترامب، وهذا هو جوهر شعور طيف كبير من المحللين بفقدان السياسات الأميركية توازنها منذ تسلم ترامب السلطة. تفيد العودة إلى ركائز وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي في توضيح هذه الإشكالية.

في نهاية العام 2017 أعلنت الولايات المتحدة استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي، لتطوي بذلك صفحة 15 عاماً من «الحرب على الإرهاب»، وهي السنوات التي بنت فيها كل من روسيا والصين فضاءات توسعية للنفوذ، كلٌ على طريقتها. لذا، أعلنت وثيقة الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية أن «المنافسة الاستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، هي الآن الشاغل الرئيسي للأمن القومي في الولايات المتحدة».(الصين في الشرق الأوسط: على خطى الولايات المتحدة؟ – مايكل سينغ – معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، حزيران/يونيو- تموز/يوليو 2018)وقال ترامب معلقاً على التقرير: «نحن نواجه خصمين هما روسيا والصين الساعيتان للنيل من نفوذ وقيم وثروة أمريكا».

(روسيا والصين تتحديان النفوذ الأمريكي – 19 ديسمبر/ كانون الأول 2017 – بي سي عربي) وهنا تكمن المعضلة. فالوثيقة الأميركية التي خضعت لنقاش مطول لاحقاً، حيث أعلنها وزير الدفاع جيم ماتيس في مارس 2018، حددت خصمين استراتيجيين يسعيان للنيل من مكانة أميركا كقوة عظمى أولى في العالم، هما روسيا والصين، لكن لسبب لم يتم تفسيره بشكل معلن، فإن هناك خياران أميركيان لتطبيق وثيقة الأمن القومي، وكلاهما يقومان باختيار خصم واحد من الخصمين اللذين حددتهما الوثيقة الاستراتيجية.

ورسى ترامب على توجيه السياسة الأميركية برمّتها لإيقاف التوسع الصيني، الخشن والناعم، العسكري والتقني، بينما ركز خصومه الديمقراطيون، وحلفاء أميركا التقليديون في أوروبا، على الجزء الخاص بروسيا في الوثيقة، واستنكار تساهل ترامب مع روسيا لدرجة أن نواباً وأعضاء مجلش شيوخ من الحزب الديمقراطي لم يترددوا في اتهام ترامب بالتواطؤ مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والقيام بخطوات تصب في مصلحة روسيا.

شرق الفرات في ظل “إخلاء الساحات”

بناء على تجزئة صناع السياسة الأميركية للوثيقة الاستراتيجية – قد يكون بسبب عدم قدرة أميركا على التحرك لمواجهة الخصمين معاً – فإن الرئيس الأميركي اختار مواجهة الصين، وقد دفع ثمن هذا الاختيار المجزأ دول وجماعات عديدة، على رأسها حلفاء أميركا في المنطقة، أو اللاعبون غير الأثرياء، مثل أكراد سوريا والعراق وتركيا، عبر مسارات أمنية وسياسية، نالت من مكاسب هذه الجماعات التي ترى نفسها قريبة من واشنطن.

بدلاً من بناء تحالفات واسعة لتقليص الهامش الاستراتيجي لروسيا في الشرق الأوسط وأوروبا، قام ترامب بخطوات معاكسة، مثل الانسحاب المفاجئ، وغير المكتمل، من شرق سوريا، ودخول روسيا إلى القواعد الأمريكية التي بنتها واشنطن حول مدينة الرقة، والسماح لتركيا باحتلال شريط حدودي واسع كان تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وكذلك تمكين تركيا من الوصول إلى الطريق الدولي الرئيسية بين غرب سوريا وشرقها.وتهاونت إدارته مع الانزياح التركي إلى روسيا وشراء منظومة «إس 400» حيث تريد إدارة ترامب، عبر مبعوثها إلى سوريا، تطبيق سياسة “إخلاء الساحات” في سوريا والشرق الأوسط، وهذه الساحات يتم إخلاءها – كما في نموذج شرق سوريا – لصالح تركيا وروسيا.

وفق هذه السياسة، لن يكون في المستقبل القريب دور لقوى لا تعلن العداء الصريح لإيران، او لا يكون جزءاً من المحور السني الذي تقوده تركيا.

هناك مقاومة لهذا الخط من داخل الدول السنية نفسها، مثل دولة الإمارات العربية المتحدة والسعودية، ويوفر هذا خياراً ثالثاً قد يتسع قريباً للأطراف التي تريد إحداث توازن في أن تكون خصماً لإيران دون أن تكون تابعة للفضاء السياسي التركي.

تركيا .. وريث إقليمي

يركز الفريق الأكثر نفوذاً المعني بالملف السوري في وزارة الخارجية الأميركية، برئاسة جيمس جيفري، على إحداث توازن يرافق عملية “إخلاء الساحات”، عبر ضبط التعبيرات الفوضوية لترامب بالانسحاب كيفما كان، وجعل العملية أكثر تنظيماً باختيار “وريث” أو “وكيل إقليمي” للساحات التي يتم إخلاءها بدلاً من تسليمها للخصم الروسي.

في الحالة السورية اختار هذا الفريق الأميركي تركيا لتكون “وكيل أملاكها”، ودعمها لتصبح قوة قادرة على إحداث توازن مع روسيا في الشرق الأوسط، في حال استكمال أميركا انسحابها الكبير من المنطقة، وعلى رأسها سوريا والعراق، وحتى في شرق المتوسط وليبيا.

تعمل الإدارة الأميركية على عدم إعاقة المساعي التركية لتكون قوة توازن في أي ساحة تتواجد فيها روسيا. ضمن هذا الإطار، تقوم تركيا، وبجرأة، بانتهاك مبادئ حلف شمال الأطلسي، وتتحدى الاتحاد الأوروبي بشكل يوحي بأمرين: إمّا وجود خلل في العقل الصانع للسياسات، أو داعم عملاق، غير مرئي، لهذه السياسات التي تظهر على لوحة الإعلام وكأنها متهوّرة.

هذه القراءة لا تتفق مع القراءات التي ترى أن أنقرة تقترب من موسكو وتبتعد عن واشنطن. وقد أظهرت أزمة الصدام التركي الروسية في إدلب، مطلع العام 2020، بجلاء حقيقة الموقف الأميركي، وهو أن تركيا وكيل للسياسات الأميركية في “الساحات التي يتم إخلاؤها” في المناطق التي تتواجد فيها روسيا. هذه السياسة “إخلاء الساحات” لم تطبق فقط في سوريا، إنما تجري في العراق وأفغانستان أيضاً. ويتم استخدان تركيا كذلك أداة ضد أوروبا. ففي معظم التحركات التركية المناهضة لمصالح وقيم الاتحاد الأوروبي يمكن توقع أن شخصاً متوارياً في البيت الأبيض يدير عملية ابتزاز أوروبا.

كل هذه العوامل، الانسحاب من الشرق الأوسط، كان يبررها ترامب أن تركيزه يتمحور في مواجهة الصين وليس إهدار الأموال على سوريا وحماية أوروبا، بالتالي فقدت الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي أحد جناحيها، وهو الجناح الروسي، فقد تم إخلاء الساحة أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريا وأوكرانيا وبعض دول شرق أوروبا، فضلاً عن تعزيز القبضة الروسية على فضائها الحيوي السابق في آسيا الوسطى وحتى أفغانستان.

إيران.. تدمير البنية التحتية

لكن حتى ضمن هذه الاستراتيجية الخاصة بالصين، لا يخلو الأمر من مفاجآت. فبالتوازي مع فتح واشنطن للطرق الإقليمية الصعبة أمام تركيا، فإنها تزيد من ضغوطها على إيران بشكل غير مسبوق. ولم تتردد في الإقدام على سابقة تاريخية في العلاقات الدولية منذ تأسيس النظام العالمي الجديد، عام 1945، وهو إعادة فرض عقوبات باسم “الأمم المتحدة” على إيران، والأمم المتحدة نفسها قد رفعت هذه العقوبات بموجب الاتفاق النووي عام 2015.

كما لا يتوانى المسؤولون الأميركيون عن إظهار حزم لا نظير له، تجاه التمدد الإيراني في المنطقة، وتهديدها أمن إسرائيل، وكان الموضوع الإيراني – بحسب مصادر مطّلعة على محادثات الأيام الأخيؤرة قبل الغزو التركي الأخير – واحدة من الأوراق التي فاوض عليها المبعوث الأميركي، جيمس جيفري، مع قوات سوريا الديمقراطية، والقوى السياسية العربية والكردية ذات النفوذ شرقي الفرات، من أجل تجنيد المنطقة التي تديرها “قسد” وتكريسها للحرب ضد إيران، من الخلايا النائمة وحتى قواعدها العسكرية القريبة في الجانب الغربي من الفرات.

فرضية “أمن إسرائيل” تبدو كافية لتفسير التشدد الأميركي تجاه إيران حتى في ظل الاستدارة الاستراتيجية تجاه الصين. رغم ذلك، هناك ما هو أكثر من ذلك أيضاً، يتعلق بالمصالح الاقتصادية الأميركية على المدى البعيد.

فعرقلة المشروع الاستراتيجي الصيني (الحزام والطريق) تقع في قلب الاستراتيجية الأميركية الجديدة. ولإنجاز ذلك، لا بد من منع إيران إنجاز البنية التحتية الخاصة بالممر الصيني القادم من شينجيانغ باتجاه البحر المتوسط، ويمر عبر إيران في محورين، الأول يتجه براً إلى العراق، والثاني ينتهي بحراً على ميناء تشابهار الإيراني. تدمير البنية التحتية الإيرانية يتم عبر العقوبات على قطاعات صناعية منها البتروكيماويات، كما حدث ويحدث في حزم العقوبات الأميركية المتتالية.

وقد يكون في الأمر تناقضاً ظاهرياً حيث ان واشنطن نفسها تتسامح مع المساعي التركية الخاصة بتأهيل بنية تحتية للمر التجاري الصيني الدولي، وتساعدها على إنجاز ذلك عبر تقديم مساعدات أمنية مستمرة لها ضد حزب العمال الكردستاني (الحاجز الثوري الذي وجد نفسه على خريطة هذه الممرات المتوحشة أمنياً)، ومساعدة تركيا على التوغل في الموصل كذلك، للاستيلاء على مخرج الطريق الدولي للموصل وتوجيهها إلى تركيا.

يجري كل هذا التساهل، وفق وجهة نظر أميركية تبريرية، لأن إفشال الجزء الإيراني من الممر يجعل كل ما تقوم به تركيا بلا معنى.

روسيا ضد بايدن

أمام هذا الأسلوب في الإدارة، تشعر روسيا بارتياح أكبر في حال واصل ترامب هذه السياسة، بالتالي من مصلحتها وجود رئيس يقوم بإخلاء الساحات الأمريكية أمام روسيا، وهو بالضبط ما يفعله ترامب وفق ميزان الحسابات الروسية.

هذا التموضع ضد الصين والتقليل من الانشغال تجاه روسيا هو تفسير يبدو أكثر إقناعاً لتقرير قدمته الاستخبارات الأمريكية، في 7 أغسطس/ آب 2020، حول تصورها الأولي لمحاولات الدول الأجنبية التدخل في الانتخابات الأمريكية، واتجاهات هذه الدول أيضاً في دعم أو مناهضة أي من المرشحين.

ووفق تقدير مدير المركز الوطني للأمن ومكافحة التجسس وليام إيفانينا، فإن ثلاث دول مريبة تحاول التدخل، هي روسيا والصين وإيران، وقدّم ملمحاً سريعاً، لكن صادماً أيضاً، ظهر فيه كل من روسيا والصين على النقيض في هذه المسألة.

وخلاصة الاستخبارات كانت أن «إيران تسعى إلى إضعاف الرئيس ترامب. فيما روسيا تستخدم عدة أدوات لتشويه سمعة منافسه الديمقراطي جو بايدن. ولا يمكن استغراب عدم توافق الحسابات الاستراتيجية الروسية عن الإيرانية نظراً لضيق الأفق الاستراتيجي لطهران مقارنة بموسكو على الساحة الدولية، لذلك، فإن ما لم يكن اعتيادياً أن تكون الصين، وفق التقييم الاستخباراتي الأمريكي «تفضّل ألاّ يفوز الرئيس ترامب بولاية ثانية». الواقع أن دعم روسيا والصين لمرشحين متنافسين في الانتخابات ليس اختلافاً بسيطاً، فالرئيس القادم معني بتحديد الوجهة الاستراتيجية الأمريكية تجاه الخارج، ويؤثر خيار الناخب الأمريكي مباشرة على الدول الخارجية الكبرى مثل الصين وروسيا، سواء سلباً أو إيجاباً.

(ينظر: روسيا تدعم ترامب.. والصين تريد هزيمته- صحيفة البيان الاماراتية – 12 أغسطس 2020).لكن في الوقت نفسه، يقوم ترامب بحشد القوة الأمريكية، وأوراقها القوية عبر العالم لمحاصرة النفوذ الصيني، من بحر الصين الجنوبي وحتى القارة القطبية الشمالية. تقوم واشنطن بملاحقة بكين حتى في شريحة الهواتف النقالة، وهي ضغوط زادت وتيرتها منذ تفشي وباء «كورونا»، وأزمة هونغ كونغ، لدرجة بات الضغط على بكين مثيراً للمتاعب بما يهدد المشروع الصيني الإمبراطوري (الحزام والطريق).

لذلك سيكون من مصلحة الصين وجود رئيس أمريكي يعيد ترتيب أوراق الضغط الأمريكية بالتساوي، وبشكل لا تكون الصين الهدف النهائي والوحيد، وهذا الخيار يقود إلى أن أي رئيس غير ترامب سيكون أقل إثارة للمتاعب.

على أبواب الانتخابات الرئاسية في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني، تنكشف المزيد من جوانب التمزق في السياسات الأميركية تجاه الوجهة الرئيسية عالمياً.

ويمكن ملاحظة أن التيار اليميني المتشدد في أمريكا، وحتى حلفائها في أوروبا، لا يرى في روسيا خصماً وجودياً مقابل التركيز على مواجهة الصين في كل مكان.

ضمن هذا الإطار يمكن استيعاب سبب مهاجمة ترامب، بتاريخ 18 سبتمبر 2020، مدير مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي)، كريستوفر راي، لتسليطه الضوء على التهديد الذي تشكله روسيا والميليشيات اليمينية على الانتخابات الأميركية بدلاً من تركيزه على الصين والجماعات اليسارية.

وترامب الذي ارتبطت حملته بعلاقات غامضة مع ناشطين روس عرضوا تقديم مساعدتهم خلال انتخابات عام 2016 التي فاز فيها على هيلاري كلينتون، دأب على انتقاد مسؤولي استخباراته الذين يكررون القول إن موسكو لا تزال تشكل الخطر الأكبر على هذه الانتخابات. والرئيس الذي يواجه معركة صعبة لإعادة انتخابه رئيسا في 3 تشرين الثاني/نوفمبر كرر إصراره على أن “الصين وليس روسيا هي المشكلة الرئيسية”. وقال: “من الواضح أن الصين هي على رأس القائمة.

أنا أرى انه يمكن الحديث عن روسيا وكوريا الشمالية والعديد من الدول، لكن الصين ستكون على رأس القائمة، لذا لا أدري سبب عدم ذكر ذلك”. (ترامب يهاجم مدير ال”أف بي آي” – أ.ف.ب – 18-9-2020).

اتجاهات التوقعات المستقبلية

تتحرك عدة اتجاهات بشكل متوازي في المدى الزمني القريب، ومعظم القوى أعدّت بالفعل استراتيجيات تصلح لأي تغيير في البيت الأبيض. ويمكن إيجازها بعدة نقاط:

A: في حال فوز ترامب:

1- ستكرس الولايات المتحدة مزيداً من الموارد للصراع ضد الصين. وبما أن منطقة شرق الفرات ليست جبهة متقدمة، إنما آخر الجبهات، لمواجهة التمدد الصيني غرباً، فإن المنطقة برمّتها ستتراجع من حيث الأهمية بشكل أكثر من الآن، وهذا يفتح المستقبل أمام خيارات سلبية وإيجابية. سواء ربح ترامب أو بايدن، فإن تنويع الخيارات، وتوسيع التقارب مع القوى القريبة من روسيا، هو الاتجاه الأقرب للنجاة من الحلقة التالية للاضطرابات.

2- تأليب القوى المهددة للوجود الكردي، ضد الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، وذلك عبر الترويج لصفقات نفطية غير مضمونة أمنياً بسبب هشاشة الوجود الأميركي، حيث ان التعبيرات “الترامبية” حول “حراسة آبار النفط” لا تتناسب مع حساسية التعايش السياسي الهش في المنطقة.

3- حرب على إيران، قد تكون ضربة محدودة تستهدف منشآت عسكرية، على غرار عملية “ثعلب الصحراء” الأميركية ضد نظام صدام حسين، أو ضربة واسعة النطاق واشتباك مباشر بين القوتين، وهذا قد يمهد لامتداد المواجهة إلى شرق الفرات والمناطق الحدودية بين سوريا والعراق.

4- عملية عسكرية تركية في إقليم كردستان العراق، تستهدف ممراً حدودياً يفصل بين إقليم كردستان العراق والإدارة الذاتية شرقي الفرات. ووفق هذا المخطط الذي سبق وأعلن عنه مسؤول تركي، عام 2017، يهدف لوضع النقطة الحدودية من معبر إبراهيم الخليل إلى منطقة تلعفر، وهذ المخطط الذي يبدو ان أطرافاً رئيسية في إقليم كردستان العراق تتعاون لتنفيذه أو تبدي استعدادها لتقديم تسهيلات، كفيل بخنق الإقليم نهائياً عبر عزله عن الممرات الحدودية مع سوريا وتركيا، وإبقاء منافذ إيران فقط، كما من شأن هذا المخطط محاصرة شرقي الفرات و”روجآفا” والتحكم بالمنفذ التجاري الأول لهذه المنطقة.

5- اتساع نطاق المواجهة الأميركية الصينية، لدرجة قد تصبح كافة الأزمات الأخرى هامشية في التوازنات الدولية، إلا في حال نجح “قادة الأزمات” على جانبي الصراعات الإقليمية من الركوب على الصراع الكبير العالمي، الصيني الأميركي. وحذر الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيريس، في خطابه أمام الجميعة العامة للأمم المتحدة، بتاريخ 22 سبتمبر 2020، من “شق كبير بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، وقال: “لن يتحمل عالمنا مستقبلا يقسم فيه أكبر اقتصادين الكوكب إلى نصفين، لكل منه قواعده التجارية والمالية وشبكة الإنترنت وقدراته في مجال الذكاء الاصطناعي”.

B: فوز بايدن

أما في حال هزيمة ترامب وفوز بايدن، فإن الفرضيات المتوقعة لن تكون أوتوماتيكياً معاكسة للتوقعات السابقة.

فبعض الخراب الذي أصاب السياسات الأميركية التقليدية لا يمكن إصلاحها بقرارات رئاسية، لكن يمكن توقع بعض الملامح، وهو أن بايدن يمثل التيار المؤيد للعولمة، على عكس ترامب وبوتين وأردوغان واليمين المتطرف في أوروبا. وهذا لا يعني ان تيار العولمة لا يضم حكاماً مستبدين، فالاستبداد يملأ المعسكرين معاً، لكن يمكن توقع بدء عملية إعادة إصلاح الاستدارة الأميركية العنيفة تجاه الصين، وملء ثغرة “إخلاء الساحات” أمام روسيا، واستغلال تركيا هذا الإخلاء، حتى لو كان الوكيل مطيعاً، مهذّباً تجاه واشنطن، على شاكلة تركيا، وهذا سيؤدي إلى أن تتنفّس إيران بعض الشيء، وتكبح تركيا اندفاعتها العثمانية ضمن الحدود التي بلغتها حتى الآن، وتأجيل التوسعات غير المنجزة.

C: اضطرابات داخلية

إلا أن هزيمة ترامب قد تتحول إلى أزمة داخلية أميركية مديدة وتعطل السياسة الخارجية للحزب الديمقراطي. فمخاوف الحرب الأهلية باتت تذير ذعر فئة واسعة من الأميركيين بسبب الكم الهائل من الأخبار التحريضية الزائفة، والتي قد تتحول إلى اضطرابات تنشغل بها أميركا ردحاً من الزمن، لتتولى الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي ترتيب العالم على أسس جديدة.

في الحالتين، او الحالات الثلاث (فوز ترامب – هزيمة ترامب – اضطرابات داخلية أميركية)، فإن انعدام اليقين يفرض نفسه على كافة اللاعبين، الكبار والصغار. ويبدو أن من بين الدول الإقليمية، تمتلك تركيا خططاً للاحتمالات الثلاثة.

أما بقية الأطراف، فإن تقليل فرص خوض حرب مفتوحة أو جزئية في المستقبل القريب، يعد الخيار الأقل مخاطرة ضمن الصورة القاتمة لمستقبل العلاقات الدولية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد